ماذا يعني أن تحمل حزمة حطب فوق ظهرك ليتدفأ الآخرون، بينما تغرق قدماك الحافيتان في تلال من الجليد؟ وماذا يعني أن تموت كل يوم بينما يساوي قلبك كنوز الأرض؟ أتساءل وأنا أفكر في علاقة كتابنا المغاربة بفان كوغ، هذا القديس الصاعد من «حقل مخالب» أخضر دون أن يكترث أنه يتسلق جرحه الغوير. أفكر في ذلك وأنا أستغرق في المظهر غير الأنيق لحياة «محترفي» الشعر والرواية والمسرح في بلادنا. فيكاد لا أحد يرتدي معطفا من حرير، أو يغطي جوعه بالخبز الساخن والحساء اللذيذ. فهم مصارعون، ولكنهم ليسوا على شاكلة مصارعي «السومو»، بل يقاتلون بيأس وإصرار كما لو كانوا يذودون أمام بنادق العدو عن الرمق الأخير. لقد مات فان كوغ فقيرا معدما في حين أن لوحاته قد بيعت بعد وفاته بملايين الدولارات. وقد اضطر هذا العملاق في إحدى نوبات مرضه إلى التخلي عن «أزهار السوسن» مقابل علبة دواء. ترى ما هي الأشياء التي يتخلى عنها هؤلاء الكتاب الذين يكتبون بلحمهم، ودون ضجيج، ودون هوس مادي يمتد من أسواق الشام إلى شوارع مانهاتن؟ مات شكري وكلنا نعرف أنه عبر الجحيم بسعادة. مات زفزاف وكلنا يعرف أنه امتلأ حتى آخر وجبة بالأكواخ والكتب المستعملة. مات البشير.. وجسده لم تفسده كل الزوابع التي تلقاها من الحقول والتراب. مات حوماري.. وراجع.. والمجاطي.. ومازال الكثيرون يتضورون جوعا وكمدا، ويواصلون الإمساك بالشمس. فهل فكرة الدفاع عن الوضع الاعتباري للكاتب المغربي مجرد وهم؟ وهل حسبه أن «يكتب جيدا ويكتب بشكل جميل»؟ وهل حسبه أن بكتب ويكتب، وفي آخر المطاف يرتدي الأكفان وينتظر أن يطلق المرض (أو اليأس) رصاصة على عناده؟ إني فعلا لأتساءل: ما الذي يجبر الكاتب على المشي حافيا في طريق من الإبر؟ لقد سبق للجميل أحمد بوزفور في لقاء بالدار البيضاء أن عبر عن رأي مخالف: «منذ سنتين أو ثلاثة سنوات، راجت بالمغرب أسطورة روجت كثيرا، ودافع عنها كثير من الكتاب، حول الوضع الاعتباري للكاتب.. حينها عبرت عن رأيي وما زال لدي نفس الرأي الذي عبرت عنه آنذاك، ومفاده أن هذا وهم، ما يطالب به الكتاب من وضع اعتباري. لأنه عبر التاريخ، ومنذ أن بدأت الكتابة، لم يكن هناك أي وضع اعتباري للكاتب، فهذا الأخير كان دوما ناقدا، كان دوما في المعارضة. كان الكاتب دائما مضطهدا، ليس لأن السلطات تضايقه.. بل لأنه هو يريد أن يبقى بعيدا عن السلطات وخارج المؤسسات لكي يستطيع أن يكتب شيئا ذا قيمة، إن دخل الكاتب إلى المؤسسة سوف يصبح جزءا منها ولن يكون له أي وضع اعتباري». صحيح أن الكاتب (أو بالأحرى المثقف) كان يقف دائما على يسار السلطة، لكن هل التنازع مع السلطة قدر مكتوب بمداد غير قابل للمحو؟ أليس بالإمكان اختراع مساحة حرة تسمح لهذا الكاتب بالوقوف ضد كل السلط (وليس مع المستبد) دون السقوط الحر في المرض والجوع؟ لقد صرخ الراحل عبد الله راجع صرخة خالية من القناع: «أحبابي أشعر حين أغادركم/ أن حذائي ليس لامعا/ وأن حذائي مربوط بالأسمنت». وهو ما ينم على أن الكاتب المغربي كان يعيش في «المهاوي» التي فرضت نفسها عليه دون أن يختارها فعلا، وأنه كان مدعوا إلى الإعلان عن انغماسه في القاع، وأنه طريد سلطة صنعت له معطفا من قش. فهل ما زال على هذا الكاتب- كي يكون معارضا لا يشق له غبار- أن يرتدي الأسمال وأن يقطن السطوح والأكواخ والسجون، أم أن عليه أن يتحول هو الآخر إلى سلطة مضادة للقبح والرداءة والفقر، وأن يدافع عن «وضع اعتباري» يليق به؟ والوضع الاعتباري، كما أتصور، هنا لا يعني الاصطفاف مع السلطة جنبا إلى جنب، ولا يعني الانتماء إلى المؤسسة الرسمية، ولا يعني التمسح والتكسب وإحناء الرأس والظهر والسير على البطون والركب. بل يعني في المقام الأول أن تتحول الكتابة (الحقيقة طبعا) إلى مهنة يمكن أن يتفرغ لها الكاتب دون أن يتضور جوعا، ودون أن يتحول إلى متسول، ودون أن يضطر إلى الارتماء من الطابق الواحد والعشرين!