في مسار التكوين الموسيقي بالدار البيضاء نجد تراكمات متجددة يفوق مداها قرنا من الزمن، ورحلة تختزن ذاكرة جماعية فنية لمواهب وازنة تركت بصماتها ضمن المشهد الفني المحلي والوطني. تاريخ المعهد الموسيقي الأم بالدار البيضاء، الذي رأى النور قبل 117 سنة بالتمام والكمال، يبرز جانبا أساسيا من هذه التراكمات والتكوين الموسيقي بالعاصمة الاقتصادية، الذي اتخذ أشكالا متعددة وتطور بشكل مضطرد تجاوبا مع مختلف الحاجيات. هذا المعهد العتيد، الذي يقع بشارع باريس في العاصمة الاقتصادية ضمن بناية عتيقة تنضح بعبق التاريخ، ساهم بشكل كبير في تمكين أجيال عديدة من أدبيات الموسيقى والفن، وذلك بعد أن رأى النور سنة 1917، من ضمنهم حسن الفد، وعبد الرحيم المنياري، والحبشي ميلود، والحسين بنياز، وقبلهم وبعدهم الكثير. هذه الحمولة التاريخية والفنية للمعهد، الذي يعد من أقدم المعاهد الموسيقية بالقارة الإفريقية، ليست بحاجة لتأكيد، حيث ساهمت هذه المؤسسة في صياغة التاريخ الفني بالمدينة من خلال تكوين كوكبة كبيرة من الفنانين في المجال الموسيقي والمسرحي، تحت إشراف عدد كبير من الأساتذة منهم بينهم الفنان الكبير الحاج يونس. وقد تمخضت عن هذا الامتداد التاريخي معاهد فرعية يبلغ عددها حاليا 16 معهدا من أجل تقريب التكوين الموسيقي والفني من مختلف المناطق والأحياء، وهو المعطى الأساس الذي أكده عبد اللطيف بن أحود مدير المعهد الموسيقي بالدار البيضاء. وحسب السيد بن أحود، والذي يشغل أيضا منصب المنسق العام للمعاهد الموسيقية بالدار البيضاء، فإن الأمر يتعلق بمعاهد تابعة للمعهد الأم المتواجد بشارع باريس، من بينها معاهد سيدي بليوط، وأنفا، والحي الحسني، والمعاريف (محمد زفزاف)، وعين السبع (العربي باطما)، والصخور السوداء، والحي المحمدي، وسيدي مومن، والبرنوصي (حسن الصقلي)، وعين الشق (عبدالله كنون)، وسيدي معروف، ومرس السلطان (أحمد الصعري)، والفداء. وبشأن المواد التي تدرس بالمؤسسة فهي كثيرة ومتعددة، حيث أوضح مدير المعهد أن الأمر يتعلق بالصولفيج، والعزف على الآلة، والبيانو، والآلات الوترية، وآلات النفخ الخشبية والنحاسية، وغيرها، بالإضافة إلى المسرح باللغتين العربية والفرنسية، ومادة الإلقاء، والرقص الكلاسيكي، والرقص الإيقاعي، والغناء الكلاسيكي، والموشحات العربية، والملحون والطرب الأندلسي. ومما لا شك فيه، فإن هذا الطبق من المواد يمنح مساحة كبيرة لعشاق الفن الموسيقي والمسرحي والرقص، وهو ما يتيح إمكانيات متنوعة للتكوين. وعن أعداد المسجلين خلال الموسم الدارسي 2023 / 2024 فقد بلغ، حسب السيد بن أحود، 4 آلاف و999 طالبة وطالبا في مختلف المواد، والتي يتم الاستفادة منها دون تحديد سن معين بالنسبة للطلبة (جميع الفئات العمرية). وأشار إلى أنه ضمن هذا العدد الإجمالي، هناك 40 بالمائة من العنصر النسوي، و10 بالمائة من الأجانب من مختلف الجنسيات، بالإضافة إلى أشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة ومن الجمعيات الخيرية. ويبلغ عدد الأساتذة بمختلف المعاهد 285 أستاذا كلهم مغاربة باستثناء أستاذين أجنبيين (أمريكي وإفريقي). أما المتخرجون من المعهد فيغطون الساحة الفنية ولهم أسماء وازنة في المشهد الفني الوطني، منهم فنانون وأساتذة لهم حضور بمعاهد وأجواق سامفونية بأورويا، ينضاف لذلك كون 99 بالمائة من المشرفين على عملية التكوين هم من خريجي معهد العاصمة الاقتصادية. في هذا السياق قال مدير المعهد " إن دل هذا على شيء فإنما يدل على الاهتمام الذي يوليه مختلف المسؤولين بالشأن المحلي والشأن الثقافي، لهذه المؤسسة وللتعليم الموسيقي". وبشأن الامتحانات، يتم إجراء امتحانين، يهم الأول المراقبة والذي يتم إجراؤه في شهر فبراير، والثاني في آخر السنة (الامتحانات الداخلية)، ثم الإقصائيات وأخيرا المباراة العمومية لنيل شواهد التخرج، كما جاء على لسان مدير المعهد. وتحظى البرامج التعليمية أيضا بأهمية كبيرة، حيث تم التأكيد على أنها أكاديمية منبثقة من البرامج الموجودة حاليا بالمعاهد الأوروبية، مع الخضوع للبرامج المعتمدة من قبل وزارة الشباب والثقافة التواصل، وذلك من أجل ضمان نوع من التوازن في مجال التعليم الموسيقي. وبخصوص نشاط المعهد بشكل عام، فقد تم التأكيد على أن هناك مشاريع مستقبلية "ستعود بالنفع على هذه المؤسسة "، من بينها مستجدات تطبع هذا الموسم، منها إنشاء جوق سامفوني تابع للمعهد يتكون تقريبا من 100 عازف من مختلف المواد والآلات ( يعزف العربي الكلاسيكي والمغربي والأندلسي)، علاوة على خلق جوق للطرب الأندلسي وآخر لطرب الملحون، ثم جوق للموسيقى العصرية ( الجاز). كما أن المعهد على أبواب إعداد حفل فني كبير، إضافة إلى سهرة للبالي، وهو توجه يساهم لا شك في تنشيط الحياة الثقافية والفنية بمدينة تطغى عليها خدمات المال والأعمال. فالتكوين الموسيقي يكتسي أهمية بالغة ليس فقط في التنشيط الثقافي والفني، لكن أيضا في مجال بناء شخصية المستفيد، وربما في تخريج مشاريع فنانين كبار قد تكون لهم كلمة وبصمة في المستقبل.