قليلة هي الكتب التي يظل الباحث، وفي العلوم الاجتماعية بعامة، يترقبها، بلهفة معرفية، حتى يلتهمها في الحال وفي إطار من «سُعار القراءة» تبعا لعنوان كتاب الناقد والأديب الفرنسي كلود ميشيل كلوني. ومن دون شك، فإن هذه الكتب، وعلى قلتها، من غير صنف الكتب التي ترتبط بسياق لترحل مع هذا السياق أو حتى قبل رحيله، ولاسيما في مثل زماننا هذا الذي صارت فيه الكتابات والتحليلات والتعليقات...، وفي العالم العربي ككل، لا تفارق، وفي النظر الأخير، وهاد «التوليف»، إن لم نقل «الترقيع»، فضلا عن «المضمر الترجمي» (إذا جاز المصطلح) في الكتابات والمقاربات والمساهمات... التي تدّعي «التأصيل» و«الإنتاجية». ومن الواضح أن تتفاوت كتب الصنف الأول تبعا لتفاوت الحقول المعرفية التي تنتسب لها هذه الكتب، وفي المدار ذاته الذي يفضي إلى تفاوت هذه الكتب وداخل الحقل الواحد بالنظر لتفاوت مرجعيات أصحاب هذه الكتب واختلاف توجُّهاتهم. ولا يبدو غريبا أن يحتل التاريخ المكان الأبرز في هذا السياق ومن خارج مربع «النظرة التراتبية» التي تعلي من التاريخ وعلى النحو الذي يجعله بمعزل عن «التشابك المثمر» مع سائر المعارف الإنسانية والعلوم الاجتماعية الأخرى. ومناسبة هذا الكلام هي كتاب المؤرخ مارك بلوخ «دفاعا عن التاريخ أو مهنة المؤرخ» الذي بمجرد ما أن استقرت عليه نظرتي الأولى (وفي صيغته العربية) حتى وجدت نفسي غاطسا في قراءته وعلى النحو الذي لم يجعل صفحة من صفحاته، بل فقرة من فقراته، تسلم من ملاحظاتي وخربشاتي وتعليقاتي في أي حيز متاح داخل الصفحة الواحدة. كتاب كلما تقدم الإنسان في قراءته شعر بنوع من الأسف المبطن للفراغ من قراءته. وكنت قد اهتديت إلى الكتاب أول مرة من خلال الكتاب المرجعي «التاريخ الجديد» الذي أشرف عليه، ومن موقع المساهمة أيضا، المؤرخ الفرنسي الأشهر جاك لوجوف، فضلا عن إحالات المؤرخ المفكر المغربي الألمعي عبد الله العروي على مارك بلوخ في مصنف حول «مفهوم التاريخ». فنحن، هنا، بصدد «إرشادات جادة» بتعبير أحمد الشيخ الذي ترجم الكتاب وقدّم له. وأهمية الكتاب ليست في «النهاية المأساوية» لصاحبه من قبل «الشر الهتليري» فقط، وإنما أهميته فيما انطوى عليه من «أفكار فولاذية» بخصوص التاريخ والمؤرخ. أفكار مثل «العقل المسيطر» في «التأريخ»، وتداخل الحقيقة والأخلاق، وملاحقة الكذب، وفضيلة أن يقول المؤرخ «لا أعرف» في بعض السياقات، ووضع التاريخ داخل لحظة الفكر، وتضافر العلم والأسلوب... إلخ. وكتاب «دفاعا عن التاريخ أو مهنة المؤرخ» من صنف الكتب التي كتبت في ظروف صعبة، وليس هناك ما هو أقسى من ظروف الحرب والنفي القسري، سواء داخل البلد الموطن أو خارجه. كتاب بلوخ يذكرنا بكتاب سارتر «الوجود والعدم»، وكتاب «المحاكاة» لأورباخ... إلخ. وعلى الرغم من أن كتاب بلوخ غير مكتمل فإنه سيظل من «الأعمال الكاملة في التاريخ» بتعبير جاك لوجوف. والكتاب لم يتم تداوله، بالشكل المطلوب الذي يليق بحجمه فقط، داخل الثقافة العربية، وعلى نحو ما عبّر عن ذلك بنوع من «التأسف» مترجمه. وما أحوجنا إلى مثل كتاب بلوخ في السياق المغربي «المكتمل» الذي لا يزال كثيرون فيه لا يميزون بين «التاريخ» و«التأريخ». يحيى بن الوليد