يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن، غربته الكبرى بين قيم التنوير وما يتأسس عليه وجوده وهويته الحضارية. ذلك أن الغرب أصبح، مع ما جرى خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما يجري الآن في غزة، وفي أكثر من بقعة على خارطة العالم، محلَّ تساؤلٍ مريب، بالنظر إى ازدواجيته الأخلاقية هو الذي يقدم نفسه بوصفه «التعبير الأرقى عن الكمال التاريخي للبشرية». بل إن عقل الغرب، كما يقول المفكر محمود حيدر، ينظر إلى التنوع الثقافي أو الحضاري «كَقَدَرٍ مذموم لا ينبغي الركون إليه. ومن هناك جاء التغاضي عن الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب هنا وهناك، وعلى رأسها ما يجري الآن للفلسطينيين على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي المدعومة بالفيتو والسلاح الأمريكيين..
تشير حنة آرندت إلى أن الحقيقة، من وجهة نظر السياسة، تحمل بذاتها طابعاً استبدادياً، ولذلك يكرهها الطغاة الذين يحق لهم أن يخشوا منافسة قوة قاهرة لا يمكنهم أن يحتكروها من ناحية، كما تحمل وضعاً مزعزعاً في أعين الحكومات التي تقوم على الوفاق وبالتالي تنفر من القسر والقهر. ذلك أن الحقائق الواقعية تقع ضمن مساحة إدراكية في الإنسان خلف ما الاتفاق، والخلاف، والقبول والرفض، وجميع الحوارات حولها –أي عمليات تبادل الآراء المبنية على معلومات صحيحة عنها لا تساهم بأي شيء يذكر في بنائها أو زحزحة استقرارها، إذا يمكننا أن نجادل في «الآراء» التي لا تروق لنا، يمكننا أيضاً أن نرفضها أو حتى أن نصل إلى تسوية مع حامليها، ولكن «الحقائق» التي لا تروق لنا تحمل عناداً يؤجج الغضب فينا، ولكن لا يمكننا إزاحتها إلاّ بمحض الأكاذيب! إشكالية الحقيقة الواقعية هي أنّها، وكما هو الحال في جميع الحقائق تفرض الاعتراف بها وبشكل قاطع كما أنّها تمنع أي نقاش حول صحتها، والجدل يشكل جوهر الحياة السياسية. إذا ما نظرنا إلى الأطوار الفكرية والتواصلية التي تتعامل مع الحقيقة من المنظور السياسي فسنراها وبالضرورة هي المهيمنة على ما سواها دون أن تأخذ في حسبانها آراء الناس، وأخذ هذه الآراء في الحسبان هو علامة مميزة في الفكر السياسي المحض. وترى الفيلسوفة الألمانية أن الفكر السياسي يقوم على التمثيل:»أنا أبني آرائي من خلال تناول قضية ما من وجهات نظر مختلفة، من خلال جعل مواقف أشخاص غائبين حاضرة في ذهني، أو بكلمات أخرى: أنا أمثلهم. إنّ عملية التمثيل هذه لا تتبنى دون تحميص آراء أشخاص آخرين أصحاب مواقف مختلفة وينظرون إلى العوالم من منظور مختلف، ولا تتعلق المسألة لا بالتعاطف، أي أن أحاول أن أكون أو أشعر مثل شخص آخر، ولا أن أعدَّ الأصوات وأنضم إلى الغالبية، بل هو أن أكون ضمن هويتي، وأن أفكر في إطارها في المحال التي لا أكون فيها، وكلّما كانت وجهات النظر الحاضرة في ذهني تشمل عدداً أكبر من الناس بينما أفكر في مسألة ما كلّما، كنت قادراً على تخيل نفسي في مكانهم بشكل أكبر في فكري ومشاعري، وبالتالي ستكون قدرتي على التفكير التمثيلي أقوى وأفضل وستكون النتائج والخلاصات التي أصل إليها، أو آرائي، أصحُّ وأشمل (إن هذه القدرة على «العقلية المتضخمة» هي التي تجعل الناس قادرين على الحكم، وقد كان كانط أول من توصل إلى هذه الفكرة في نقده لإصدار الأحكام، ولكنّه لم يميز المضامين السياسية والأخلاقية لاكتشافه هذا). إنّ عملية تكوين الرأي هذه تتحدد من قبل الأشخاص الذين يقوم شخص ما بإعمال عقله بالنيابة عنهم، والشرط الوحيد لإعمال الخيال هذا هو الموضوعيّة، أي أن يكون الشخص الممثل أو النائب عن الآخرين قادراً على التحرر من مصالحه الفردية الخاصة». وتضيف: «ما ثمة رأي بديهي، وبالنسبة إلى مجال الآراء فهو المساحة التي يكون فيها تفكيرنا استطرادياً بحتاً، فنراه ينتقل من مكان إلى آخر ومن جزء من العالم إلى آخر وعبر وجهات نظر متباينة ومتضادة عن جميع الأنواع حتى يسمو من هذه الجزئيات إلى ضرب ما في العموميات الموضوعيّة. إذا ما قارنا هذه العملية التي نُجبر فيها قضية جزئية على الانفتاح على العموم بحيث تُظهر نفسها من جميع الزوايا فتغمرها أنوار الفهم الإنساني من جميع زواياها حتى تصبح شفافة بالكامل، فإنّ العبارة التي تُعبِّ عن الحقيقة تحمل طابعاً غريباً من اللاشفافية. لا شكّ بأنّ الحقيقة العقلية تنير الفهم الإنساني، وأن الحقيقة الواقعية لا بدَّ وأن ترفد الآراء بالبيانات والمعلومات، ولكن رغم أنّ هذه الحقائق ليست مبهمة بأي شكل من الأشكال، وتأبى بطبيعتها أي مجهود لمزيد توضيحها كما هو الحال في النور الذي لا يمكن له بطبيعته أن يستنير». وقالت: «تَظهر حالة الشفافية بأجلى صُورها، وأكثرها إزعاجاً، حين نواجه الحقائق الواقعية ووقائع الأحداث، لأنّه لا يوجد سبب جلي ونهائي يمكن لنا أن نعزي له الحقائق، ودائماً عندما نشعر أنّه كان من الممكن لهذه الوقائع أن تتخذ منحاً مختلفاً تمام الاختلاف، كما أنّ الاحتمالات التي يحملها كل حدث من الأحداث تكاد لا تتناهى، ولكن لا يتمخض عنها إلاّ مسار واحد دون أن نفهم سبب ذلك فنعزوها للصُدف، وهذه الحالة هي ما دفعت فلسفة ما قبل الحديثة إلى رفض اتخاذ الشؤون الإنسانية المشبعة ب «الحقائق الواقعية» على محمل الجد، أو حتى الاعتقاد بأنه من الممكن لنا أن نكتشف أي حقيقة ذات مغزى عميق في «التصادفية الكئيبة» (بحسب عبارة كانط( التي يسير بها تسلسل الأحداث الذي شكل مسار العالم وصولاً إلى يومنا هذا. لكن وبالمقابل لم تتمكن أي فلسفة تاريخ حديثة من التصالح مع عناد الحقائق الواقعية المحضة في استعصاءها ولامنطقيتها، كما لجأ الفلاسفة المحدثون إلى أنواع مختلفة من «الضرورات» بدءاً من الاقتضاء الضروري، والجدلي الديالكتيكي لروح كليّة عالميّة (هيغل)، أو للأوضاع المادية (ماركس(، وصولاً إلى مقتضيات ضرورية ل «طبيعة إنسانية» زعم منظروها أنّها معلومة، وثابتة، وراسخة، بحيث يستحيل تغييرها (علم النفس التحليلي)، وكل ذلك في محاولة لتطهير آخر مظاهر المقولة الاعتباطية بأنّ الأمور «كان يمكن لها أن تتخذ منحى آخر » )وهو ثمن الحرية) من آخر المساحات التي لا يزال فيها الإنسان حراً بحق، فرغم أنّنا إذا نظرنا بأثر رجعي، أي من منظور تاريخي، فسيبدو لنا كل تسلسل أحداث تاريخي وكأنّه لم يكن من الممكن له أن يجري في غير المسار الذي اتخذه في الواقع، ولكن هذا وهم بصري، أو بالأحرى وهم وجودي: لا يمكن لأي شيء أن يحصل أبداً ما لم يقتل الواقع وبتعريفه جميع الإمكانيات الأخرى التي تحملها أي حالة ضمنها وبطبيعتها».