عند كل عدوان إسرائيلي، لا نلمس سوى نفس الكلام المباح يكرر نفسه، ولم يصل قادة العرب كما لم يصل بعض قادة المسلمين إلى الاعتراف بأسباب الضعف الذي لم يعد يولد إلا الضعف. واليوم هذه غزة السليبة- بعد أن عاشت تحت الحصار - تعيش اليوم تحت النار. أجساد تحترق وسط خراب ودمار وبطش وشراسة العدو. و اليوم في هذه الأمة العربية والمسلمة التي لا تملك إلا النباح ، يوجد بعضهم في موقع المتفرج المتقوقع داخل قمقم الضعف والعجز، يصرح أن ذلك ثمنا للكرامة . وهو متربص بلحظة انفراج كي يحمل قبل غيره « قصبة قتلنا الثعبان» ويطوف عبر وسائل الإعلام مهللا مزمرا بالنصر مهما كانت النتيجة على أرض المعركة، حيث العدوان الكاسح على سكان غزة. صار العربي والمسلم يخجل من الانتماء لأمة هذا حال حكامها «إذا مسها الخير، منوعين غارقين في كبائرها ونقائصها» وإذا مسها الشر جزوعين ولكنهم مستمرئين الخنوع مستحلين جلد ونحر وشوي سكان غزة الأوفياء لقضيتهم وأرضهم، الذين لم ينتظروا هذا الموقف العربي، كما لم ينتظروا منه طعاما وماء وهم يواجهون بصبر وعزة نفس، الطغيان برا وجوا وبحرا . إنها الأمة التي ضحكت من جهلها الأمم، جعلت الشهامة والمروءة في رفوف التراث العربي وأصبحت أمة الصفر في حقل الأعداد واستبدلتها بالخيار الاستراتيجي التي تتشبث به حتى ولو دخل العدو إلى غرف نومها . إنها أمة طوت صفحات أمجادها ونامت على العار . بدون حياء يطلع موفدها هنا أو هناك منظرا لتبرير جبنها بأن المعركة مع الكيان الصهيوني غير متكافئة، تمنحه الفرصة كل مرة ليتقوى من دماء الأبرياء وشهداء الكرامة المفقودة قليلة هي الأقطار من هذه الأمة التي تناغم حكامها مع خرجات شعبها في مظاهرات حاشدة منددة، كما لو أنه تناغم امتصاص الغضب ، وقليلة هي الأقطار التي خرج حكامها عن الصمت المريب بالإعلان عن مبادرة ظاهرها وقف العدوان حقنا للدماء والأرواح الفلسطينية . وباطنها حسابات ضيقة وتصفية حساب، تماما كدخول إسرائيل حربها في غزة لتقوية حظوظ انتخابات بني صهيون الشعوب خرجت منذ اليوم الأول لانطلاق العدوان، في تجمعات ومسيرات احتجاج وتضامن ولم يسلم كثيرها من القمع المسلط، لأن الأمة لا زالت أمة إماء وعبيد . وبعضها لم يخل من المزايدات السياسية وتلميع صورة هذا الطرف أو ذاك، أما أمم هذه الأمة المقهورة مجتمعة لم تنجح في عقد قمتها وفوضت لفقهائها وعلمائها التحرك في الاتجاه المعاكس الذي لا يلزم أي طرف ، كما بادر بعض مثقفيها بالتنديد والشجب والإدانة والوعد والوعيد وهم يعانون من الأقلام المكسورة والأفكار المقموعة والأفواه الجائعة والأذرع المبتورة والأرجل المشلولة... جراء المعاناة من استعباد الفقراء بينهم وجلد ظهورهم وهتك أعراضهم، وحتى لو جاءت فلتة إبداع صادقة في إحساسها ، يضيق صدق الخطاب ويضيق صدق الغضب فيها، أقصى ما يبلغه إرسال قصائد الشعر وتنميق النثر وبيانات التنديد والإدانات والشجب والوعد والوعيد وضياع صدق الخطاب فيها كما ضاع صدق قرارات هيئاتها ومنظماتها التي لم تستطع عقد اجتماع طارئ فأحرى أن تلتئم وتتوحد , وهذا كل ما أمكن المساهمة به ليتصدر صفوف المعركة وأتون المحرقة. الوقفات الاحتجاجية والمظاهرات بالشوارع هي صحوة مدرسة النضال وتخريج أفواج وأجيال الرفض التي تقول : لا. كلما حاق الظلم والطغيان تقولها ليتحكم الشارع الشعبي والجماهيري في مقود بناء الموقف ورص الصف العربي والمسلم بين الحكام ، والكثير منهم يمني نفسه بأن موقف الحكام السلبي لا ينطلق من فراغ ، بل من يقين لا تدرك الشعوب معناه وما وراء سطوره، كأنهم يرون ببعد نظر ما لا تراه شعوبهم : يرون أن الكيان الصهيوني أعلن على انتحاره بإقدامه على القصف والقصف المتكرر لقطاع غزة الأعزل . وإذا أقنعت الشعوب نفسها بضرورة تصديق حكامها، فكم يلزمها من مزيد الصبر وكم يلزم الشعب الفلسطيني من التضحية وأشجاره تسقط واقفة ؟ والشعوب لا تملك إلا حناجرها تصرخ بها، وهي تشعر حيال الشعب الفلسطيني بالخجل ؟ وبماذا سيفيده هذا الخجل وقد شوهت عروبته وأسيء إرساء دعائم الإخاء والتعاون والإحساس بالمسلم العربي وعدم خذلانه، أمام تعنت أصحاب القرار في هذه الأمة الذين تجردوا من البطولة والكرامة والشهامة في سلوكهم ولغتهم ومصطلحات معاجمهم السياسية ومفردات قواميسهم الأدبية ,يحاولون أن يضيعوا في شعوبهم صدق الغضب.