يعتبر المؤرخ المغربي محمد المازوني- المتخصص في التاريخ والتصوف- من بين جملة الباحثين الذين ساهموا في تأسيس مدرسة ونسق تاريخيين خلال الثلاثة عقود الأخيرة؛ ورغم أنه كرس جهوده لخدمة الجامعة المغربية مدرسا وباحثا حيث يشهد له عموم طلبته بكفاءته وصرامته التي ظل عليها منذ التحاقه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير منذ افتتاحها سنة 1984، فقد أبى إلا أن يكون مدرسا بالدرجة الأولى في ظل الخصاص المهول الذي ظلت الجامعة تعانيه خلال ثلاثة عقود خلت. وخلال هذه الفترة كان أغلب الأساتذة من الرعيل الثاني منشغلا بتحضير أطروحته التي استغرقت منهم عقدا من الزمن في أقل تقدير، وقد كان محمد المازوني واحدا من هؤلاء، فبالإضافة إلى المحاضرات التي كان يلقيها في المدرجات وإشرافه على بحوث أكاديمية، فقد اختار الرجل التأريخ لرباط أمغار باعتبار الجانب والرابط الجينيالوجي، وكذا التأريخ للزاوية المصلوحية التي ظلت الكتابة حولها مهمشة في المصادر اللهم إذا استثنينا ما تمت الإشارة إليه بالهمز واللمز في التقارير الاستخباراتية، أو نتف من وثائق العائلة أو ما روي من أفواه رجالات هذه الزاوية. وبشهادة زملائه، فإن محمد المازوني برع وانفرد في تدريس عدة مجزوءات أهمها تاريخ الدولة العثمانية والتاريخ الديني إذ كان من الصعب التمييز بين تخصصه. وخلال الموسم الجامعي 2007/2008شرعت كلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن زهر بأكادير في اعتماد أول ماستر لتاريخ الجنوب المغربي؛ هذا الأخير ساهم فيه الباحث في تخريج ثلة من الطلبة الباحثين هم الآن إما مدرسين في الجامعة أو أطر عليا في عدة وزارات، أو باحثين أكاديميين. وبالموازاة مع ذلك شارك الباحث في عضوية ورئاسة عدة لجن للتأهيل وملفات الترقيات إلى درجة أستاذ التعليم العالي. ومن جهة أخرى فقد راكم تجربة مهمة باعتباره من الأوائل الذين اشتغلوا على الأرشيفات الأجنبية؛ وبخاصة أرشيف الخارجية الفرنسية بنانط و أرشيف الحربية أو ماوراء البحار بإيكس أون بروفنس بباريس، كما خبر التعامل الجاد والرصين مع الأرشيفات الوطنية والملكية، وأرشيفات العائلات وبخاصة تلك التي ينتمي إليها. ويسعى اليوم محمد المازوني إلى إتمام مشروعه الاكاديمي بعد تقاعده من خلال التعامل مع وثائق بكر تزيد عن 100.000 وثيقة استعلاماتية واستخباراتية ناهيك عن وثائق الأرشيفات الافريقية. وباعتباره ابن دار الزاوية فإن الكتاب الذي نسعى إلى قراءته وتقديمه لعموم القراء سيجعلنا نطرح سؤالا جوهريا هل استطاع المؤرخ محمد المازوني وضع حدود موضوعية باعتباره مؤرخا وابن دار الزاوية المصلوحية؟ الكتاب الذي بين أيدينا يعد مرجعا لا مناص عنه بالنسبة لعموم الباحثين في حقل التاريخ الديني بشكل خاص، والتاريخ المغربي بشكل عام. وهو ثمرة مجهود مضني لأزيد من أربعة عقود كرس خلالها الباحث محمد المازوني جهوده في عملية جمع وتصنيف وتحقيق الوثائق ودراستها وتحليل مضانها باعتماد عدة مناهج؛ أولا باعتباره صارما في تطبيق المنهج التقليدي الذي أخذه عن أساتذته منهم على وجه الخصوص لا الحصر؛ إبراهيم بوطالب الذي أشرف على تكوينه و تأطير أطروحته حول زاوية تامصلوحت، ومحمد حجي باعتباره أول من خبر علاقة المخزن بالزاوية من خلال نموذج الزاوية الدلائية، وعبد الله العروي باعتباره مؤرخا ومفكرا ومدرسة تاريخية مجددة خاصة، دون أن نغفل البحاثة محمد المنوني الذي كانت له أفضال كثيرا على الباحث سيما عندما يتعلق الأمر بكيفية التعامل مع المخطوط، كما كان للأستاذ أحمد التوفيق دورا كبيرا في توجيهه. يقع كتاب « المنظومة المخزنية ومؤسسة الزاوية « لصاحبه محمد المازوني في حوالي 382 صفحة من الحجم المتوسط، وهو من منشورات «مؤسسة آفاق» صدر خلال شهر يناير من سنة 2024 بدعم من وزارة الشباب والثقافة والتواصل؛ يتكون الكتاب موضوع القراءة من مقدمة، وفصل تمهدي يعتبر بمثابة مدخل لا مناص عنه حيث يحاول من خلاله وضع القارئ في صلب موضوع وجوهر الكتاب من خلال تسليط الضوء عن ماهية الزاوية ووظائفها، ويعرج صاحب الكتاب على قسمين من دراسته؛ الأول موسوم ب «الزاوية المصلوحية من إنعاش البادية إلى خدمة المخزن»، والقسم الثاني عنونه ب «الزاوية المصلوحية من الحصانة المخزنية إلى الحماية الأجنبية» لينهي الباحث دراسته بخلاصات واستنتاجات تجعلنا كمهتمين بالتاريخ الديني أن نؤكد أن الباحث كان موضوعيا في دراسته باعتباره مؤرخا من جهة، وابن الزاوية من جهة أخرى سيما انه وضع حدودا صارمة بين انتمائه الجينيالوجي ومهمته كمؤرخ. وليس من باب المجاملة أن نؤكد على مسألة أخرى أكثر أهمية كون الرجل وضع حدودا أكثر صرامة بينهما باعتماد الوثيقة أولا وأخيرا واعتماد منهج التاريخ الجديد عندما يقتضي الأمر ذلك، وهي مسألة ليست بالهينة سيما عندما يعتمد مخطوطات نادرة وغير محققة أو وثائق فريدة وأصيلة. المادة المصدرية المعتمدة في الدراسة، والمنهج الصارم المتبع فيها بين المخطوط الأصيل والفريد، والوثائق التي كان له السبق في استنطاقها، والدراسات المنشورة الوطنية والأجنبية والمقالات المنشورة في المجلات المحكمة؛ يظل محمد المازوني حريصا على حسن توظيفها حسب الأهمية الكرونولوجية وأهمية الواقعة والحدث التاريخيين. ومن هذا المنطلق ومن خلال تتبع لائحة المصادر والمراجع المعتمدة في الدراسة ظل هدف صاحب الكتاب ليس تقديم إجابات مقنعة أو حقائق قطعية، بل محاولة توظيف منهج كتابة تاريخ الزوايا من أسفل، وذلك بتسليطه الأضواء على المهمشين في التاريخ والمسكوت عن أدوارهم فيه إذ يصرح قائلا : « إن المأمول من الدراسة هو بسط تجربة زاوية لم يكتب لها حظ الحضور الوازن في حقل التجارب الصوفية المغربية المشهورة، رغم ما راكمته من تراث أسرة صوفية عريقة، شهد لها مؤرخو سِيَرْ العصر الوسيط بتوارث الولاية والصلاح، كما يتوارث الناس المال». ولتأكيد طرحه هذا فقد اعتمد وثائق الزاوية المصلوحية، وفي عمومها عبارة عن رسوم ملكية أو مستخرجات إراثة بالإضافة إلى الظهائر السلطانية، ومكاتبات مخزنية ورسوم عدلية. والجذير بالذكر أن وثائق العائلة وفرت للباحث ضبط علاقة الزاوية بالمخزن وهي علاقة يمكن استقراؤها بأن الزاوية ظلت مدعمة من طرف المخزن من خلال ظهائر التوقير والاحترام، ووثائق الإنعامات المخزنية، ومن خلالها توصل الباحث إلى أن فترة الحسن الأول (1873/1894) شهدت فيها الزاوية طفرة نوعية وانتعاشا قل نظيره مقارنة مع نماذج أخرى من الزوايا، حيث أن الوثائق المتحصل عليها تعود لفترة هذا السلطان في حين تنعدم خلال فترة خلفه مولاي عبد العزيز ومولاي عبد الحفيظ أو خلال فترة استبداد الحاجب السلطاني أحمد بن موسى، والملاحظ حسب صاحب الكتاب أن هذه الوثائق لا تؤرخ للوظائف الكلاسيكية للزاوية مثل الوظيفة التعليمية أو الوظيفة التحكيمية، كما لا توجد وثائق عائلية تؤرخ لاقتصاد الزاوية سيما أنها كانت لها أرقام معاملات مبهرة في ما يخص تجارة الزيتون في الجنوب المغربي. ولابد من التأكيد أن تاريخ الزاوية ظل حكرا على المنتقى من أفواه الأحفاد ومن تربطهم صلة بالزاوية وفي عمومها عبارة عن مرويات قد تفتقد للموضوعية ويسيطر عليها الطابع الذاتي و المنقبي المبالغ فيه. لكل هذه الأسباب عرج صاحب المؤلف على فحص محفوظات الخزانة الحسنية، والأرشيفات الوطنية والأجنبية لوضع حدودا بين الذاتية والموضوعية وتقييم ما نسب للزاوية ودحضه أو قبوله. كما حاول من خلال دراسته ردم الهوة الشاسعة بين المنقبة المقدسة والتاريخ باعتباره علم له منهجه الخاص. ومن جهة أخرى انفتح صاحب الكتاب على أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية بنانط (CADN) حيث سيمكنه لا محالة من ضبط العلاقة بين الزاوية والمخزن، أو بينها وبين الإقامة العامة الفرنسية أو حيثيات وظروف ارتمائها في أحضان الحماية القنصلية البريطانية، وبفضل هذه الوثائق التي طبعت بالسرية فقد أمكن للباحث مقارعة الطرح الوطني بالطرح الأجنبي وتحديد هَنَّات ما أشير إليه في الوثائق الأجنبية وتصويبه. إشكالية الدراسة وجرأة الباحث في حلها تحاول دراسة محمد المازوني أن تنعزل عن الطرحين الكولونيالي أو الوطني، ويحاول صاحبها أن يقدم نظرة المؤرخ الموضوعي المسلح بأدوات المنهج التاريخي الجديد وذلك انطلاقا من معالجة ثلاث تيمات هي الزاوية – المخزن- التاريخ المغربي من خلال النبش فيها انطلاقا من الرصيد الأجنبي وبخاصة الفرنسي الذي سعى مدونوه على الدوام – من ضباط الشؤون الأهلية- البحث في علاقة الزاوية والمخزن من منطلق استعلاماتي واستخباراتي لمعرفة الواقع المزمع التعامل معه لاحقا بعد بسط السيطرة الاستعمارية على المغرب، ومن جهة أخرى تقييم الدراسات المغربية حول هذه العلاقة والتي جاءت في مجملها لا تعدو أن تكون دحضا للطرح الكولونيالي. ومهما ظل أصحابها حذرين أثناء الرد على مزاعم الأطروحة الاستعمارية أو تصحيحها لكن الخلاصة التي انتهى إليها معظم الدارسين المغاربة أنهم وجدوا أنفسهم- حسب المؤلف- « قارئين للتاريخ المغربي بأكمله بدعوى البحث في تاريخ التصوف» وانطلاقا من هذا التصور المزدوج الكولونيالي والوطني سيسعى محمد المازوني تقديم رؤية جديدة لهذه العلاقة وهي رؤية المؤرخ التي لا تعدو أن تكون كشفا للغمة عن أحوال زاوية مغربية مارست أدوارا طلائعية لكن لم يكتب لها أن تحظى بحظوة زوايا أخرى كان من حسن طالعها أن درست من طرف الأجانب والمغاربة بشكل خاص. المنهج المتبع في الدراسة ظل محمد المازوني حريصا على اعتماد الوثيقة ولا شيء إلا الوثيقة باعتبارها الحجة الدامغة لدحض الطرح الكولونيالي أو تثبيت مزاعم الطرح الوطني المنافح، بل ويبدو صارما أكثر من اللازم عندما كان يدعو طلبته إلى اعتماد الوثيقة وتحليل مضانها والتأكد من أصالتها وبهذا المعنى فهو ظل مقتديا بأستاذه جرمان عياش، الذي دعا في أكثر من مناسبة، طلبته إداك بمدرجات الشريف الإدريسي بضرورة «عصر» الوثيقة ولعل هذا الطرح باديا في دراسة المؤلف الشيء الذي جعل استنتاجاته مختلفة إلى حد ما عن نتائج الدراسات السابقة. ومن جهة أخرى فقد اعتمد صاحب الدراسة منهج كتابة التاريخ من أسفل محاولة منه كتابة تاريخ أكثر شمولية لظاهرة الزوايا؛ فمن خلال نموذج الزاوية المصلوحية أمكن لنا قراءة التاريخ الديني للمغرب إذ لا نبالغ إذا شاطرنا الباحث استنتاجه الغير المعلن أن تاريخ المغرب هو تاريخ الزوايا، وأن تاريخ المغرب لا يمكن إطلاقا تناوله بمعزل عن التاريخ الديني ومنظومة المخزن. متن الدراسة وأصالتها إذا كانت معظم الدراسات حول علاقة الزاوية بالمخزن تتأرجح بين مسلمتين على أن الزاوية ظلت قوية بمعزل عن المخزن، أو أن هذا الأخير ساهم في إضعافها وتقويتها حسب الحاجة، أو استئصال جذورها في حالة ممانعتها عن الطاعة وتعنتها في خدمته كما هو الحال بالنسبة للزاوية الدلائية، فإن محمد المازوني ومن خلال دراسته يدعو إلى إعادة قراءة ما اعتبرناه إلى حد قريب مسلمات بديهية لا يجب الخوض فيها، إذ ستكون النتيجة مثل الخرقاء وجدت صوفا لا تجدي نفعا ولا تشفي غليلا، ولهذا جاءت دراسة الباحث مغامرة ومقامرة في ذات الوقت عندما يعيد استنطاق المفاهيم الثابتة في الاستغرافية الكلاسيكية مثل؛ المرابطة والصلاح والزاوية والمقدس … ليخلص الباحث أن إعادة استنطاق هذه المفاهيم ذات الوزن الكبير في حق التاريخ والتصوف، ستقدم لا محالة تصورا جديدا مفاده أن التراث الصوفي هو مصدر لكل تاريخ المغرب. خلاصة وتركيب اتضح من خلال نموذج الزاوية المصلوحية المحدودة الإشعاع مقارنة مع نماذج أخرى ذاع سيطها أن علاقتها بالجهاز المخزني ظلت قائمة على تثبيت شرعية الدولة مقابل تثبيت الفعل الصوفي لشيوخها ومقدميها؛ فهي تتقوى به وتضعف بانكسار شوكته، وهو الأمر الذي أدركه شيخ الزاوية محمد بن سعيد (1289) إذ استوعب أن تدبيره لأمور الزاوية ومصالحها لن يتحقق إلا عبر الانخراط في الجهاز المخزني ومنظومته والقطع مع تطلعات سلفه الرامية إلى تثبيت كيان خاص بالزاوية في منأى عن المخزن. وانتهى محمد المازوني إلى استنتاج لا يمكن الجدال فيه وهو أن الفعل الصوفي ظل ولايزال مكملا للتمثيل السياسي للدولة من خلال تثبيت رجالات الزوايا لمشروعية الإمام ونجاحهم في وظيفة الضبط الاجتماعي لساكنة القبيلة من خلال إخضاع وتطويع الرعية. وهي الوضعية التي ظلت عليها زاوية تامصلوحت وغيرها من الزوايا منذ الحكم السعدي إلى يومنا هذا. ومهما حاولت زاوية تامصلوحت إثبات نفسها ككيان خاص من خلال قيامها بأدوار طلائعية أو مكملة لأدوار المخزن فإن أدوارها هذه لم تخرج قط عن إملاءات المخزن واختياراته وقناعاته مقابل انعاماته عليها. وقد ظلت الأدوار على ماهي عليه ولم تخرج أبدا عن قاعدة البيعة والطاعة وتبادل المصالح، كما هو متعارف عليه في العرف المخزني، إلا مع القرن التاسع عشر حيث أصبح المغرب محط أطماع استعمارية، وتنافس إمبريالي شرس عندما ضرب المستعمر في العمق أركان الدولة، فكانت الزاوية المصلوحية أول المستهدفين عندما استميلت من طرف بريطانيا ومنحتها حماية قنصلية خاصة الشيء الذي جعل شيخها رجل أعمال مواجها للمخزن من خلال الجاه والمال؛ وإذا كان شيخ زاوية تامصلوحت ارتمى في أحضان بريطانيا محميا فإن هناك نماذج أخرى حدت حدوه كما هو الحال بالنسبة لشريف وزان الذي استفاد من الحماية الفرنسية، وشريف تازروالت سيدي محمد بن الحسين أوهاشم الذي استفاد هو الآخر من حماية ألمانية سرية تكشفها وثيقة ديبلوماسية فرنسية سرية فريدة. هامش: حاول محمد المازوني تتبع علاقة الزاوية المصلوحية منذ التاسيس بداية القرن السادس عشر إلى حين وفاة الحسن الأول (1894) وهي فترة ناهزت أربعة قرون تجعل صاحبها مغامرا في ظل ندرة الوثيقة ولعل صاحب الدراسة يعترف صراحة بالصعوبات التي واجهته خلال القرون الثلاثة الأولى حيث خلث اخبار الزوايا في المصادر وانعدمت الوثائق التي تؤرخ لها. أستاذ باحث في التاريخ الديني