هي ظاهرة إعلامية بكل ما في الكلمة من معنى.. لكنها، ظاهرة إعلامية بالمعنى الأمريكي، الذي يتأسس على خيار الإثارة. أوبرا وينفري، تلك السيدة الأمريكية السوداء، القادمة من تخوم التحدي للميز العنصري الذي طوح ولا يزال ببلاد إبراهام لينكولن، لا أستطيع ( لأول مرة أتحدث بصيغة « الأنا » المباشرة في هذه الزاوية ) صراحة الإدعاء أنني أتفاعل معها، أو مع صيغها المهنية في تقديم برامجها التلفزيونية، لأنها عنوان كامل للصناعة الأمريكية في الإعلام. ولأنها ليست نجمة بتلك الصيغة التي تجعل النجوم تبرق لما فيها من ضوء معرفة ومعدن مهنية داخلي خالص، بل هي نجمة اصطناعية بكل المقاييس.. غايتها الأكبر الإستهلاك، وبيع سلعة إعلامية من خلال توابل فيها بعض من الإدعاء، بعض من الإفتعال، وكثير من الإثارة. لكن، هذا كله لا يلغي أنها اليوم ظاهرة إعلامية أمريكية كاملة، وأنها بدأت تتحول إلى ظاهرة إعلامية عالمية. الحقيقة أنه لا يمكن فهم خصوصية السيدة وينفري، التي يتسابق على برنامجها التلفزيوني الواسع الإنتشار، نجوم السينما والسياسة والمجتمع والموسيقى في بلاد جورج واشنطن ( وباراك أوباما )، دون فهم خصوصية ما يمكن وصفه ب « المدرسة الصحفية الأمريكية »، التي تراكمت على مدى 250 سنة، منذ بدايات صحف مدينة « بوسطن » ( أقدم المدن الأمريكية وأقدم ميناء كان يربطها بالقارة العجوز أروبا )، حتى صحيفة « يوزا توداي » بواشنطن، الواسعة الإنتشار داخليا اليوم. إن من أهم خصوصيات هذه المدرسة، هي أنها تتأسس على مبدأ الإثارة بغاية الإكثار من الزبناء وتحقيق الربح المادي الذي يأتي به الإشهار، وذلك لأنها ولدت أساسا منذ البدايات الأولى كمشروع تجاري محض. على عكس التجربة الأروبية، سواء في ألمانيا، حيث ولدت الصحافة. أو في فرنسا وإنجلترا، حيث اكتسبت هويتها كمشروع سياسي وكخدمة عمومية وكأداة حاسمة للتصارع من أجل تكييف وصنع الرأي العام سياسيا. وهي التجربة الأروبية، التي تطورت مع توالي السنوات لتنتج لنا ما أصبح يعرف ب « صحافة الخبر والرأي ». المثير، أنه في كل المدارس الصحفية المهتمة والمتخصصة في تاريخ الصحافة العالمية، هناك إجماع حول حقيقة تاريخية، وهي أن الصحافة الأمريكية ولدت أول ما ولدت في « الحانات »!!. لأنها ولدت كمادة للإستهلاك تحقق الربح المالي، وولدت كخدمة خاصة تأتي بالثروة وبالمال. بل إن من القصص المثيرة في هذا الباب، هي أن من أولى الصحف الكبرى في أمريكا، صحيفة شهيرة كانت تصدر ببوسطن لرجل إسمه « السيد كيمبل »، قبل استقلال الولاياتالمتحدة عن التاج البريطاني سنة 1775. لقد كان هذا الرجل يمتلك مؤسسة للبريد بمدينة بوسطن ( وهذه خصوصية في التسيير العمومي بأمريكا لا تزال قائمة إلى اليوم، حيث كل الخدمات العمومية حرة ومفتوحة للإستثمار الخاص، بما فيها الأمن والبريد والتعليم والصحة والنقل وغيرها... )، وكان يربح مالا محترما من توفيره خدمة البريد تلك لمن هو في حاجة إليها، ينقل الرسائل والودائع والمسافرين أيضا عبر جغرافيات العالم الجديد. ثم في لحظة ذكاء تجاري، انتبه أن الناس في حاجة إلى « الأخبار »، فكان أن قرر فتح الرسائل التي يتسلمها مكتبه البريدي، وأن يقرأها وينقل المعلومات والأخبار المتضمنة فيها، ثم يعيد إغلاقها قبل أن يوصلها لأصحابها، وشرع في إعادة ترتيب وتحرير تلك الأخبار، ثم شرع في طباعتها في أوراق مستقلة ويعرضها للبيع ضمن خدماته البريدية. فولدت تجربة صحفية غير مسبوقة في أمريكا وفي العالم. بعد تجربة « السيد كيمبل » ستدخل أمريكا مرحلة ما يعرف في تاريخ صحافتها ب « مرحلة مدراء البريد »، لأن الجميع قلد التجربة الناجحة تلك، ماليا وتجاريا. ثم تلتها ما يعرف ب « مرحلة الطباعين » أي أصحاب المطابع، الذين استثمروا مباشرة في الصحف وأصبحوا يتحكمون فيها كمشروع تجاري مربح،، وهكذا، ظل التنافس قائما حول من يبيع أكثر، حتى يستحوذ على سوق الإعلانات أكثر. وفي هذا الخضم التجاري المحض، كانت السبيل هي ابتداع أسلوب صحافة الإثارة، التي غايتها إمتاع الناس وجلبهم إلى قارات العجائبي والمفارق، وهذا كله هو الذي صنع الذهنية الأمريكية الخاصة التي يشاهدها العالم اليوم، المتأسسة على الإنبهار بكل ما هو ممتع، لحظي، استهلاكي.. بمعنى آخر إن المعنى الثقافي العام للوجود الأمريكي له جذوره التاريخية والسلوكية. لنعد إلى السيدة وينفري.. لا تخرج هذه الإعلامية الأمريكية النجمة اليوم، عن هذا السياق العام المؤطر للتجربة الصحفية الأمريكية. لكن خصوصيتها المميزة حقا، أنها صادرة كتجربة إنسانية من محنة اجتماعية، هي محنة « العنصرية والتمييز » التي عاشها المجتمع الأمريكي على مدى قرنين من الزمان ( ولا تزال قائمة في بعض الولايات والعقليات الأمريكية إلى اليوم ). لهذا نجدها تكاد تكون الوحيدة التي تزواج بين الإعلام كأداة استهلاك تجارية وسيلتها الإثارة والإغراء، وبين الموقف السياسي والإجتماعي الذي الإعلام مؤهل بشكل هائل للعبه في المجتمعات المدينية الحديثة. من هنا تميزها في التعامل مع انتخاب الرئيس الأمريكي الجديد « باراك أوباما »، بل ومشاركتها الحاسمة في إعطاء تأويل إنساني وسياسي ونضالي لحفل تنصيبه، مما أنهكها حتى جسديا، لطول ذلك الإحتفال زمنيا. ثم أيضا، الدور الذي أصبح يلعبه برنامجها التلفزي في تأطير الناس عبر أمريكا للقيام بأعمال إجتماعية إصلاحية هائلة وحاسمة بشكل ملموس في الميدان. مثل، تجربة بناء المدارس والثانويات الإصلاحية للمنحرفين من أبناء أحياء الهوامش وأبناء السود. وكذا تجربة بناء مؤسسات صحية للرعاية للفقراء وللمسنين. مما حولها من سيدة إعلام، إلى مُصْلِحَةٍ إجتماعية. وهنا في هذه اللحظة فقط، نقلت - بوعي منها أو بدونه - دور الإعلام الأمريكي من مشروع تجاري للربح إلى خدمة عمومية، ووسيط في نسج أسباب الإصلاح وتوجيهه في المجتمع الأمريكي، وهذا دور سياسي كامل وواضح. لكنه انتقال ظل مغلفا بذات التقنيات الأمريكية من حيث الأسلوب والشكل، الذي يتأسس على « المسرحة » وأحيانا كثيرة على الزعيق والإفتعال في العواطف والمواقف. لهذا السبب، يستطيع المرء القول، إنه يحب نتيجة عمل « السيدة وينفري » مجتمعيا، لكنه « يتقزز » من طريقتها الهوليودية في طريقة الوصول إلى تلك النتيجة. لتبقى في النهاية أنها ظاهرة أمريكية أخرى مثل ظواهر عدة، تظهر وتذوب لأنها ليست تجربة ذات ركائز مؤسساتية. لأنه أكيد، حين ستختفي « السيدة وينفري » ذات يوم، ستختفي الظاهرة الإعلامية تلك بكل ما لها من إيجابيات، وسيبقى فقط البناء العام المتأسس على روح الربح التجاري و.. « الإثارة »..