سياق الإغلاق أثارت قضية إغلاق مجموعة من المدارس الدينية التابعة لجمعية يشرف عليها محمد المغراوي، أحد شيوخ السلفية الوهابية في المغرب، مباشرة أو عبر وسائط، ردودَ فعل واسعة من مشارب مختلفة دينية وحقوقية، بل وانتهازية أحيانا. تلقى تعليمه الأولي بالمغرب، إلى حدود السنة الأولى ثانوي، «ثم رحل لإتمام الدراسة إلى المدينةالمنورة، فالتحق بالجامعة الإسلامية ... فأتم بها التعليم الثانوي ثم الجامعي، ثم حصل على شهادة الدكتوراة منها». (من موقع جمعية الدعوة http://maghrawi.net/modules.php.name=Sheikh). ربط المغراوي علاقات وثيقة، في السعودية، بجهات دينية صارت توصف بالتشددِ حتى في محيطها وبيئتها الأصلية. ولكنه تجاوزها أحيانا في تشدده، الشيء الذي جعل بعض علمائها يصفه بالخارجية، كما سيأتي في خاتمة هذا المقال. لقد عملت تلك الجهات جاهدة خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين من أجل تصدير تصورها إلى مشارق الأرض ومغاربها، من لاهور إلى مراكش، ومن جبال الشيشان إلى أحراش الصومال. وذلك بعد تطعيمها وتحفيزها بحقن من برنامج الإخوان المسلمين. ومن هنا جاء دعمها لمشروع المغراوي وأمثاله في المغرب. يجد القارئ في موقع جمعية المغراوي صورةً لتزكيةٍ من المفتي السابق للمملكة العربية السعودية يوصي فيها من يهمهم الأمر بتقديم المساعدة المالية للمغراوي، على شكل «زكاة وغيرها». ولأن رياح التحريض، كما سيتبين لاحقا، تجري بغير ما يشتهيه المحرضون، فقد بدأت المملكة العربية السعودية نفسها تكتوي، منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي، بنار هذا الاتجاه، وهي تعمل الآن بحزم من أجل ترويضه وحصر أضراره بوسائل عدة، على رأسها إصلاح التعليم. ولا بد من التذكير، هنا بأن إغلاق «دور القرآن» جاء في أعقاب الفتوى الفاضحة التي أصدرها المغراوي حين أجاز تزويج الطفلة القاصر، بنت التسع سنوات (توجد فتوى المغراوي بالصوت على موقع يوتيوب، كما توجد محاولته التنصل من الفتوى بشكل ملتوٍ). فمن المعلوم أن هذه الفتوى لقيت معارضة واستنكارا من المجتمع المدني الذي اعتبرها دعوة صريحة لاغتصاب الأطفال. فعلى هذا الأساس، واعتبارا لتجاوز المغراوي لما تواطأت عليه الأمة في مدونة الأسرة، وضع أحد المحامين شكاية لدى الوكيل العام بالرباط، ترتب عنها فتح تحقيق في الموضوع. تلا ذلك إصدار المجلس العلمي الأعلى للمملكة المغربية بيانا شديد اللهجة يستنكر فيه فتوى المغراوي وينعته بأقبح النعوت، من قبيل المشاغب والضال المضل . في تجاوب مع هذه الحركة الاحتجاجية، ولاعتبارات أخرى، تتكشف لاحقا، بادرت وزارة الداخلية إلى إغلاق مقر جمعية المغراوي وموقعها الإلكتروني وبضعةٍ وخمسين من الدور التابعة لها مباشرة أو عبر وسائط (التمويل، والتزويد بالأطر). الخروج من حرج الفتوى لقد تمت إدانة فتوى المغراوي بالإجماع (في الظاهر). فحتى المتعاطفين معه وقَعوا في حرجٍ، فسكتوا، أو غمغموا بجمل غير تامة مرددين تبريره بكون كلامه مجرد إبداء للرأي في تفسير آية قرآنية، ملوحين بالسنة النبوية: سن إحدى زيجات الرسول (ص). لقد ظلوا مقموعين غير قادرين عن إنجاز واجب «النصرة» وهو يسمو عند بعض الإسلاميين على كل الخلافات إلى أن بدأت عملية الإغلاق، فتنفسوا الصُّعَداء، وربطوا قاطرة المغراوي المعطوبة بقاطرة «دور القرآن» التي يكفي النطق باسمها لإحراج الآخرين. كان إغلاق دور القرآن نَسْمةً من الأكسجين أعادت الحياة إلى المتعاطفين سرا مع المغراوي، الذين اختنقوا بفضيحة فتواه الشاذة. ومن هنا بدأ البكاء على «دور القرآن»، وانجرف في هذا المنحدر بعضٌ من ذوي النوايا الحسنة من المدافعين عن حقوق الإنسان على الإطلاق، بدون نظر في الجوهر. في البرلمان الصحافة وقد وصلت أصداء هذه القضية إلى قبة البرلمان، فترددت فيها بقوة. بادرت ثلاثُ فرق لمساءلة وزير الداخلية 1) - فريق حزب العدالة والتنمية (يقال، والله أعلم، أنه «يمين بمرجعية إسلامية»، معارض 2 ) - (فريق حزب الاستقلال ( يقال، أيضا، أنه «يمينٌ محافظ»، يترأس الحكومة الحالية ، 3 ) - فريق التجمع والأصالة (يقال، كذلك، أنه « يمين الوسط». مشارك في الحكومة ومساند لها). اكتفى حزب الاستقلال بتوضيحات وزير الداخلية وبياناته، فتنازل عن التعقيب، في حين جاء موقف حزب العدالة والتنمية حادًّا صارما في إدانة عملية الإغلاق، وهذا موقف منتظر. أما المفاجأة غير المتوقعة، فجاءت من تعقيب «التجمع والأصالة»، حيث أظهر المعقبون تفهما للإجراء الاحترازي الذي لجأت إليه الدولة، بل تعدوا ذلك إلى تشبيه «دور القرآن» بالمدارس القرآنية التي صنعتْ متطرفي طالبان. وقد أثار هذا «التشبيه البليغ» ردودَ فعلٍ صاخبةً من طرف فريق العدالة والتنمية، فعم الضجيج واختلطت الأصوات. من الأكيد أن هذه النغمة الجديدة المناوئة لموقف الإسلاميين قيمةٌ مضافةٌ جاء بها الحزب الجديد (حزب الأصالة والمعاصرة)، فنحن لم نَعْتَد من التجمعيين غير المجاملة والمسح الخفيف على القضايا الخلافية. وقد استولى «التجمع والأصالة» بهذا الموقف الجريئ على «الموقع» المفترض لليسار. لقد ظلت مكونات اليسار بكل ألوانه وتشكيلاته ممسكة عن الكلام مشدوهة عديمَة الحيلة، لا تدري ماذا تعمل أمام شيء اسمه «دور القرآن»؛ هل يؤيدون الدولة فعلا في إغلاق هذه الدور، أم يستنكرون ذلك، سواء منهم المشاركون في الحكومة أو المعتبرون ضمن المعارضة. وعموما، فإن حزب العدالة والتنمية هو الذي تمادى في جعل قضية إغلاق دور القرآن قضية رئيسية فاتحا جريدته (التجديد) لكل الآراء المنددة بالإغلاق، حقوقيةً وغيرَ حقوقية. ومن ضمن ذلك رسالة من مجموعة من «العلماء» والرموز الثقافية، مثل إدريس الكتاني والمهدي المنجرة، موجهة إلى وزير الداخلية مطالبة بالتراجع عن الإغلاق. وأخيرا صارت قضية دور القرآن قضية الفضائيات الأصولية، مثل قناة «الحوار» التي خصصت حلقة من حواراتها لهذه القضية، استضافت فيها شخصية حقوقية مغربية. بل نقرأ أخيرا في جريدة التجديد كيف تحولت المسألة، في بعض المناطق، إلى المحاكم، بعد أن باشرت الداخلية الإجراءات القضائية لحل بعض الجمعيات الكامنة وراء دور القرآن. ومن ذيول هذا الملف، أيضا، رفض الترخيص لدخول عشرة ألاف مصحف استوردتها جمعية المغراوي من الخليج العربي بسبب الوضع القانوني الحالي للجمعية. لقد لعب الاسم «دور القرآن» دورا أسياسيا في توجيه النقاش، فالاسم، كما ذكرنا سابقا، هو الذي فك عقدة المتعاطفين سرا مع المغراوي، فانطلقوا لتفريغ غضبهم، وعَقَد لسانَ اليساريين فصاموا عن الكلام. فمن ذا الذي يجرؤ على إغلاق «دار القرآن» حين تكون اسما على مسمى. فدار القرآن ليست، في العمق، شيئا آخر غير المسجد، والمسجد يُدعى أيضا «بيت الله»: «ومن أظلم ممن منع مساجد الله ...» (البقرة2 . 114). وكان ينبغي هنا الانتباه إلى أن دار القرآن قد تكون للضِّرار والتفريق بين المسلمين، بل بين المواطنين وأبناء البشر عامة، كما وقع ويقع بالنسبة لبعض المساجد، وحينئذ لا حرج من إغلاق هذا البعض. فالمغراوي وأمثاله لا يختلفون عن «الذين اتخذوا مسجدا ضِرارا ... وتفريقا ...وإرصادا... وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى...».(التوبة 9 . 107) . فالشبهة التي من أجلها أغلقت تلك الدور هي شبهةُ الفتنة التي تهيئ لها، الفتنة التي أفصحت عنها فتوى راعيها المشرفِ عليها حين خرج عن إجماع الأمة وتوافقها على مدونة الأسرة حيث حدد سن الزواج في ثماني عشرة سنة، (وللاستثناء تقنين وعتبة. وهو جدير بأن يطرح مرة أخرى للنقاش على ضوء التجاوزات الكثيرة التي أبانت عنها الممارسة حيث صار الاستثناء قاعدة عند البعض من مخلفات الماضي)، وللتغيير قنوات وإجراءات، ليس من بينها الفتوى القطعية المحتكرة للشرعية الدينية المتجاهلة لما ورد في مدونة الأسرة. (ناقش الأستاذ أحمد الخمليشي هذا الوجه الاجتهادي من المسألة في مقال مطول نشر بجريدة الإتحاد الاشتراكي بتاريخ 16.10.2008 ). وانتهى إلى هذه الخلاصة: «إن المدونة صدرت وفق النظام الدستوري الذي توافق عليه المغاربة وتسير به جميع شؤونهم. وهذا: لا يمنع من انتقاد بعض أحكامها ممن لديه مبررات لهذا الانتقاد الذي يجب أن يقدم بأسلوب الحوار والإقناع، ومبررا بالتعليل المنطقي والأفكار التي بنى عليها المنتقد رأيه الشخصي، فضلا عن بيان الأسباب التي توهن في نظره سند الحكم الذي أخذت به المدونة. ولكن ما لا يبدو مقبولا هو الاقتصار على إصدار الحكم وتذييله بآية أو حديث أو نص من مراجع الفقه لإضفاء صفة «الحكم الشرعي» عليه مع إهمال الرأي أو الآراء الأخرى في تفسير الآية أو الحديث، ودون أية إشارة كذلك إلى المقتضى المخالف في مدونة الأسرة. إن هذا الأسلوب يؤدي قطعا إلى تزكية التيار الذي يكفر المجتمع بسبب تطبيقه «للقانون الوضعي» وعزوفه عن «أحكام الشريعة». فعندما يقول المفتي مثلا وباسم الشريعة إن الطلاق المعلق نافذ (لعله يشير إلى فتوى لابن حمزة)، بينما المدونة تقرر عدم نفاذه، فإن النتيجة البديهية لذلك تكون اعتقاد المتلقين للفتوى عدم شرعية حكم المدونة مع ما يترتب عن ذلك من تداعيات .