لا أحد يختلف حول التطور اللافت في حركة الترجمة بالمغرب بجميع فروعها ،الإبداعية أو في العلوم الإنسانية والاجتماعية. فقد أصبح المترجمون المغاربة من بين أكثر المترجمين العرب نشاطا في مجال الترجمة إلى جانب لبنانوسوريا ومصر، بل أصبح المغرب يتصدر الدول العربية في ترجمة العلوم الإنسانية والاجتماعية، بعد سوريا، رغم غياب مؤسسة وطنية رسمية تدعم هذا التوجه وفي غياب استراتيجية واضحة وبرنامج وطني، عدا تجارب شخصية انطلقت منذ القرن العشرين داخل المؤسسات الثقافية أو الجامعيات ودور النشر الخاصة، وخصوصا في فترة السبعينات والثمانينات، وهو التوجه الذي لا يزال سائدا اليوم لكن مع اختلاف في المنابع الثقافية والمصادر اللغوية الأجنبية المترجَم منها ، بعد أن كانت الفرنسية هي اللغة الوحيدة كمصدر، حيث وقع التحول في السبعينات التي تميزت بحضور وعي إيديولوجي لدى أغلب المثقفين المغاربة، جعلهم ينخرطون في الحراك السياسي والاجتماعي لحظتئذ، وجعل ترجماتهم تتوجه الى الأدب العالمي الحداثي من أمريكا اللاتينية بالخصوص، ومن الصين وروسيا، ودائما بوساطة اللغتين الفرنسية والإسبانية، وبدرجة أقل الإنجليزية، وهي الترجمات التي غذت أعدادا كثيرة من المجلات ( أقلام، المناهل، آفاق)، أو الملاحق الثقافية للجرائد الوطنية( المحرر، العلم..) هذه الحركة الترجمية سيرتفع منسوبها في الألفية الثالثة، بتنويع منابعها الثقافية، حيث بدا الاهتمام بالترجمة عن اللغات الأقل انتشارا في مقابل اللغات «النبيلة»، فقد ظهرت الترجمة عن الفارسية ، البرتغالية، مع تسجيل التوجه نحو عبور النصوص المغربية، أيضا، نحو الأخر بلغته، ينضاف إلى هذين التحولين، بروز الجوائز العربية والتي يحتل المترجمون المغاربة صفوفها الأولى في أغلب منافساتها، سواء في صنف الإبداع أو في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وفي ظل واقع ثقافي وطني تنعدم فيه هذه المحفزات، عدا جائزة وطنية وحيدة هي جائزة المغرب للكتاب. ولهذا يجوز لنا القول إن المغرب يشكل اليوم بهذه الدينامية الترجمية المتزايدة، كما وكيفا، المركز الصاعد للترجمة إلى اللغة العربية في مجالات مخصوصة إلى جانب المراكز الترجمية العربية المعروفة. فالمغرب منذ انطلاق حركة الترجمة بين مثقفيه العصاميين، كان يلفت الانتباه إلى قيمة ترجماته خاصة في الفكر والفلسفة والتاريخ وإن كان الوضع يقتضي القطع مع التجارب العصامية والفردية، والتوجه نحو سياسة ترجمية واضحة المعالم والأهداف ضمن مشروع ثقافي تقوده الجهات الوصية على قطاع الثقافة، وتجعله قاطرة نحو تحقيق صناعة ثقافية طالما سمعنا عن توصيات مناظراتها دون أن نلمس أثرها على أرض الواقع. هل يمكن أن نخلق حوار حضاريا بين مختلف الثقافات دون أن نمر عبر حامل الترجمة؟ وهل يمكن أن تتسبب الترجمات في ردم أفق هذا الحوار؟ وكيف يمكن أن يتحقق للترجمة، كنموذج تأويلي تتخلق فيه النصوص الأصلية في أفق لغوي جديد، أن يتحقق بناء المعنى الأصلي للنص من طرف مترجم محدود المعارف لا يعي أنه لا ينقل لغة فقط، بل ثقافة وتصورات اللغة المترجَم منها؟ ثم كيف واكبت المؤسسات الثقافية الرسمية الحركة الترجمية اللافتة في المغرب ؟ أسئلة يجيب عنها هذا الملف الذي نخصصه اليوم لمقاربة واقع الترجمة بالمغرب الذي يشتغل المترجمون داخله وفق شعار:» دعه يعمل، دعه يسير» في غياب سياسة ثقافية موجهة وداعمة. يعرّف السجال في اللغة العربية بأنه ضرب من المنافسة الذي تتعادل فيه القوة، بلا غالب ولا مغلوب. وتكاد الترجمة تعرف أيضا على النحو ذاته، إذ هي نوع من المبارزة الدلالية المتكافئة بين نصين ولغتين وأسلوبين وثقافتين، الخ. بهذا المعنى، تسعى اللغة الهدف- المنقول إليها، بتعبير الجاحظ- إلى معادلة اللغة الأصل- المنقولة في كل شيء، مبنى ومعنى. لا تستقيم الترجمة إلا إذ حافظت على معنى النص الأصلي، وحرصت في الوقت نفسه على الخصائص اللغوية والبنائية في اللغة الهدف. من هنا، تصير الترجمة عراكا مزدوجا يروم الانتقال بمضامين النص الأصلي ودلالاته كما هي، دون زيادة أو نقصان، إلى اللغة الهدف، ويحاول في الآن ذاته توظيف بنيات هذه الأخيرة ومقدراتها اللغوية لاحتضان هذه المضامين والدلالات في أبهى حلة نصية وجمالية ممكنة. هذا سجال داخلي/ ذاتي، يتوخى فيه المترجم، بما هو حكَم بين نصين، أن تكون المساجلة متكافئة ومتعادلة بين لغتين وثقافتين ونمطين فكريين أو إبداعيين متقابلين، بل ومختلفين في كثير من الحالات. لكن من المعروف أن اللغات لا تصور الأفكار والأحداث والوقائع والظواهر بتعبيرات متساوية ومتكافئة، إذ تتفاوت من حيث قدرتها على توليد الصور المجازية والاستعارية، وتتميز من حيث سعيها إلى وصف مجالاتها الخاصة وتفسيرها وتأويلها، انطلاقا من ذكاء الشعوب المتحدثة بها وسليقتها وسرعة بديهتها أولا، ومن تأثرها بالطبيعة والثقافة الموروثة عبر أجيال طويلة ثانيا، ومن احتكاكها أيضا بالجيران القريبين والبعيدين ثالثا. يولد المناخ والعرق والجغرافيا وباقي مكونات الطبيعة وسلوكات الإنسان صورا خاصة في الحديث والتعبير، تعكس إحساسا متميزا يتغير من مكان إلى آخر. ويقتضي نقله إلى لغة أخرى مقابلته بما يعادله فيها من صور خاصة. فعلى سبيل المثال، تنطوي التعبيرات اللغوية في المناخ الصحراوي والطقس الجاف على صور مجازية مرتبطة بالثلج أو الماء أو البرودة أو الرطوبة، لأن الإنسان الصحراوي يميل بطبعه إلى البحث عما يثلج به جسده من حرارة المكان. تتفاعل هذه الصور وتتساجل أثناء الترجمة، لتنتقل إلى ما يقابلها من تعبيرات مرتبطة بالدفء أو الحرارة أو الشمس في الأمكنة ذات المناخ الرطب أو البارد حيث هم الإنسان البحث عما يدفئ جسده. وعلى النحو ذاته تتم صور الجمال والشجاعة والقوة الوفاء والأمانة والصدق والحب، أو الجبن والذمامة والضعف والخيانة والتآمر، الخ. لا تعبر كل الثقافات عن هذه الأفكار بالصور البلاغية ذاتها، بل تختار كل واحدة منها صورها الخاصة حسب وقائع الحياة اليومية وتواريخها وخيالاتها وإبداعاتها وأنماط تفكيرها وغير ذلك. من هنا، يكون هذا السجال متكافئا، بلا غالب ولا مغلوب، وفق ما يدل عليه معنى الكلمة في القاموس. إلا أنها تميل، في بعض الأحيان، إلى خلق تمثيلات وأوصاف عن الآخر، يتخذ فيها السجال أبعادا مختلفة، كما سنرى لاحقا. ينطوي هذا الافتراض على معنى ثان يشير إليه مصطلح «سجال»، وهو المراد في العنوان/ الثنائية: «الترجمة والسجال» (لا يؤدي هنا حرف الواو معنى العطف، بل يدل على المخالفة والتضاد، والصراع أحيانا). بدل أن تكون الترجمة وسيطا بين لغتين وأسلوبين كتابيين وثقافتين، تتحول إلى مصدر خلاف، بل ونزاع وخصومة بين الكيانات المختلفة، كالدول والشعوب. لطالما تسببت الترجمة في توتر العلاقات بين زعماء الأقطاب الكبرى ورؤساء الدول، إلى درجة بالغة الخطورة، كادت تنتهي إلى حروب في بعض الأحيان. وتعاني فلسطين ما تعانيه اليوم من مذابح وإبادات جماعية بسبب تعسف الكيان الصهيوني في ترجمة قرارات الأممالمتحدة، وتأويلها بما يناسب «مشروعه» الاستيطاني التوسعي. مرد بعض هذه الخلافات- بل والصراعات- التي تخلقها الترجمة إلى ميل الحضارات الغالبة إلى تصوير منافِساتها، أو حتى الضعيفة التي لا تشكل خطرا كبيرا عليها، بصور نمطية وتمثيلات سلبية وأحكام مسبقة وكليشيهات تروم تشويه مسيرتها وتقبيح حقيقتها، بالحط من مقوماتها وخدش إيمانها بنفسها، الخ. لا يكون الغرض من ذلك التشكيك في ذات الآخر وإثبات تفوق حضاري ما عليه، بل تمهيده نفسيا وذهنيا لقبول الهيمنة عليه. تحفل الكتابات الاستشراقية مثلا بأوصاف وتمثيلات تزدري الإنسان «الشرقي»، وتستخف بحضارته، وتقلل من شأن موروثه، وتعيب هويته وقيمه، وتزري عليه سلوكه ومنجزه، وتنحاز في المقابل إلى مقولة تفوق الذات وتميزها عن الآخرين. هكذا دأب «الغرب» على وصف «الشرق» على امتداد قرون، حتى استفحلت أوصافه وصوره هذه في عصر التنمر والاستقواء الراهن. لقد نال المسلمون والأفارقة النصيب الأوفر من هذه الأوصاف والتمثيلات، لغايتين واضحتين هما: مناكفة الإسلام في انتشاره وتوسعه على حساب المسيحية، والاستيلاء على خيرات الشعوب الأفريقية المتعددة. هكذا، انبنى السجال مع «الشرق»عموما عند «الغرب» على ما سمته الكتابات الاستشراقية ب»المهمة التحضيرية»؛ أي انتشال هذا «الشرق» من «تخلفه» و»رجعيته» و»تطرفه» و»ظلاميته»، وإدخاله دائرة «الغرب» «المتحضر» و»المتقدم» و»المتطور»… والأنكى من هذا أن هذا السجال قام على الثأر والانتقام، والسلب والاستيلاب، وسياسات ضم أراضي «الشرقيين»، وتبرير ذلك بهذا التلفيق والتنميط اللذين لم يتمكن المسلمون، ولا الأفارقة، الفكاك منهما حتى يومنا هذا. لي تجربة بسيطة مع هذا السجال الذاتي والموضوعي الذي تخلقه الترجمة في الآن ذاته، عشتها خلال ترجمة كتاب «مملكة الكراهية» للكاتب الأمريكي اليهودي «دور غولد»، وبعيد صدورها سنة 2014 ضمن منشورات دار الجمل. يصدر إقدامي على ترجمة هذا الكتاب المثير للجدل عن موقف ذاتي وموضوعي يروم ضرورة الوعي بما يكتبه الآخر «الغربي» عن الإنسان «الشرقي»- المسلم في هذه الحالة-، وبما ينسبه إليه من أوصاف وصور تتميز بالتنميط والتلفيق والفبركة في كثير من الأحيان. صار المسلم عموما، بموجب هذا النوع من الكتابة، «وهابيا'' «إرهابيا» مقتنعا بفكرة تدمير العالم وتخريب الحضارة الكونية، «الغربية» على وجه الخصوص، على غرار التصورات والتمثيلات ذاتها التي ظلت تقدمها الكتابات الاستشراقية منذ قرون عن هذا الإنسان. وإذا كانت المعرفة بالكتابات الاستشراقية قد أفرزت تيارا فكريا قويا أخذ، مع المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد وغيره، يفكك تصوراته وتمثيلاته حول الآخر «الشرقي»، بل يدحضها في كثير من الأحيان، فإن المعرفة بهذا الكتاب في العالم العربي انتهت به إلى المنع، بخلاف ما كان ينبغي أن يخلقه من نقاش حول صورة الإنسان المسلم اليوم. لم يرتبط السجال إذن بحجية أفكاره ومسوغاتها، وإنما بقرار المنع في حد ذاته. صحيح أن القرار أدى إلى زيادة أعداد قرائه، لكنه لم يخلق جدلا فكريا مع صاحبه أو مترجمه- إلا في حدود ضئيلة للغاية- كان من شأنه أن يصحح مقاربته التي «لا تمثل عين الحقيقة،» كما أوردت في مقالة نشرتها في جريدة «المساء»، تزامنا مع حدث منع الكتاب وقتئذ. هل تحققت المساجلة بين الكتاب الأصلي والترجمة في هذه الحالة؟ هل نجحت الترجمة، من خلال هذه المساجلة، في أن توجد ذلك التقابل الحيوي- بتعبير المنظر والمترجم الأمريكي «يوجين نايدا»- بين النصين الأصلي والمترجم؟ لا شك أن النص الأصلي خلق جدلا في الوسط الأكاديمي والفكري الأمريكي حول مفهوم الإرهاب ومصادره وعوامل انتشاره وأسباب تأثر بعض المسلمين به، بحسب ما تبرزه مختلف المتابعات والتعليقات والتفاعلات مع النص الأصلي في الساحتين الفكرية والإعلامية الأمريكيتين… فهل ارتقى التلقي بترجمته العربية إلى خلق جدلٍ مقابلٍ يوضح الرؤية العربية أو الإسلامية إلى هذه القضية؟ سيبقى هذا السؤال معلقا إلى أن تتحول الترجمة إلى فكرة سجالية تحمل بين طياتها الوعي بضرورة تفكيك خطابات الآخرين حول الذات، والإيمان بجدلية الحوار والتواصل بين الثقافات المختلفة؛ أي بما يسميه البعض ب»المثاقفة».