تبدأ الحكاية دوما بمكالمة أو رسالة عبر البريد الإلكتروني، تبدأ الحكاية دوما بعبارات الإطراء والانتصار لما قد تكون مدمنه من حرف و سؤال، و كما كل الحكايات المغربية، يكون البدء في العمر الميت من الاشتغال، يأتيك الصحافي طالبا "خدمة" غير مدفوعة الأجر طبعا، و ما عليك إلا أن تجيب على وجه السرعة والدقة، وليس في مقدورك الاعتذار أو إبداء التبرم من مواضيع أشبعت درسا، أو أنها تدخل في خانة الترف الإعلامي. "" يرن الهاتف، عبارات برتوكولية مجاملاتية في البدء، و إطراء غير مبرر، علما أن المتصل لم يقرأ لك كتابا واحدا من تأليفك، ولن يقرأ حتى التصريح الذي تمده به، سيمطرك بعبارات لا معنى لها، وسيطلب منك تصريحا في حدود 300 أو 500 كلمة بخصوص كذبة أبريل أو عيد الحب أو عيد الأم وغيرها من المواضيع الملساء، وعليك أن تكون في مستوى الطلب، وأن تكون متعاونا، وألا تطلب منه تسجيل التصريح عبر الهاتف، أو في لقاء مباشر، فتحرير المادة وإرسالها عبر البريد الإلكتروني سيعفيه من تفريغ شريط التسجيل ورقن المعطيات. وعلى ذكر "التعاون" فالمفروض فيك كباحث في علم الاجتماع أن تدلي بدلوك في كل المواضيع، و أن تتنكر للدرس الأثير الذي علمنا إياه الراحل بيير بورديو و هو يقول: "إذا كان على كل كيميائي أن يحذر الخيميائي الذي يسكنه، فعلى كل عالم اجتماع أن يحترز من المصلح الاجتماعي الذي يسكنه والمطالب بتجسيده من طرف جمهوره"، لهذا سيأتيك أحد "المحبرين" كما يصفهم العزيز مصطفى حيران، طالبا منك رأي علم الاجتماع في كذبة أبريل أو احتفالات رأس السنة أو طرق التعامل مع المرضى... وفي اللحظة التي تعتذر فيها بلباقة وتقول له بأنك تشتغل وفق مشروع، وعلى أسئلة محددةتتوزع على سوسيولوجيا السياسة و الحركات الاحتجاجية و سوسيولوجيا الإعلام و الاتصال في مستوى أخير، فإنك لن تجد التفهم جوابا، بل الامتعاض أو الإصرار على ترشيح زميل آخر يهتم بهكذا موضوع. تبذل جهدا آخر من غير شك لتوضح أننا في قبيلة علم الاجتماع، وعلى قلتنا، نشتغل ضمن مشاريع محددة أملا في الفهم، وأساسا من مقترب الانتقال من سوسيولوجيا العناوين الكبرى إلى سوسيولوجيا الدقة وتفاصيل التفاصيل، ولا بأس هنا أن تذكر المتصل بأن عبد الصمد الديالمي مثلا يشتغل على الجنس وإدريس بنسعيد يهتم بسوسيولوجيا السياسة والصحة وأن المختار الهراس ينشغل بسوسيولوجيا الأسرة والتحولات القيمية وأن مصطفى محسن ينتصر للمسألة التربوية ونور الدين الزاهي يهتم بالمقدس وانفتاحات الأنثروبولوجيا، وأن هؤلاء جميعا و غيرهم، من آل السوسيولوجياالعلمية لا العفوية، يعانقون الأسئلة الكبرى والصعبة، و شتغلون في إطار مشاريع علمية لا تقبل بالسرعة، فتماما كما الأطعمة الجيدة تنضج على نار هادئة، فالفكرة لديهم لا تولد إلا من رحم التأمل النقدي و المراس الفكري. لكن "سعادة" الصحافي المتصل لا يريد سماع هذه التوضيحات، يريد فقط تصريحا يدبج به مادته قبل موعد "البوكلاج"، فلا داعي للتوضيح، بل يرجى منك إنهاء المكالمة، حتى يستطيع الظفر براغب آخر في الظهور الإعلامي، علما بأن كثرة الظهور تقتل، وسيجد بالطبع من لا يجد حرجا في التحدث عن أتفه التفاهات، بمقاربة تسمى خطأ واعتسافا بالسوسيولوجية. لكن في اللحظة التي يتقاطع فيها الموضوع مع انشغالاتك المعرفية، و تريد أن تسهم، في إثراء النقاش، وتتحمل نيابة عنه مسؤولية التفريغ والرقن، وتمده بالنص والصورة، وتطلب من سعادته أن يذكرك بموعد النشر حتى تستطيع الاطلاع على مساهمتك، فمن المؤكد أن الصمت هو رفيقك وجوابك، فالجحود صناعة صحافية مغربية، وما أن يستلم الصحافي تصريحك حتى تنتهي العلاقة بينكما، ولا يمكنها أن تعود إلى سابق دفئها وتحياتها البروتوكولية إلا مع الحاجة إلى تصريح جديد. ما دون ذلك، ما عليك إلا أن تعول على أفراد عائلتك ومعارفك الذين قد يطلعون على مساهمتك بقوة الصدفة، ليرسلوا لك رسالة قصيرة على الهاتف، مخبرين بموعد الصدور وموطنه، أو أن تنتظر مكر الصدفة مرة أخرى لتجد نفسك على صفحة معدة لتغليف النعناع الذي قد تشتريه. وحتى في اللحظة التي يقع فيها الصحافي في خطأ مهني، كأن يحور كلامك أو ينسبه لشخص آخر، مسيئا للشخص الآخر الذي يحسبه الناس "سارقا أدبيا"، منتجا بالخطأ لتناص فوق العادة، فإنه لا يكلف نفسه بالاعتذار، وكأن الأمر لا يستحق، لأن المهم بالنسبة إليه هو أن تلك المادة صارت تنتمي إلى الفائت، و أن الأهم بالنسبة إليه هو عدد الغد و قلق "البوكلاج". هناك من آل علم الاجتماع بالمغرب من أصبح يشترط دفع المقابل من أجل تقديم تصريح أو حوار، فقد أخبرني أحد هؤلاء المطالبين بأجر لقاء تصريح، أن الصحافي ذاته يأخذ أجرة عن عمله، فالراقن والمصحح والطابع والناشر والموزع، كلهم يأخذون أجرة، فلماذا يكون صاحب التصريح بلا أجرة؟ ويمضي صاحبي موضحا بأن "مسألة التصريح بمقابل معمول بها في الضفة الأخرى كما في البلاد العربية، بل إن هناك من الصحف والمجلات المغربية من تعمل بها"، مضيفا بأنه ليس هناك من التزام إيديولوجي يربطه بهذه الجريدة أو تلك، ولا مبرر لكي يتطوع ويكتب معها بالمجان، فالظهور لايعنيه في شيء. صديقنا السوسيولوجي لما رفع يافطة الأداء المسبق، ارتاح من المكالمات التي لا تنتهي و انصرف إلى مشاريعه الفكرية وقراءاته المعلقة، فكان في قمة الإنتاج، بل إنه ارتحل إلى لغات أخرى يحاور فيها ومن خلالها أسئلة المجتمع. فلم يعد يزعجه أشباه الصحافيين بأسئلتهم الملساء ومواضيعهم المترفة أو التافهة، إنه ينفق وقتا بهيا في القراءة والبحث الميداني والكتابة للمستقبل، وليس لهذا الراهن الجاحد. ليست الصحافة المغربية في جميع تفاصيلها بهذا الملمح من الجحود، فهناك عشرات المهنيين الذين يحترمون نبل المهنة، و لا يطلبون منك حوارا إلا بعد أن يكونوا قد اطلعوا على مجمل كتبك، هناك العشرات من الصحافيين المثقفين الذين يشكرونك بمجرد توصلهم بالمادة و يعلمونك بموعد صدورها، بل و يرسلون إليك نسخة من العدد ورقيا و إلكترونيا. هؤلاء الكبار الذين يفرضون عليك احترامهم بمهنيتهم وأخلاقهم العالية، هم الذين يجعلونني أستمر في "التعاون" مع بعض الصحف والمجلات، أملا في توسيع دوائر النقاش والبحث عن المعنى، بالرغم من كل هذا الجحود الذي يبدو أنه صناعة صحافية مغربية. *كاتب وباحث سوسيولوجي http://aelatri.maktoobblog.com