من صنع المغراوي؟ يأتي السؤال الأهم: كيف أمكن لشخص، مثل محمد المغراوي، أن يتضخم ويتسرطن ليصبح «ظاهرة» تَشَغل أم الوزارات، وتتضارب حولَها مواقف الفرق البرلمانية، ويفقد معها المجلس العلمي الأعلى توازنه اللغوي؟ كيف أمكن أن يقع ذلك في دولة بوليسية، مثل المغرب (دولة تولي الردع ما لا توليه للتربية والتعليم من العناية) تلك حكاية طويلة، ولكن لا مناص من الإمساك ببعض خيوطها. استفاد المغراوي والحركة الأصولية في المغرب عامة من الصراع بين المعارضة اليسارية والنظام الحاكم، المخزن. كل التحولات والصراعات التي عرفها المغرب طوال نصف قرن تؤكد أن الملك الراحل، الحسن الثاني، اقتنع، منذ البداية، أن التعاون مع المعارضة الاشتراكية ذات النزوع التحرري القومي خيارٌ يتعارض مع تصورهٍ للحكم. ذلك التصور الذي لخصه وزيره الأول، ووزير خارجيته، أحمد العراقي في جوابه عن السؤال التالي: «هل كان الحسن الثاني ديموقراطيا؟» إذ جاء الجواب على هذا الشكل: «نعم، كان ديمقراطيا على طريقته. كان لا يقبل تقاسم السلطة» (نشرته المساء عن Le soir). نكتفي في هذه المناسبة باستثمار الجملة الأخيرة من الجواب: «لا يقبل تقاسم السلطة». إذ الديمقراطية هي تقاسم السلطة وتداولها. لذلك سارت سياسة المخزن، طوال خمسة عقود في مسارين: المسار الأول هو مسار «سفك الدماء»، مسار القمع المباشر الذي أوصل إلى العشرات من أحكام الإعدام والمؤبد والمعتقلات السرية والعلنية التي أزكمت العالم بنتانتها، والمسار الثاني هو مسار تزييف القيم والمعاني وإفساد الرجال: صناعة الخدم المتملقين. وهذه صناعة ما تزال، مع الأسف، مزدهرة، بل صارت سائغة مسوغة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقد أنجز العمل في المسار الثاني وهو الذي يهمنا الآن في واجهتين: واجهة صناعة الأحزاب (مواجهة السياسي الطبيعي بالسياسي الاصطناعي)، وواجهة الاحتماء بالمقدس وتحريك الدين في مواجهة الحداثة والفكر الديمقراطي. فهو يصنع الأحزاب من أجل الصراع الديموقراطي شكليا، كواجهة للاستهلاك الخارجي، ثم يحرك المقدس من أجل عرقلة ذلك الصراع. من الإجراءات التي اتخذت في هذا المجال، أوائل العقد السابع من القرن العشرين، محاربة الفلسفة وعلم الاجتماع لصالح ما سمي فكرا إسلاميا، ففي غمرة ذلك فتحت شعبٌ للدراسات الإسلامية بكليات الآداب بشكل تعسفي، دون إعداد الأطر الكفأة لذلك، فتم مَلءُ الفراغ بما تيسر من مدرسي الأدب العربي، قلة منهم لها ميول دينية وأكثرهم عاجزون معوقون، لم يستطيعوا أن ينحتوا لهم مجرى علميا في تخصصاتم الأدبية واللغوية التي أفنوا فيها أعمارهم، فأحرى أن ينتجوا شيئا مهما كان في مجال الدراسات الإسلامية التي لا صلة لهم بها، سطوا عليها كما يُسطى على المال السائب. ولا بد من الإشارة هنا إلى الدور الذي لعبه حزب الاستقلال في حضانة بيض الغراب الذي صار الآن يتشاءم من فراخه. في إطار هذا النهج التمييعي العقيم، وتبعا لأوضاع سياسية واقتصادية صعبة (مع حرب الصحراء خاصة)، أُطلقتْ يدُ الوهابيين لاكتساح الساحة الدينية على عهد إدريس البصري وعبد الكبير المدغري وزيري الداخلية والأوقاف، على التوالي. وهكذا صار ممكنا لمحمد المغراوي أن يمول المدارس الدينية انطلاقا من مدينة مراكش، حيث مقر الجمعية الأم، وصولا إلى طنجة وتطوان، في أقصى الشمال، وأكادير، في أقصى الجنوب. وهو ليس أكثر من الجزء الظاهر من جبل الجليد، فهناك أشخاص آخرون يعملون في نفس الاتجاه بدون ضجيج تاركين مهمة التعبئة الميدانية لمن يتسلم بضاعتهم جاهزة للتشكيل، وذلك في إطار خطة واعية لتوزيع الأدوار. وقد عاينا ذلك في مدينة فاس وامتدادها في وجدة وتطوان خلال الثمانينيات، سواء من خلال الدعم والإغراءات الموجهة إلى الطلبة المستقطبين، أو من خلال إنشاء المدارس والمساجد الموجهة، أو من خلال توزيع كتب المذهب من طرف المؤسسات العمومية نفسها. أذكر شخصيا أني تلقيت استدعاء من قسم الإقتصاد بكلية الآداب بفاس خلال الثمانينيات لتسلم نسخة من فتاوى ابن تيمية (36جزءا) وعندما تسلمتها سألت عن حيثيات ذلك، فعلمتُ أن هناك لائحة طويلة اقترحها أحد الأقطابِ من «المؤلفةِ قلوبهم»، وكان يعتبرني واحدا «من خيار الجاهلية» المنتظر أن يكونوا خيارا في الإسلام على يده، مادام قد آمن قلبي، كما يقول لأتباعه. وقد سبق لي سنوات قليلة قبل ذلك أن وجدت كتاب «التوحيد» للشيخ محمد بن عبد الوهاب بين يدي الوالد، رحمه الله، فعلمت منه أن أطنانا من تلك الكتب وزعت مجانا في منطقة ورزازات. ومن المعلوم، اليوم، أن التحالف ضد اليسار (القومي الاشتراكي) بين المخزن والحركة الإسلامية الناشئة، تحت رقابته، كان قد انتهى إلى توريط الإسلاميين في جريمة نكراء بشعة. جريمة ما زالوا يجرون ذيولها إلى اليوم، هي اغتيال القائد اليساري الديناميكي عمر بنجلون. كان عمر، رحمه الله، قد برز في لحظة من أشد لحظات الصراع شراسة، دافعا بالفكر اليساري نحو الممارسة السياسية والنقابية، عاملا على ترميم المعارضة اليسارية. لحظةٍ كان المخزن فيها جريحا يعاني من مشاكل متعددة بعد المحاولتين الانقلابيتين واندلاع قضية الصحراء. ولعل الإسلاميين كانوا ينتظرون، أو أُوحِي إليهم، عن طريق عرابهم المتوغل في دار المخزن، أن تلك الجريمة ستسجل ضد مجهول. غير أن خيوطها أفلتت من بين أيدي المتآمرين كما يقع في كل الجرائم الكبيرة ففضل المخزن أن يضرب عصفورين بحجر واحد، مضحيا بجناح من الإسلاميين واضعا الجناح الآخر في جيبه، تحت مجهر الحرج، في انتظار وضعه على السكة من جديد ليقود نفس القافلة. وهكذا يعود الدكتور الخطيب، بعد عقود، إلى الواجهة مرة أخرى. لقد حاولَ في برنامج «الشاهد» الذي بثته القناة الأولى المغربية في الفصل الأخير من 2008 أن يبعد الشبهة عنه في مقتل عمر بنجلون، ولكنه لم ينف أية شبهة من الشُّبه القوية المثار حوله، بل ربما وجد المحلل في ملامحه ولحن خطابه، والطريقة التي عالج بها المسألة عامة، ما يقوي الاحتمال المراد صده. بالأمس (06.01.2008) نشرت الجريدة الأولى حوارا مع أمِّ المعتقل الإسلامي حسن الكتاني وردت فيه عبارة شديدة الدلالة على الموقع المخزني الذي ظل الدكتور الخطيب، إلى تلك اللحظة، يتبوؤه. الموقع الذي يجعله يتحدى العدد الغفير من ضباط الشرطة الذين كانوا يحيطون ببيته قصد اعتقالِ متهمٍ بالإرهاب يحتمي به، قال الخطيب: «لولا أن جلالة الملك طلب تسليمه لما استطاعت قوة أن تأخذه». لا شك أن هذه العبارة قد منحت مرات عديدة كوعد لقاصدي حماية الخطيب. وقد مات النعماني دون أن يبوح بسره. لقد اصطدمت قناة الحركة الإسلامية الناشئة بتلك الجريمة النكراء، فتشعبت قِدَدًا إلى أن سطع نجم عبد السلام ياسين في لباسِ صوفية سياسية مناهضة لنظام الحكم الوراثي «الجبري» «العاض» حسب معجم الجماعة، فاعتقد منظرو المخزن أن العلاج يكمن في فسح المجال لنقيضها الفكري والتاريخي: الحرفية الوهابية، فيما يشبه تنقيل قطع الشطرنج. فكان ذلك من قبيل الاعتصام من الرمضاء بالنار.