يردد اليمين واليمين المتطرف ببلدان الاتحاد الأوروبي خطابا معاديا للهجرة والمهاجرين أثناء توجههما للناخبين بل إن الهجرة تتحول إلى مشجب تعلق عليه كل مشاكل هذه البلدان، ورأينا كيف كانت الهجرة أحد الأسباب الرئيسية التي أقنعت البريطانيين بالخروج من «البريكسيت»، وما كان لذلك من انعكاسات اقتصادية وسياسية لم تكن في صالح هذا البلد، لكن المفارقة، أنه استقبل، بعد خروجه سنة 2016 وفي نفس الوقت، أي بعد ست سنوات، 600 ألف مهاجر من خارج أوروبا لتغطية النقص الديموغرافي الكبير الذي يعاني منه. هذا اليمين المتشدد والعنصري هو الذي مكن العديد من السياسيين من الوصول إلى الحكم بأوروبا باسم محاربة الهجرة، لكن أثناء وصوله إلى الحكم بعدد من هذه البلدان كإيطالياوهنغاريا، فإنه لا يتردد في مراجعة موقفه وفتح الباب أمام اليد العاملة القادمة من الخارج من أجل سد الخصاص الكبير والناتج عن التراجع الديموغرافي الكبير الذي تعرفه هذه البلدان، أي أن هذا اليمين يلجأ إلى الهجرة بعد أن أقنع ناخبيه أنه سيقوم بإغلاق الحدود وطرد المهاجرين من أراضيه. هذه الوضعية مست بلدانا، مثل إيطالياوهنغاريا، التي تحكم بها أحزاب يمينية متطرفة، وذلك بسبب الوضع الديموغرافي في كل دول الاتحاد الأوروبي حيث يبلغ متوسط الولادة لكل امرأة 1,5 طفل، ومتوسط العمر المتوقع أكثر من 80 عاما، بحسب وكالة الإحصاء الأوروبية «يوروستات». بسبب هذه الوضعية الديموغرافية يجد اليمين نفسه في موقع لا يحسد عليه، فمن جهة يؤجج الرأي العام ضد الهجرة، ويحملها أسباب كل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها بعض الفئات بهذه المجتمعات، وفي نفس الوقت، وتجاوبا مع الحاجيات الاقتصادية للبلد، يضطر إلى نهج سياسة الاستقبال للهجرة الوافدة. هذه الوضعية تجسدها بعض بلدان الاتحاد الأوروبي التي تعيش نوعا من السكيزوفرينيا في تعاملها مع الهجرة الوافدة كإيطاليا مثلا ، فجورجيا ميلوني، رئيسة الوزراء حاليا، التي كان لها خطاب في المعارضة يرى وصول المهاجرين ب»الاجتياح والاستبدال الإثني». بمعنى أنها كانت تقول للناخبين إن الهجرة ستبدل سكان إيطاليا البيض بسكان قادمين من إفريقيا، في تبنيها لنظرية «الاستبدال الكبير» التي يروج لها المفكر العنصري الفرنسي رينو كامي، والتي مكنت اليمين المتشدد من حشد عدد كبير من الناخبين، توقع اليوم على مرسوم لاستقبال الآلاف من المهاجرين لإنقاذ اقتصاد إيطاليا، في تناقض مع خطابها الانتخابي ووعودها للناخبين، وهي نفس وضعية رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الذي يردد خطابا معادي للهجرة باسم الدفاع عن أوروبا المسيحية، لكن هنغاريا تستقبل كل سنة آلاف اليد العاملة المهاجرة من أجل سد حاجة اقتصادها ومشكلها الديموغرافي، في حين ترفض استقبال لاجئي الحرب والمشاركة في «آلية التضامن الأوروبي الطوعية»، التي تنظم نقل طالبي اللجوء بين دول الاتحاد الأوروبي. الإعلام الأوروبي نفسه أذهله هذا التحول الجذري والمفاجئ في مواقف زعماء اليمين المتطرف المعادي للهجرة، خاصة في الحالة الإيطالية، فقد كانت جورجيا ميلوني، يمين فاشي، نائبة في صفوف المعارضة، ترى أن وصول 500 ألف مهاجر في ثلاث سنوات إلى إيطاليا اجتياح منظم واستبدال اثني عظيم لسكان إيطاليا. في الصيف الماضي، عندما كان أغلب الإيطاليين يستمتعون بعطلتهم، وقعت على مرسوم حكومي يسمح بدخول 425 ألف عامل أجنبي إلى أراضيها في الفترة الممتدة بين 2023 و2025، وبررت هذه العملية بالوضع الديموغرافي في إيطاليا وحاجة الاقتصاد الإيطالي إلى 833 ألف عامل خصوصا في قطاعي صيد الأسماك والزراعة، من أجل الحفاظ على وتيرة الإنتاج بإيطاليا وتأدية الديون الكبيرة لهذا البلد. الإحصائيات الأخيرة سواء الفرنسية أو الأوروبية الصادرة هذه السنة بينت التراجع الكبير في الولادات وتزايد عدد الشيوخ بهذه البلدان، والحاجة الكبيرة إلى اليد العاملة التي يطالب بها أرباب المقاولات، بإلحاح، لإنقاذ اقتصاد بلدانهم، رغم انتشار خطاب معادي للهجرة الوافدة ورغبة هذه البلدان في هجرة مختارة. نفس الوضعية توجد بفرنسا التي أصبح خطاب اليمين المتشدد يستحوذ على مشهدها السياسي ويستقطب حتى الأحزاب الكلاسيكية، وهو ما يفسر القانون الجديد للهجرة الذي يهدف إلى تحويل حياة المهاجرين إلى جحيم إداري لا ينقطع، حيث يقضي عدد كبير من المهاجرين أوقاتهم مع البيروقراطية الإدارية من أجل تجديد إقامتهم، وهو إجراء قد يدوم سنوات. لكن الواقع الديموغرافي والحاجة الاقتصادية لهما منطق آخر، رئيس جمعية أصحاب الأعمال الفرنسيين باتريك مارتان نعت الخطاب ب»التركيز المفرط» على المهاجرين غير القانونيين و»تجاهل» الجانب الاقتصادي في حين يتوقع أن تبلغ الاحتياجات بفرنسا بحلول سنة 2050 «3,9 ملايين عامل أجنبي». هذه الوضعية تعكس حالة السكيزوفرينيا التي تعيشها أغلب بلدان الاتحاد الأوروبي، التي تشهد تزايد قوة اليمين المتطرف، وهو وضع أصبح يمس حتى بلدان مثل ألمانيا التي عاشت التجربة النازية أثناء الحرب العالمية الثانية، وهو بلد يعيش تراجعا ديموغرافيا مهولا، وسوف يكون في حاجة إلى الملايين من العاملين، وحسب الإحصاءات الرسمية، ففي بداية 2030 سوف يحال 30 في المائة من سكانه على التقاعد، وهو ما سيخلق حاجة كبيرة إلى عدة ملايين من المهاجرين لتغطية هذا النقص والحفاظ على الاقتصاد من الانهيار، وهي وضعية ستمس كل بلدان الاتحاد الأوروبي، تقريبا، حسب إحصاءات وتوقعات «يوروستات». لهذا يعيش المهاجرون بهذه البلدان وضعية معقدة وصعبة التحمل، بين تزايد العداء تجاههم على المستوى السياسي، وبين حاجة الاقتصاد الكبيرة إلى عملهم وخبرتهم.