لم تعد الكتابة تقع خارج الحالة العامة؛ وكل ادعاء يخالف هذا الأمر يبدو باطلا ومثيرا بدرجة كبيرة للسخرية. الكل يكتب، ولكل كاتب، حاليا، إصبع صغرى تعبر عن محتوى «رأس» صاحبها وانشغالاته وغرائزه ورغباته. «الجميع يسمع صوت الجميع»، كما يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير. هذا هو «المرض» الذي حل (أو يكاد) بالجميع. مرض عام يلتحق به الآلاف يوميا كما لو كان ثقبا أسود يتدبر أمره بسهولة ليبتلع جميع الذين يصادفهم في طريقه. الكل يكتب، ولا شيء متاح أكثر من تلك الكلمات المتخاذلة والنصوص المشققة والقراء الجوعى. يكتب وينشر ويُقرأ ويتفاعل، ويُجري حوارات، ويُعَقِّب، بل قد يظفر بجوائز وشهادات مادية أو تقديرية.. إلخ. جوع عام، لا ينشد شيئا آخر سوى الاستمرار، ولا يكون أفضل حالا إلا إذا اقتنع هذا الكاتب أن لا مفر من من الإيمان بهذا «الإرغام الجديد»: الكتابة بصراحة قوية، وباستسهال تام، وبقناعة شاملة، وبيقين حاذق، وبوقاحة لا تعاني من الإمساك، وبإيمان أعمى بأن بوسعه أن يحكم وثاق العالم بالحبال والسلاسل. لا يجري الحديث هنا عن التمييز بين الكاتب والمُدوِّن، ولا المقارنة بينهما لقياس من هو الأجدر بالعملية. لم يعد هذا السؤال مهما. وإذا طُرح، فإنه مثل لوح زجاج يتحطم على الحجارة. لا أهمية لأفلاطون أو سقراط أو أرسطو أو الفارابي أو ابن سينا أو ابن رشد أو كانط أو فيخته أو شيلنغ أو سبينوزا أو هيجل أو شوبنهاور أونيتشه أو ماركس أو ديريدا أو برغسون أو فوكو أو سارتر أو كامو.. إلخ. لا أهمية إطلاقا لتاريخ الفكر الإنساني، ما دامت الكتابة توقفت عن أن تكون نشاطا فكريا يتطلب مهارات خاصة، ومزاجا خاصا، وقدرة لا تضاهى على صيد اللامرئي والهامشي، وعلى بناء الأفكار والخيالات، وابتكار روائز الإثبات والنفي والفرضيات. الكتاب الطارئون (كتاب الهواتف الذكية) يفضلون الانتظار بسكون في زواياهم. غير مرئيين. بارعون في اهتبال الفرص. انفعاليون. محاربون يقومون بغاراتهم السريعة ثم يتوارون عن الأنظار. لا وجوه ولا أسماء لهم. هم «لا أحد» و»كل أحد». يتقدمون خطوة خطوة، ويسقطونك، إذا لويت قلمك في اتجاههم، في المحظور. يخترعون لك «سيرة» ويغرقونك في قذارتها. لا يخاطبون العقل، ولا يطمحون إلى ذلك. ومن ثم، ينبغي أن تتعلم الحذاقة لتتحاشاهم. لا يعاني هذا النوع من الكتاب من أي عوائق، ولا يحاذر من أي طريق، ولا ينتظر أي اعتراف، ولا يبحث عن أي معبر ثابت للوصول. لقد أضحت الإصبع لدى هؤلاء حاسة حادة عير معنية بما إذا كانت تحشر نفسها في حديقة عطور أم مكب نفايات. الأمر الأساسي الذي يهمُّها واعتادت عليه هو أن تكتب بانفعال. هذا هو القانون المطلق؛ أن تكتب دون أساتذة، ودون أي مرجعية اللهم المرجعية الغرائزية التي تركل العقل وتنبذ العلم. الكتاب الطارئون كلهم جياع. مشردون. يتدفقون من كل مكان. لا وجوه لهم ولا أشكال. يكتبون لخلق «إثارات» سرعان ما ينصرفون عنها إلى شيء آخر. وإذا سوّلت لك نفسك أن تعارضهم أو تبرهن على أخطائهم، فإنهم يملكون كل الوسائل لإرغامك على المغادرة. يصفقون وراءك الباب دون رحمة ويكسرون الجرار. فأي خيار لديك؟ بارعون في اجتذاب الناس، ولا يتمتعون بأي صبر لإرجاء مواجهة «إما قاتل أو مقتول». مباشرون جدا. أشباح في كل وقت. جيشان عاطفي متمدد. حروب عبثية وكتابات فاقدة للمعنى، ولا يهمهم المعنى؛ كأنهم ينتزعون أنفسهم من «ثقل الوجود» ليحصلوا على «خفة» لم تكن لهم في اليوم السابق. لا يكتبون ليقوموا بوظيفة تليق بالمكتبات والمتاحف أو المنصات أو المدرجات، ولا ليذكرهم التاريخ بتبجيل، بل يكتبون لأنهم أبناء الهواتف المحمولة والثورة الرقمية المتسارعة. كل أجسادهم تتركز في تلك الإصبع. لم يعد الرأس مهما (كما تخبرنا معجرة سان دوني مقطوع الرأس). بل المهم هو أن تعرف كيف تقول لنفسك: «ليس من السيء أن تكون كاتبا سيئا!» أو «لا وجود لكاتب سيء!» على غرار ما قاله الباحث الأكاديمي الفرنسي ماكسيم ديكو في كتابه «في مديح القارئ السيء». كُتَّاب «الإصبع الصغيرة» لا يحاولون إرباك قناعات الآخرين أو تغليطها وتغييرها. بل يُعززونها، ويخلقون لها مناخا للانتشار. يبحثون فقط عن الإعجاب، وهم لذلك وحده يساهمون في النقاش العام بقدر كبير من الاحتشاد في الاتجاه الغالب. لا يهمهم التميُّز في الرأي، أو التغريد خارج السرب، أو أي ندية تنتمي إلى صراع الجبابرة أو «صراع الأفكار». الكل يصب في الكل، واللغة بوصفها مهارة لم تعد قضية محورية. اللغة تعمل ضد نفسها، كما تعمل الكتابة الجديدة مع الركاكة والصورة ضد الاتساق، وضد المجاز، وضد العمق، وضد الانفتاح على المرجعيات الفكرية والفلسفية العلمية الكبرى. وتبعا لذلك، لا ينبغي أن يُفهم من هذا الكلام أن «الكاتب الإصبعي» ناقص ذكاء أو أنه يستحق الرثاء، أو أنه ساقط أو منحرف أو ضال. والأرجح أنه مظلوم ظلما متعاقبا، كما يقول عبد الله القصيمي، لأنه إنسان «مقاومته ليست أقوى من ضعفه وضروراته واستعداده الدائم للسقوط».