ليست الدارالبيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، خلال هذا الشهر الكريم، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير … تذكر دراسة قامت بها الباحثة الدكتورة سهام بلغيثي العلوي أن التعليم ساهم في تعميق التغريب الثقافي لليهود المغاربة على عهد الحماية، فنظام التعليم العصري الذي خضع له اليهود خلال تلك الفترة عمق، بشكل كبير، الفروق الثقافية بينهم وبين المغاربة المسلمين وجردهم من خصوصياتهم اللغوية والثقافية المشتركة مع بقية أفراد المجتمع المغربي، فبعد أن انتقلوا إلى العيش وسط الأحياء الأوروبية لمدينة الدارالبيضاء إبان الحماية، عملوا على أن يتلقى أبناؤهم تعليما عصريا محوره الأساسي تعلم لغة المستعمر وكذا المعارف الفلسفية والعلمية الفرنسية، وهو ما ساهم في انسلاخهم عن كيان مزدوج التركيبة يهودي ومسلم، ونتج عن ذلك أطفال يهود يتكلمون الفرنسية بطلاقة ويعيشون في البيضاء بعيدين وجدانيا عما طبع حياة آبائهم وأجدادهم في الأحياء اليهودية مع جيرانهم المسلمين، وتبعا لذلك لم تكن لهم ربما فكرة عن فترات لم يشهدوها ولم يعيشوها كان فيها الترابط والإخاء يخيمان على علاقات اليهود والمسلمين في المدينة القديمة، والتي عرضنا لجانب منها في المقال السابق، وهذا الكاتب بوب أوري أبيطبول اليهودي ذو الأصل المغربي يتحدث لنا عن طفولة سعيدة وحياة هانئة وديعة بأحياء وشوارع الدارالبيضاء الأوروبية في فترة الحماية، وعندما يذكر أسماء الشوارع والأحياء آنذاك وأسماء المقاهي والمسابح التي يرتادها هو وأصدقاؤه الذين ليس من بينهم طفل «عربي»، وهو الوصف الذي يطلقه على كل مغربي يصادفه، يخيل إلى القارئ أن الأمر يتعلق بمدينة توجد في قلب فرنسا وعن أطفال فرنسيين أوروبيين وليس عن مغاربة يهود لهم جذور متأصلة في التربة المغربية، لقد تحدث عن جيرانه اليهود بإسهاب وعن أسمائهم وعاداتهم وقصصهم ولم يشر إلى المسلمين إلا باقتضاب شديد، ورغم ذلك فحيه البورجوازي نسبيا ضم الفران والإسكافي وبائع الإسفنج، والبهلواني، والمتشرد، وخطا فوق أرصفته يوسف وجوزيف وموسى وموشي، أبراهام وإبراهيم، المسلم واليهودي، الغني والفقير، عاشوا في سلم دون تفرقة بينهم، وحكاياته الشيقة عن حياته الأولى بالدارالبيضاء في مؤلفه « le gout des confitures «، الذي ترجمه إلى العربية الكاتب الصحفي والشاعر سعيد عاهد، لم تخل من كثير من الحنين والشوق، حكايات تفوح منها رائحة الخبز الشهية وأكلة السخينة والمربى المسكر، والشاي المنعنع، روائح تحيل إلى تلك المذاقات المختلفة والمتباينة، والتي اجتمعت في بوتقة واحدة لتطبع، إلى الأبد، تلك الحياة الجميلة التي قضاها بمدينته الدارالبيضاء ووطنه الأم المغرب . في «طعم المربيات» يحكي بوب أروي أبيطبول ما عاشه بشوارع الدارالبيضاء رفقة رفاقه، واصفا بالكثير من الحنين، وهو المهاجر إلى الديار الأمريكية منذ وقت طويل، الحياة التي كان يعيشها اليهود ذات يوم قبل مغادرتهم المغرب:» توجد في حينا، أو بالأحرى في زنقتنا المحتفى بها بإسهاب ضمن هذه الصفحات، زنقة لوسيتانيا الموازية لزنقة لاسيبيد، بيعتان، وخمسة بقالة، وبائع فحم، وتاجر إسفنج، وصانع زيوت، و»مُقَطر» ل «الماحيا»، مشروب ماء الحياة المفضل لدينا، وحمام تقليدي، وبائع للبيض بالجملة والتقسيط، ومطعم كاشير، و»شواي»،(…)، و»فرانان»، نعم، فرنان تقليديان يستعملان الحطب، «فرانان» اثنان! دون أن نغفل بالطبع الباعة المتجولين لكل أصناف السلع(…) والباعة يحملون أسماء أبراهام وإبراهيم، يوسف وجوزيف، سليم وحاييم، موشي وموسى، وطبعا احماد، واحميدو، وامحمد ومحمد وجميع الأسماء المشتقة من ذات الأصل. أما جيراننا، فهم آل أمسلم، والشرايبي، وبن سيمون، وبنجلون، ومدينة، وبن كيران، وبن لولو وبيريرو! بعض الأسر وفدت من إسبانيا، وغيرها من مكناس، فاس، مراكش أو موغادور، وأخرى من أعماق إفريقيا…(..). كنا نتعايش في تكافل وثيق، لا فرق بين يهودي ومسلم، وأبيض وأسود وخلاسي. وقد احتجت شخصيا لكثير من الأعوام وللسفر إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية للوقوف على تباين أساسه الديانة أو اللون! وأي تباين؟! كم خبز المنزل هذا شهي! كم رائحته طيبة، تعطر المنزل وتضفي عليه جوا احتفاليا، لا السنوات ولا الأسفار أو المنفى وجدت سبيلا لمحوه من ذاكرتي! تقسم الوالدة الخبز إلى أجزاء فينبعث منه شذا دافئ وبخار خفيف يفوحان بعطور طفولتنا كلها، أرائج البراءة والمتعة والدفء الإنساني! تأخذ قطعة منه وتدهنها بكمية محترمة من الزبدة «الدانماركية» ومربى الليمون المهيأ منزليا مثل الخبز، ثم تناولها لنا مرفقة بكأس شاي منعنع، الشاي الذي لا إنسان في العالم غير أمهاتنا يعرف إعداده؛ فتعم حينها السعادة كل زوايا وأركان عشنا العائلي الوديع!..(..) وأقول لكم بصدق مترجما ما ترسخ في فكري حول حينا جد السعيد والهادئ، تلك القرية حيث كان اليهود والمسلمون يعيشون في سلم وأمان، بأن الحب كان يسود الحي، والصداقة كلية الحضور في أرجائه والسعادة ملموسة في حضنه؛ ذلك أن لا أحد، وفق ما كان يتراءى، كان ينقصه شيء ولا أحد يحسد الآخر، والكل يقدم يد المساعدة للكل بشكل طبيعي! أهو الحنين المتولد عن كل هذه السنين الطويلة التي أمضيتها بعيدا عن أرض مسقط الرأس، هو ما يسبغ على تلك المرحلة من حياتي سمات المثالية؟! ربما! وكيف لي أن أعلم؟ كل ما في وسعي قوله لكم إنني سافرت كثيرا، وعرفت الكثير من الناس والأمور وأحببت كثيرا، لكن هذه الفترة من العمر نقشت في ذاكرتي باعتبارها رحم فردوس مفقود، زمان طفولة محظوظة، متفردة ورائعة»! أكلة السخينة «يجب إيداعها في موقد الفرن زوال يوم الجمعة إلزاما، قبل غروب الشمس، لتكون جاهزة في الغد لوجبة الغداء بعد أداء صلوات شابات، وذلك لتناولها ساخنة، وفي الآن نفسه احترام شعائر الشريعة اليهودية الصارمة الخاصة بيوم السبت، يوم الراحة المقدس! موقع طنجرة الدفينة داخل الموقد حاسم ليكون المنتوج النهائي ذا جودة محترمة، وقد ضبط العديد من الزبائن وهم يقدمون رشاوى للفران مقابل وضع طبقهم الأثير في مكان استراتيجي داخل الفرن. يغلق وعاء السخينة بشريط مكون من قطعة مجصصة من نسيج الشاش لتطبخ الوجبة بالبخار؛ وفي الفرن، يُرَقم الوعاء بالجير للتعرف بسرعة على أصحابه يوم السبت الموالي. وعاشت أسر عدة مآسي حقيقية بسبب فقدان رقم الطنجرة، إذ يلزمها انتظار تسليم آخر طنجرة مرقمة لمالكها قبل الحصول على المتبقية. وكانت الوالدة، وهي بنت أبراهام مالكا المحبوبة والمحترمة في الحي، تحظى بامتياز خاص؛ وكلما ذهبت إلى الفرن، تُستقبَل بوصفها «بنت الربي 0بْراهام»، ابنة الحبر، ما يؤدي إلى معاملتها بتقدير! ولذا، يضع الفران طنجرتها يمين موقد الحطب، لا قريبا جدا منه ولا بعيدا حتى تغلي أكلتها التي ستُطهى طوال الليل والصباح، من دون أن تحترق!!! شقتنا تقع في الرقم 28 من الزنقة، أي في موقع تعبره جميع طناجر هذه الأكلة الشهية وهي في طريقها إلى الفرن! باستثناء أوعية نادرة كانت «تُهَرّب»، إذا صح القول، عبر ساحة فردان. وبينما الرجال يعودون من البيع القريبة، وأبناؤهم يتبعونهم في فوضى مرحة، مواصلين الدندنة بترانيم الصلوات، يتحول الفضاء العام إلى خشبة للرقصات ولحركات البهلوانات بملابسهم الزاهية الألوان. وفي عين المكان أيضا يلعب أطفال بالبلي، بنوى المشمش أو بالخذاريف؛ ويعرض باعة بذور عباد الشمس المستطابة الطعم التي تطق وتتفرقع بين أسناننا بضاعتهم؛ ويغني موسيقيون وافدون مباشرة من غانا، «بامبارا» و»كَناوة»، وهم يحركون بسرعة وتناسق إيقاعي «شاشياتهم» المزينة بعظام وأسنان الإبل، ويقرعون الدفوف باهتياج حتى بلوغ حالة «الحال». هكذا، وإذا لاحظتم أنني أركض، بكل ما في الكلمة من معنى، كلما علمت بخبر وجبة الدفينة، فأنا لا أقدم على الأمر مدفوعا بالحاضر، ولا فقط بالطعم النادر والاحتفالي لهذا الطبق الشهي، بل بسبب أمس، بسبب ما قبل، بسبب الماضي البعيد، حتى أتمكن من تخيل 0عْويشة ولقائه ثانية؛ 0عْويشة حمال حي مرحلة شبابي الرائع- الرائع، حقبة شبابنا الجميل- الجميل!!!»(..)»… خلال سنوات 50 و60 و 70 سيغادر عدد كبير من المغاربة اليهود، قرى وأحياء بكاملها، وسيركبون في رحيل مؤلم، بواخر كبيرة استقدمت لنقل أمهات وآباء وأطفال من ميناء الدارالبيضاء إلى ميناء حيفا بفلسطين بينما سيغادر الكثير منهم في طائرات نحو وجهات أخرى من فرنسا إلى البرازيل، ومن الولاياتالمتحدة إلى كندا، ولكنهم حافظوا، رغم كل شيء، على المغرب داخلهم وحملوه في قلوبهم قبل حقائبهم، بل منهم من حمل معه حفنة من ترابه أخفاها عن الأعين والنظرات… «ذلك الكيس الصغير، وكما لو أن محتواه ذخيرة ثمينة، كما لو أنه حلية ذات قيمة كبيرة، كان يحتوي على قليل من تربة أرض المغرب الذي رحلت عنه قبل قليل، تربة دافئة ومغراء ورقيقة. والطائرة تهبط، كانت والدتي تنتحب بتؤدة… !» (طعم المربيات ).