ولى الزمن الذي كان فيه كرسي الحكم ببلاد شنقيط يتم الاستيلاء عليه بواسطة الانقلابات العسكرية وصراعات كبار ضباط الجيش، لتتحول الأجواء العسكرية التي كانت مخيمة إلى أجواء سياسية يتم فيها التداول على السلطة بشكل سلمي حضاري مبني على الشرعية والامتثال للقواعد الدستورية. هذا ما عبرت عنه الانتخابات الرئاسية التي جرت يوم 29 يونيو 2024، باحترام موعدها وسلمية حملتها وشعاراتها وسجالها السياسي، وحرية تعبير مرشحيها وإرادة ناخبيها، وشفافية اقتراعها، ومصداقية نتائجها، ومشروعية واستحقاق الفائز بها، في ظل تغطية إعلامية حرة. فقدمت موريتانيا بذلك درسا ديمقراطيا نموذجيا ومثاليا في الشفافية والنزاهة والحرص على ضمان كل الشروط المطلوبة في هذه العملية الانتخابية بما يعزز المسار الديمقراطي لهذا البلد. خاض غمار هذه الانتخابات سبعة (7) مرشحين، يتقدمهم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني الطامح إلى تجديد ولايته الثانية والأخيرة، إلى جانب خمسة منافسين من أحزاب المعارضة ومرشح مستقل، فيما تعذر على الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز دخول غمار هذا الاستحقاق إثر رفض المجلس الدستوري ملف ترشحه، بسبب الظروف المحيطة بمحاكمته وسجنه على خلفية ملفات فساد واتهامه من قبل لجنة تحقيق برلمانية بإساءة استخدام السلطة واختلاس أموال عمومية ومصادرة ممتلكات متحصل عليها بطرق غير شرعية، ومما صَعَّب غايته عدم تمكنه من الحصول على العدد المطلوب (100) تزكية مستشار بلدي على الأقل من بينهم 5 عُمَد، وفق ما ينص عليه القانون الانتخابي. وكان ولد عبد العزيز يمني النفس بالعودة إلى كرسي الحكم منذ أن غادره سنة 2019، اعتقادا منه أن صديقه ولد الغزواني، الذي قاد معه انقلاب 2008، سيمكنه من المنصب في إطار لعبة تبادل كرسي الرئاسة، على شاكلة اللعبة الروسية «بوتين / ميدفِديف». تجدر الإشارة إلى أن الرئيس /الجنرال ولد الغزواني يتمتع بدعم المؤسسة العسكرية ومساندة رجال الأعمال وشيوخ القبائل والأحزاب الموالية للنظام الحاكم، كما حظي بدعم زعيم المعارضة التقليدية ورئيس تكتل القوى الديمقراطية، احمد ولد داده، كما سجل انسحاب عدد من رموز الإخوان المسلمين من صفوف المعارضة وتحولوا إلى موالاة للرئيس ولد الغزواني، في تطور سياسي مثير. لم تتأخر اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات في الإعلان عن فوز الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بمأمورية ثانية، بعد تصدره نتائج الانتخابات بحصوله على نسبة 56.12 % من أصوات الناخبين، متقدما بفارق كبير على أقرب منافسيه بيرام الداه اعبيدي (المعارض) ممثل شريحة الحراطين، الذي حصل على نسبة 22.10 %، وحل ثالثا حمادي سيدي المختار رئيس الحزب الإسلامي المعارض «تواصل» بحصوله على نسبة 12.76%، وحل رابعا العيد محمدن امبارك (حقوقي معارض) بنسبة 3.57 %، وفي المركز الخامس جاء المرشح با مامادو بوكار (الأقلية الزنجية) بنسبة 2.39 %، واحتل المركز الأخير المرشح محمد الأمين المرتجي الوافي (مستقل) بعد حصوله على 9875 صوتا فقط. وقد بلغت نسبة المشاركة في هذه الانتخابات 55.39 %. وأجمعت آراء المراقبين الأفارقة والدوليين الذين تابعوا هذه العملية الانتخابية، على الإشادة والتنويه بأجواء السكينة والهدوء وحرية التعبير وروح التسامح والشفافية والانفتاح التي طبعت هذه الانتخابات في جميع مراحلها تحضيرا وإجراءً، بل هناك من ذهب إلى حد وصفها بالأكثر مصداقية والأصدق تعبيرا في تاريخ الانتخابات الموريتانية. كيف تمكن الموريتانيون من بلوغ هذا المستوى من النضج الانتخابي؟ في الإجابة عن هذا التساؤل ما يدل على حصول نقلة نوعية في المناخ السياسي العام وحدوث تطورات جد هامة قفزت بهذا البلد العربي الإفريقي من خانة النظام الاستبدادي إلى خانة متقدمة حسب مؤشر الديمقراطية العالمي لسنة 2023 (المركز 108 عالميا من أصل 167 دولة والثالث عربيا). ففي ظرف وجيز ( 17 سنة) تمكن الموريتان من إعادة ترتيب بيتهم الداخلي وفق أسس ديمقراطية جرى تدبيرها على مراحل ولايزال العمل البناء جاريا لترسيخ مقوماتها، عن طريق احترام مواعيد وقواعد الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية والتشريعية والمحلية، والحفاظ على الأمن والاستقرار، والتزام الجيش بثكناته وتركيز اهتمامه على مهمته الدفاعية وحماية الوطن، ثم الإيمان الراسخ لدى الموريتانيين بأن الانتقال الديمقراطي والتغيير والخروج من نفق الأزمات السياسية ليس بالأمر الهين، ولن يتأتى سوى بالتوافق بين كل الفرقاء السياسيين، المعارضة والنظام، وتجنب تأزيم الأوضاع السياسية وتعقيدها، والاتفاق على تطبيع الحياة السياسية من منطلق التفاهم والحوار والتوافق. بداية مسار الانتقال الديمقراطي في البلاد وجب التذكير أن موريتانيا عرفت خلال تاريخها المعاصر أي منذ الإطاحة بالرئيس المدني الراحل المختار ولد داده عام 1978، خمسة عشر (15) انقلابا عسكريا بين ناجح وفاشل، أطاح فيه ضابط عسكري بزميله في المؤسسة العسكرية من على كرسي الحكم، إلى أن حين وصول الرئيس السابق الجنرال محمد ولد عبد العزيز إلى الحكم بعد الإطاحة برئيس مدني منتخب ديمقراطيا هو، سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله في 6 غشت 2008، وقد ظل نظامه موسوما بصفة الحاكم العسكري الانقلابي رغم ارتدائه عباءة الشرعية الديمقراطية بعد إجرائه لانتخابات رئاسية يوليوز 2009 فاز فيها بنسبة 52%. وقد تمكن الرئيس ولد عبد العزيز من الحفاظ على كرسيه طيلة الخمس سنوات دون منازع إلى حين وصول موعد الانتخابات الرئاسية 2014 التي ترشح لها مجددا وفاز بها مما مكنه من مواصلة حكمه إلى غاية سنة 2019، غير أنه بات عندها مجبرا على التنحي عن كرسي الرئاسة، لكون المادة 28 من دستور يوليوز 1991، الذي عرف عدة تعديلات، لا تسمح بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية سوى مرة واحدة. ويرجع الفضل في وضع أسس هذه القاعدة القانونية الدستورية التي تحدد نمط التداول السلمي على السلطة بين حكام موريتانيا، إلى عهد الرئيس الأسبق علي ولد محمد فال، الذي وصل بدوره إلى سدة الحكم بعد الإطاحة بالرئيس معاوية ولد سيدي احمد الطايع في 3 غشت 2005 وتولى رئاسة موريتانيا إلى ربيع 2007، وقد تعهد حينها بأن يضع بلاده على سكة النهج الديمقراطي والقطع مع أسلوب التداول الانقلابي العسكري على حكم البلاد، عبر إدخال سلسلة من التعديلات الهامة على الدستور. وبالفعل فقد أوفى الرئيس علي ولد محمد فال بوعده وتنازل عن رئاسة الجمهورية طوعا 2007، بعد أن أسند السلطة إلى رئيس مدني، سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، عن طريق انتخابات رئاسية حرة ونزيهة، جرت في 19 أبريل 2007، حظيت بترحيب الموريتانيين. وكانت سنة فارقة في التاريخ السياسي لبلاد شنقيط. وخشية من الرئيس، علي ولد محمد فال، من أن يجري التلاعب بمواد الدستور مستقبلا من طرف أي رئيس جمهورية طامح بالاستمرارية، لا سيما تلك المتعلقة بعدد المرات المسموح فيها بإعادة انتخاب الرئيس، كما هي العادة في العديد من البلدان العربية والإفريقية، فقد أدخل تعديلات جد هامة على دستور 1991، تعمل على حرمان أي رئيس جمهورية من الإقدام على أي خطوة من هذا القبيل. فبعد أن أشارت المادة 26 من الدستور إلى أن رئيس الجمهورية ينتخب لمدة 5 سنوات، فسحت المادة 28 منه المجال لإمكانية إعادة انتخابه لمرة واحدة فقط. وتم إسناد وتعزيز هذه المادة بفقرة وردت ضمن المادة 29، تتعلق بأداء اليمين الدستورية لرئيس الجمهورية، فبعد فقرة أداء يمين واجب المهام والإخلاص للوطن، تعْقُبها فقرة ثانية يلتزم فيها الرئيس المنتخب، قَسَمًا، بعدم اتخاذ أية خطوة من شأنها أن تؤدي إلى مراجعة الأحكام الدستورية المتعلقة بمدة مأمورية رئيس الجمهورية وشروط تجديدها الواردة في المادتين 26 و28 من هذا الدستور. وهي قاعدة استباقية فريدة تبرز الشطارة الموريتانية. وللعلم فإن مراسم أداء اليمين تجري في حفل التنصيب أمام المجلس الدستوري بحضور مكتب الجمعية الوطنية ورئيس المحكمة العليا ورئيس المجلس الأعلى للفتوى والمظالم، بالإضافة إلى الضيوف من رؤساء دول أو من يمثلهم ورؤساء البعثات الدبلوماسية وحشود جماهيرية. مما يكسب هذه الفقرة قوة سياسية وقانونية واعتبارية يستعصي معها على أي رئيس أن يُعَدِّل أو يُغير هذه المادة التي يخصها الدستور بِقَسَم فريد. وكانت المعارضة الديمقراطية قد حذرت الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، خلال فترة حكمه، من مغبة المساس بالدستور أو محاولة البحث عن حلول للتمديد بعدما لمست لديه ميولات ورغبة بالاستمرار في السلطة لولاية ثالثة، لكن الرئيس ولد عبد العزيز كان مقيدا ب «فيتو» اليمين الدستورية. مما فسح المجال ودون منازع لمرشحين جدد من أحزاب سياسية وشخصيات للتنافس على كرسي الرئاسة في إطار تناوب ديمقراطي متحضر جرى تأكيده في انتخابات يونيو 2019، التي فاز فيها محمد ولد الشيخ الغزواني المرشح عن حزب الاتحاد من أجل الجمهورية في جولة واحدة بعد حصوله على الأغلبية المطلقة 52 % من أصوات الناخبين، وبنسبة مشاركة بلغت 63 %، في انتخابات وُصِفَت بأنها أول انتقال سلمي للسلطة منذ استقلال البلاد سنة 1960. الانتخابات لبنة جديدة في البناء الديمقراطي بالعودة إلى الانتخابات الرئاسية الحالية، فقد أقر كافة المرشحين المتنافسين بهزيمتهم أمام مرشح الرئاسة ولد الغزواني، كما لم تسجل أية طعون انتخابية لدى المجلس الدستوري، ومعظم تصريحات قيادات أحزاب المعارضة التي صدرت في أعقاب نتائج الانتخابات، جاءت مطمئنة تدعو إلى التماسك ونبذ التفرقة والتعبير عن الاستعداد للحوار مع النظام وتعزيز المسار الانتخابي، والتعاون بين كافة الأطراف السياسية بغاية تجاوز كل المعوقات لتحصين المسلسل الديمقراطي في البلاد، وضمان الهدوء والأمن والاستقرار للشعب الموريتاني. وبذلك تكون موريتانيا قد نجحت في كسب رهانها الانتخابي، الذي جرى في ظروف تتسم بالتوافق الوطني، بين الأغلبية الرئاسية وأحزاب المعارضة، وسارت حذو جارتها السنغال في كسب رهان ونزاهة ومصداقية الانتخابية الرئاسية، فيما دول أخرى مجاورة مغاربيا وإفريقيا لاتزال تعاني من تداعيات الانقلابات وحكم العسكر وغياب الشروط الكفيلة بإجراء انتخابات حرة ونزيهة. (*) دبلوماسي سابق