كللت الزيارة التاريخية التي قام بها جلالة الملك مؤخرا إلى دولة الإمارات العربية المتحدة بإعلان شراكة موسعة شملت العديد من المشاريع الاستثمارية العملاقة من ضمنها ملف إحداث وتدبير أسطول بحري تجاري لصالح المغرب. وقد أصبح هذا الملف، في الآونة الأخيرة، يشكل هدفا استراتيجيا للمغرب أكده الخطاب الملكي الأخير الذي دعا إلى ضرورة توفير أسطول بحري تجاري وطني، ومواصلة العمل على النهوض باقتصاد بحري بسواحل الأقاليم الجنوبية للمملكة. حيث أشار العاهل المغربي، في خطابه، إلى ضرورة العمل على "تسهيل الربط بين مختلف مكونات الساحل الأطلسي، وتوفير وسائل النقل، ومحطات اللوجستيك، بما في ذلك التفكير في تكوين أسطول بحري تجاري وطني، قوي وتنافسي". وإذا كان المغرب يراهن اليوم بقوة على ميناء الناظور غرب المتوسط وميناء الداخلة الأطلسي اللذين سيتم فيهما ضخ استثمارات هائلة من طرف دول ة الإمارات العربية المتحدة، فإن توفر المغرب على أسطول بحري تجاري يشكل رهانا آخر من شأنه تقوية مكانة المغرب على الصعيدين الجهوي والدولي في مجال التجارة الدولية. 1 – ما حاجة المغرب اليوم إلى أسطول بحري قوي؟ ويشكل البحر اليوم أهم معبر للنقل والملاحة والتبادل التجاري بين البلدان لاسيما تلك الواقعة على مشارف البحار والمحيطات. في الواقع، فإن ثلاثة أرباع التجارة العالمية تمر عن طريق البحر، ويعد النقل البحري حلقة وصل استراتيجية أساسية، خاصة بالنسبة للدول البحرية مثل المغرب. والمغرب المنفتح على واجهتين بحريتين، بشريط ساحلي يبلغ حوالي 3500 كلم تقع على مفترق طرق التجارة الرئيسية بين أوروبا وأفريقيا وأمريكا والشرق الأوسط هو بحكم طبيعته الجيو-استراتيجية بلد بحري بامتياز. ويتوفر المغرب حاليا على 43 ميناء، منها 14 ميناء مفتوحا للتجارة الدولية تؤمن أكثر من 96% من التجارة الخارجية للمملكة، علما أن هذه الموانئ ستتعزز بمشروعي ميناء الناظور غرب المتوسط وميناء الداخلة الأطلسي. وبفضل هذه البنيات التحتية، التي تتماشى مع معايير المنظمة البحرية الدولية، يسجل المغرب رواجا بحريا استثنائيا يتجلى في نقل ما يزيد عن 195 مليون طن من البضائع و5 ملايين مسافر ومليون سيارة سنويا، فضلا عن معالجة ما يقارب 9 ملايين حاوية بالموانئ التي تربط المغرب ب 80 دولة و180 ميناء عبر العالم، واحتلال المغرب الرتبة 20 عالميا في مجال الربط البحري بفضل المركب المينائي طنجة المتوسط. وفي بيئة تنافسية متزايدة، يحتاج المغرب أكثر من أي وقت مضى إلى قطاع النقل البحري التنافسي والديناميكي بما يعزز استقلاليته وسيادته التجارية من جهة، وبما يتماشى مع المشاريع الاستراتيجية و الإصلاحات الكبرى التي أطلقتها المملكة من جهة أخرى، بهدف تحسين القدرة التنافسية والإنتاجية للنسيج الاقتصادي الوطني. وهنا يأتي دور قطاع النقل البحرى، كمكون ضروري لتعزيز المجهود الاستثماري الضخم الذي بذلته الدولة ولاتزال في مجال البنيات التحتية المينائية، من خلال وجوده في مستوى جميع الروابط المكونة لسلسلة القيمة، من المنبع إلى المصب. وبالمثل، فإن دور قطاع النقل حاسم في تكامل الاقتصاد الوطني واندماجه في الاقتصاد العالمي. وانطلاقا من الإرادة التي عبر عنها جلالة الملك محمد السادس، في تعزيز البعد الأطلسي للمملكة، على غرار الارتباط القوي للمغرب بأوروبا عبر الواجهة المتوسطية، أمر جلالته بجعل الواجهة الأطلسية بوابة للمملكة نحو إفريقيا ونافذة لانفتاحها على الفضاء الأمريكي، غايتها تحويل هذه الواجهة إلى فضاء للتواصل الإنساني والتكامل الاقتصادي والاشعاع القاري والدولي، وتسهيل الربط بين مختلف مكونات هذا الساحل، وتوفير وسائل النقل والمحطات اللوجيستيكية، بما في ذلك التفكير في تكوين أسطول بحري تجاري وطني قوي وتنافسي. 2 – كيف تهيمن السفن الأجنبية على 95 %من التجارة الخارجية للمملكة ؟ ورغم أهمية التجارة البحرية، فإن مساهمة الأسطول الوطني، الذي يضم حاليا 13 سفينة تابعة فقط (معظمها مكتراة)، مقابل 68 سفينة كانت مملوكة للمغرب سنة 1989، لا تمثل سوى 5% من حجم التجارة الخارجية للمغرب. وبالتالي فإن الأسطول البحري الوطني لا يرقى إلى مستوى الطموحات التي تظهرها المملكة، رغم أن النقل البحري يوفر 97% من التجارة الخارجية وأغلبية صادرات المغرب إلى البلدان الشريكة، خاصة الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، لا يزال النقل البحري الوطني متخلفا نسبيا لأسباب هيكلية وتنظيمية عجلت بإفلاس الشركات الوطنية العمومية والخاصة (كوماناف، كوماريت، IMTC ...) والنتيجة أن موانئ البلاد أصبحت خالية من السفن المغربية التي تركت المجال فارغا للسفن الأجنبية التي تستحوذ على المبادلات التجارية علما أن ما يقرب من 98٪ من الصادرات المغربية تتم عن طريق البحر. حصة المشغلين المغاربة في هذا الحجم بالكاد 7٪. حيث الشركات الأجنبية تحتكر أكثر من90% من نقل البضائع بالمغرب. وهو ما يعني أكثر من 70 مليون طن تولد رقم معاملات يفوق 20 مليار درهم. وفي هذا المناخ الصعب يكتفي ملاك السفن المغاربة بنقل أقل من5 ملايين طن من الحبوب و 9 ملايين طن من الهيدروكربورات المستوردة كل عام. ووفقا لدراسة وضعتها شركة ALG Transportation Infrastructure & Logistics تنضم له، فقد انخفض معدل تغطية رصيد الشحن الوطني إلى ما يقرب من6% مقابل 25% في الثمانينات. ونظراً لعدم وجود خطوط مباشرة تلجأ شركات الشحن المغربية الى التركيز على أنشطة إعادة الشحن. ووفقا لنفس الدراسة، فإن هذا يزيد من أسعار الشحن وتمديد زمن العبور بين المنافذ. علما بأن الخطوط الموجودة هي في الأساس خطوط مسافات قصيرة، تتمحور حول البحر الأبيض المتوسط وتعتمد على موانئ الشحن مثل طنجة المتوسط والجزيرة الخضراء، فالنسيا أو مالطا. و في «قطاع» الحاويات، حيث إمكانات النمو كبيرة، أصبح المشغلون المغاربة نادرين أو شبه معدومين. وبعد إفلاس كوماناف وكوماريت ظلت شركة IMTC هي المشغل المغربي الوحيد في خطوط شحن الحاويات قبل أن تتوقف هي الأخرى عن النشاط بعد وفاة مالكها محمد قاريا. وفي مواجهة عدد كبير من شركات الشحن الأجنبية، نجد عددًا أقل من الشركات البحرية: CMA CGM وMSC وMaersk التي تمثل أكثر من 80% من حصة السوق. الوضع الذي لا يفيد المنافسة بتاتا. بل هو ما يساعد على تسهيل الاتفاقات والتواطؤات بين الشركات بشأن أسعار الشحن. وهكذا فإن الأضرار التي لحقت بالقطاع هائلة جدا، أدت مجتمعة إلى إفلاس الشركات المغربية، مع ما خلفه ذلك من انعكاسات كارثية، فقد أدى انهيار كوماريت-كوماناف، على سبيل المثال لا الحصر، إلى خسارة 5000 وظيفة و4 مليارات دولار. وبعدما توقفت IMTC بدورها عن أنشطتها، فإن اعتماد المغرب كليا على الشركات الأجنبية تحول مع الوقت إلى ضرورة حتمية لا مفر منها. 3 – لماذا ظل الاتحاد الاشتراكي ينبه منذ 2011 إلى مخاطر التفريط في الأسطول البحري المغربي؟ وفي ظل هذا الواقع ، ظل الاتحاد الاشتراكي منذ سنة 2011 ، عبر فريقه البرلماني تارة وعبر إعلامه الحزبي تارة أخرى، ينبه الحكومات المتعاقبة إلى مخاطر التفريط في أسطوله البحري الذي أخذ ينفرط كالعقد حتى ضاعت كل السفن التي كانت تملكها الشركات المغربية حتى أصبح الأجانب يفرضون سيطرتهم على أنشطة النقل بالموانئ الوطنية. وقبيل الخطاب الملكي الأخير الذي تطرق للموضوع، كان الفريق الاشتراكي قد وجه سؤالا إلى وزير النقل واللوجيستيك حول إمكانات النقل البحري. كما تساءل الفريق عن خطط الحكومة للنهوض بهذا القطاع الاستراتيجي في منظومة النقل. مؤكدا أن المغرب الذي يتوفر على واجهتين بحريتين، ويقع على مضيق جبل طارق، أحد أهم المضايق الدولية، وتمكن من إنجاز موانئ كبرى يفترض توفره على أسطول بحري وطني يعفي المملكة من الكلفة العالية للنقل البحري التي تستهلك مبالغ مهمة من العملة الصعبة، وأن يعزز مكانته الدولية في أحد أهم الأنشطة التي تعتبر شريان الاقتصاد العالمي؛ لكن ورش النقل البحري بقي من الأوراش المسكوت عنها. وفي الواقع، وعلى الرغم من أهمية التجارة البحرية، فإن مساهمة الأسطول الوطني في حجم المبادلات الخارجية لا تكاد تتعدى 5%، وهي نسبة لا ترقى إلى مستوى طموحات المغرب وتطلعاته في هذا القطاع. وفي غياب أسطول بحري مغربي، فإن معظم أنشطة التجارة الخارجية، تهيمن عليها السفن الأجنبية، حيث إن الأسطول الأجنبي يهيمن على جميع الخطوط التجارية كما يمثل أيضا غالبية الحركة البحرية للمسافرين. وللتعويض عن هذه النواقص، التزمت المملكة خلال العقد الماضي بسياسة جديدة تهدف إلى تحرير القطاع من أجل دعم التحولات التي أملتها المتغيرات الدولية، مثل العولمة وتحرير الخدمات. 4 – لماذا يراهن المغرب على الإمارات العربية المتحدة لتطوير موانئه وتعزيز أسطوله البحري؟ خلال الزيارة الملكية الأخيرة إلى الإمارات العربية المتحدة، تم التوقيع على شراكة استراتيجية موسعة وغير مسبوقة في العديد من المجالات الاستراتيجية ن من بينها قطاع الموانئ والنقل البحري ، وإذا كانت تفاصيل هذه المشاريع ما زالت قيد التطوير والتباحث بين البلدين الشقيقين، فإن التمويل ليس إلا واحدا من عناصر هذه الشراكة، و في الواقع ، وحسب ما صرح لنا به مصدر مقرب من هذا الملف، هناك ثلاثة جوانب رئيسية تحكم هذه الشراكة المغربية الإماراتية في هذا الملف، أولها مالي صرف، ستتولى الصناديق الاستثمارية السيادية هندسته خلال اللقاءات المقبلة بشكل دقيق لتمويل كافة مشاريع البنى التحتية المينائية ومناطق التجارة الحرة والمانيء.. وثانيها، وهو الأساسي ، يتجلى في نقل الخبرة والتجربة التي راكمتها الإمارات العربية المتحدة في هذا القطاع على مدار السنوات الماضية حيث تعد مجموعة موانئ أبو ظبي، واحدة من أكبر الشركات العالمية في تدبير الموانئ و أنشطة اللوجيستيك حيث استثمرت مجموعة موانئ أبوظبي بشكل كبير في التكنولوجيا الحديثة والبنية التحتية عالمية المستوى، كما استثمرت المجموعة كثيرا في قطاع المدن الاقتصادية والمناطق الحرة حيث تتولى مسؤولية الإشراف على العمليات في مجموعة كيزاد، أكبر مركز متكامل للتجارة والصناعة والخدمات اللوجستية في المنطقة. كما استحوذت مجموعة موانئ أبوظبي على شركة «ميكو» بهدف تقديم حلول شاملة إلى المتعاملين. وقد أتاح هذا الاستحواذ للمجموعة توسعة أسطولها ليضم أكثر من 400 سفينة تنقل أكثر من 4.9 مليون طن من البضائع عبر 42.7 مليون كيلومتر كل عام. أما على مستوى القطاع البحري والشحن فإن الإمارات العربية من خلال مجموعة أبو ظبي هي التي تملك «مجموعة سفين»، التي تضمّ محفظة من ثلاثة قطاعات رئيسية تغطي الخدمات البحرية، والشحن وإعادة الشحن، وخدمات حقول النفط والغاز البحرية، والخدمات تحت سطح البحر. وأكاديمية أبوظبي البحرية، التي توفر التعليم والتدريب، و»أبوظبي البحرية»، الجهة المسؤولة عن تنظيم الممرات المائية والمنظومة البحرية في إمارة أبوظبي. كل هذه الخبرات مجتمعة سيتم، بفضل اتفاقية الشراكة الموسعة بين المغرب والإمارات، نقلها إلى المملكة، هذا بالإضافة إلى أن المغرب قد يصبح وجهة استثمارية مفضلة لمجموعة موانئَ دبي العالمية الموجودة، في 7 دول أفريقية. إذ تمثل أفريقيا % 10 من إيرادات عملاق الموانئ. كما يوجد لاعبون إماراتيون آخرون نشطون في القارة. أما جانب الثالث الذي يتوقع أن تشمله الشراكة، فهو الجانب الصناعي حيث يتوقع أن يستفيد المغرب بموجب هذه الشراكة من خبرة الإمارات العربية المتحدة من خلال شركة أبوظبي لبناء السفن المتخصصة ببناء السفن الحربية والتجارية وإصلاحها وصيانتها وإعادة تجهيزها وتحويلها، إذ تتوفر على أكفأ أحواض بناء السفن في المنطقة بربع قرن من الخبرة. كما توظف أحدث التكنولوجيا لرفع جاهزية الأسطول إلى أقصى حد، ولزيادة العمر الافتراضي للسفن، وخفض التكاليف الكلية طوال فترة عملها.