كتب الرفيق عبد الغني القباج رداً على مقالتي «لكي لا نخطىء الهدف..». أشكره على اهتمامه بهذه المقالة. وأأسف، معتذراً، لأني لم أتمكن، لظروف شخصية، من قراءة رده إلا مؤخراً. ورغم أن الآلام تعصرني، وأنا أكتب ردي هذا في أوج الهجمة الهمجية للعدوان الاسرائيلي، والتي ينبغي أن تفرض علينا اهتمامات وأولويات أدبية أخرى، أقلها مواجهة تلك الشرذمة التي تطل علينا هنا أو هناك، ذات الأصوات المشروخة، والتي تسخر من صمود الشعب الفلسطيني المقاوم، وتتهكم على الحركة الجماهيرية العارمة المتضامنة معه، بدعاوي الحداثة والديمقراطية، وغير ذلك من راياتها المزيفة، بينما هي مثال «للظلامية الحداثوية» التي لا تقل ضرراً عن نقيضها الشكلي الظلامي التقليدي، لأن الشيء إذا زاد عن حده، انقلب الى ضده، كما يقال، لأن شدة النور إذا فاقت الحد، فهي الأخرى تعمي الأبصار. لكني رغم هذه الظرفية المؤلمة، ورغم واجبها الأدبي الذي سوف نعود إليه، فإني أتمنى أن يبقى لهذا الرد بعض الفائدة، وإن جاء متأخراً وفي وقت غير مناسب... وفي البدء، أصارح الرفيق العزيز، إني حاولت جهد فكري أن أمسك جيداً «بالخلفية المنطقية» التي تحكم كل ما جاء في المقالة من تقييمات ومواقف وتصورات وأحكام قيمة.. لأني أعتقد دائما أن الخلاف في نسبية هذه القضية أو تلك ليس مشكلا في حد ذاته، بل هو من طبيعة الأمور. إذ لا وجود على وجه الإطلاق لتطابق تام بين رأيين في أية قضية حتى ولو كانا من فصيلة واحدة. هكذا الواقع دوماً. المهم إذن، أن يكون الاتفاق بيننا، ولو بصورة مبدئية، على ما أسميه «بالخلفية المنطقية» كي لا أستعمل مصطلحات أخرى قد تبدو أكبر حجما وأوسع شمولا من نقاشنا هذا.. وفي هذا الصدد بالذات، فإن المسألة الرئيسية التي أعيبها على المنطق اليساري عموما (وأنا أحسب نفسي منه) أنه يمثل وعيا فقير القوامية المادية. فهو يجنح دائماً إلى اختزال تناقضات الواقع الغنية والمتنوعة والمركبة والمتغيرة في مقولة مَّا من مقولات «الواقع»، ودون أن ينتبه إلى أنها هي نفسها وبالأصل مقولة فكرية، تتسم كأي مقولة فكرية بالتعميم والتجريد، وتحتاج بالتالي الى متابعات تحليلية مستمرة لمجراها في تناقضات وتراكمات الواقع العيني. والمفارقة هنا، أن أصحاب هذا المنطق يزعمون أنهم ماديانيون، بينما هم ينزلقون في النتيجة إلى مواقع مثالية بالمعنى الماركسي للكلمة، بل يتقوقعون في أشدها بؤساً وفقراً. كم ردَّدنا في الماضي السبعيني تلك المقولة الفلسفية اللينينية الذائعة الصيت وقتذاك «التحليل الملموس للواقع الملموس» أو«للموقف الملموس... لا فرق عندي بين التعبيرين»... وسيرى القارىء هنا، وفي غير هذا المكان، أني أتعمد مراراً العودة الى المتن الماركسي كلما كان ذلك ضروريا، لأني ألاحظ، أن جل مثقفينا باتوا يخجلون، أو يسخرون، من مثل هذه العودات والإحالات، فالصيحات الفكرية المعاصرة في ظنهم قد جبَّت وتخطت كل ما في المتن الماركسي، ناهيك عن السقوط المدوي لتجارب نسبت نفسها إليه. مع أنه ليس في حوزة «ممتلكاتهم» الخاصة وكما نعرف بالملموس نقد فكري جدي لا للمتن ولا للتجارب الساقطة. ليس هذا موضوعنا. فمخاطبي حسبما أعتقد ليس من هذا الطراز. ولذلك أسأله، هل طرح على نفسه يوما ما الأسئلة التالية: ما معنى أن يكون التحليل ملموساً؟! وهل الواقع مادة ملموسة؟! وفي هذه الحالة، ما معنى الواقع؟! كل الرد الذي سأقوم به ينتظم ضمن سياق هذه الأسئلة، وسيتطرق للقضيتين التاليتين: أولا: الإطار التاريخي: حاول الأخ القباج أن يؤطر نقده بقراءة لتاريخ الصراع السياسي في بلدنا. جوهرها: أن هذا التاريخ الذي أفضى للحاضر المأزوم الذي نعيشه، قام على استبعاد مستمر للمشروع الديمقراطي الحق.. وبداهة، أننا لا نطالب من مقالة موجزة بالضرورة، أن تمدنا بتفاصيل كاملة، أو حتى كافية عن هذا التاريخ. غير أن وجهة تحليله، أو بالأحرى منطق تحليله واضح وتام بما فيه الكفاية، ويتمثل في كلمة واحدة «استبعاد» مستمر، انتهى في المحصلة إلى أن الملكية حافظت على جوهر النظام السياسي «الاستبدادي»، وإلى أن القوى الديمقراطية انتقلت من «وعي ديمقراطي» ملتبس وغير واضح، مع أنه لم يشكل «جوهر الصراع السياسي» الذي ظل صراعاً على السلطة وحسب... انتقلت إلى الإذعان في ممارسة «توافقية» أجلت من جديد «المشروع الديمقراطي» فحافظت على الطبيعة الاستبدادية للنظام السياسي بكل ما يجره ذلك من ويلات اقتصادية واجتماعية ومن تكبيل للطاقات الجماهيرية الديمقراطية الكامنة. هذه باختصار شديد الفكرة الجوهرية لمضمون تلك القراءة التاريخية. ليس من الضروري أن نناقش من جهتنا صوابية تلك المحصلة، ولا أن نعطي تشخيصا مضاداً لمسارها لدى طرفي المعادلة، سواء لدى الحكم، أو لدى القوى الديمقراطية. فالمسألة كلها في نظرنا مكثفة منطقيا في عبارة قد تظنها عابرة وما هي بعابرة، عبارة «الاستبعاد» وهي من وزن «استفعال» التي تعني إحداث الفعل بإرادة واعية وتامة للفاعل. هكذا، يصير «الصراع» في مجمله مجرد لعبة إرادات منفلتة من أي إكراه موضوعي، وظيفتها الواعية والوحيدة «أن تستبعد المشروع الديمقراطي الحق»!! فهل يجوز لنا بعد كل هذا أن نُسمي ما جرى في المغرب «بالصراع الطبقي»، أما كان بالأحرى مجرد تواطؤ استراتيجي؟! واذا كان كذلك، فلماذا كان هذا التواطؤ، وماهي اسبابه الماديانية؟ لا شيء في المقالة يقدم لنا تحليلا او تفسيرا لهذا «الواقع» سوى القصور والالتباس في الوعي الديمقراطي لدى اطراف المعارضة اليسارية، و تعلقها بالاحرى بالسلطة، ودخول مفاجئ لقضية الصحراء التي ادت الى اجماع غير مفسر بدوره والذي طوعته بعض القوى الى توافق. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، قدرة الحلم الخارقة على فرض ما يريده، ربما بفضل ذكاء نظري موروث يبرر ويميز مساره!! هكذا، يضع الكاتب الكاتب بهذا المنطق كل الخمسين سنة الفارطة على هامش التاريخ الحق الذي سيبدأ فقط يوم نتفق على دستور يجعل الملك «يسود ولا يحكم» في تعاقد اجتماعي ديمقراطي صريح ونهائي. اما ما عدا ذلك فهو هدر تاريخي لا ضرورة له، ولا قيمة ديمقراطية له!! نحن اذن أمام وعي فقير القوامية المادية، بل أمام وعي تاريخي مثالي شديد الفقر ايضا، رغم كل الاشارات الطبقية التي توحي بالعكس. هناك قضية لابد من تدقيقها لأنها بعد ان اضحت قناعة عامة، وظفت في المقالة توظيفا تاريخيا سيئا وفي غير محله.