يبدأ فيلم «سودان، يا غالي» للمخرجة التونسية هند المؤدب، وهو فيلم وثائقي، برسائل صوتية متبادلة بين المخرجة وفتاة سودانية تحكي ما يقع في بلادها ومثابرة الشباب على إسقاط الحكومة العسكرية بعد الإطاحة بالحكومة المدنية واندلاع الحرب العنيفة في أبريل 2023. ومن خلال تلك الفتاة، تقدم إلينا أصواتا أخرى مليئة بالمشاعر التي يمكن التعرف عليها على الفور. شباب يواجه ذلك التجاور الرهيب لليأس والأمل، يدعمون بعضهم، وينظمون صفوفهم، ليؤكدوا أن هذا الجيل ليس جيلا فارغا أو عديم الفائدة أو مستلبا، لأنه في الشدائد يستطيع أن يعبر عن نفسه بقوة الكلمة، وبالمواجهة السلمية للعسكر برصاصهم وقنابلهم المسيلة للدموع. إن قوة هذا الفيلم تكمن في «توثيق» زمن الحرب على نحو مباشر، تلك الحرب المؤلمة التي لا تزال مستعرة حتى الآن في السودان. تعود بنا المخرجة إلى عام 2019، عندما بدا التغيير الكبير ممكنًا، ونجح الشباب في إسقاط المجلس العسكري. غير أن هذا الأمل الكبير في الدخول إلى زمن الحريات والديمقراطية سرعان ما تبخر على يد الجيش مرة أخرى، وعلى يد التدخل الأجنبي، كما يعلن الشباب في الفيلم. تختار المؤدب ثلاثة خيوط سردية لفيلمها، غير أنها بدل أن تفصل هذه الخيوط تجمع بينها على نحو خفي لا يشعر به المتلقي، (السردية الشعرية والفنية+ السردية النسائية+ السردية المطلبية). شباب يقرض الشعر أو يرسم الجداريات ويسخر هذا الفن من أجل التوثيق أو المواجهة أو الحفاظ على ذاكرة المناضلين القتلى؛ ونساء شابات يحاولن، كل واحدة بطريقتها الخاصة، التحرر من قيود المجتمع الأبوي؛ وأحلام فردية تحولت تدريجيا إلى مطالب عامة صاخبة. في هذا الفيلم، عرفت هند المودب كيف تلتقط الإيقاع المتدفق للشعر. مرارًا وتكرارًا، بالصوت والصورة، إذ تُظهر الكثير من المشاهد الثوار الشباب وهم ينشدون الشعر لبعضهم البعض بينما يشيدون بأسلافهم الثقافيين، مثل محمد الفيتوري. إن أشعارهم هي أشعار لحظتهم وعن أوضاعهم الخاصة، ولكنها مستوحاة من أولئك الذين قادوا الانتفاضات السابقة في الستينيات والثمانينيات. هذه اللحظات مليئة بالغضب ولكن الكاميرا تُظهر أيضًا ثبات هؤلاء الشباب وعزيمتهم من أجل عالم أفضل يخططون لبنائه لأنفسهم. جوقة من الناس الذين يتوقون إلى التغيير بينما توفر طبولهم وصفاراتهم، وحتى الحجارة التي تقرع على الإسفلت، الموسيقى التصويرية لثورتهم. وتضفي هند المؤدب بُعدًا آخر على السرد، حيث نجحت في المزج بين المحادثات اليومية العفوية والمحادثات النضالية والمحادثات ذات الإيقاع الشعري المشحون بالدفق الإنساني أو الثوري. فسواء اجتمع الشباب في المقاهي أو في المنازل أو في أماكن الاعتصام في الشوارع، فإنهم يتحدثون دائمًا، ويحلمون، وهو ما أتاح للحوار الفيلمي أن يتشكل بسلاسة، كما هو واضح من خلال المونتاج، وأن يصبح هذا الحوار خيطًا موضوعيًا أكبر حول حقوق المرأة وسوء الممارسة الدينية والعلاقة بين الأجيال، والموقف من العسكر أو الثروة الوطنية أو التدخل الأجنبي، والأهم من ذلك، يتيح لنا ارتباط شباب السودان بوطنهم الذي يأملون العيش فيه، ورؤيتهم للمستقبل، وما هو النظام السياسي للبلد الذين يريدون العيش فيه. تتناغم الكاميرا، المخفية أو غير المصرح بها، بقوة كبيرة مع مواقع التصوير، فتعطي للمكان لغة مباشرة أخرى لا سبيل إلى القفز على قوتها التعبيرية. فالشباب يخوض حربا بصدور عارية، يسقطون، يبكون، يصرخون، يتألمون، ينتابهم الخوف، تجرفهم الشجاعة، يتعاضدون، يقضون الليل في الشوارع، يحاولون حماية بعضهم البعض. وفي خضم كل ذلك، يواصلون النضال بالحجر والكلمات والألوان.. وأحيانا بالدموع. لا تتردد هند المؤدب في استعمال لقطات مصورة بكاميرا الهاتف، وعلى نحو مرتبك أو سري، لتعرض أمامنا تلك الصور المروعة للتعذيب والترهيب حين أقدم الجيش على فض اعتصام المحتجين بعنف في يونيو 2019. كما يسرد التعليق الصوتي تفاصيل عمليات القتل والسجن. ولكن على الرغم من هزيمة المنتفضين وسيطرة الجيش على البلاد، ورفضه بشكل قاطع العودة إلى الثكنات، لا تزال أصوات الشباب تعمل لأنها تحمل الحلم بغدٍ أفضل، الحلم الذي لا يمكن أن تكسره الدبابات، ولا الرصاص الحي. وهنا تكمن القوة المطلقة لفيلم «سودان، يا غالي»، إنها قصة مثابرة جماعية لا يمكن كسرها. ورغم قوة الفيلم ورسائله القوية التي تجعلنا نتبنى أحلام هؤلاء الشباب، إلا أن المخرجة اختارت أن تنهيه بأغنية فرنسية بدت نشازا، إذ ليس هناك أي مسوغ موضوعي أو فني يقتضي أن تستعين بأغنية غير الأغنية السودانية أو العربية، خاصة أن الفيلم يحتفي، بشكل كبير، بالشعر العربي أو بالزجل (أو السلام) السوداني. ومع ذلك، وفي كل الأحوال، إنه فيلم قوي، ولا ينسى، بل يساعد الحلم على التأجج في تاريخ السودان، وفي قلوب شبابه الذين نجحوا في الإطاحة بدكتاتورية دامت 30 عامًا، ثم اختطفت هذه الثورة بدورها من قبل الحكام العسكريين للبلاد. إن هذا الفيلم «سودان، يا غالي»، نظرة عميقة ومتعاطفة حول كيف يمكن للأمل الجماعي أن يحشد جيلاً كاملا من أجل ثورة خلقت كي تعيش رغم اضطرار أغلب الثوار الشباب إلى مغادرة البلاد، بحثا عن غد أفضل، وربما بحثا عن سودان الديمقراطية والحريات.. السودان الذي يعيد الجيش إلى الثكنات…