يقول المقاتلون هناك: ننتظر لساعات طويلة أمام شاشات الهواتف ماذا سيحل برجال يأكلون الشمس المغمى عليها بين شقوق أرواحهم. لا يتعلق الأمر بلعبة إلكترونية لتعليم الأطفال استراتيجيات القتل. جريمة متكاملة الأركان لا تتوقف عن العمل تجري على بعد بضعة أمتار من يأسنا. حرب همجية غير نظيفة. قوات الرد السريع التابعة للبحرية الأمريكية تعبر قناة السويس، وتتجه شمالا لإغراق أقدام جنودها في الوحل. من يستطيع أن يرفع عينيه عن الهاتف؟ الدخان المتصاعد من المباني الآهلة بالأشجار مرآة عاكسة لما يجري. تمر عدة أيام، وربما عدة أسابيع، ولا أحد يخطط للقيام بشيء. لا بايدن الذي عبر عن حبه اللامشروط لإزرا، ولا ماكرون الذي قال إنه يبحث للفلسطينيين عن سيارة إسعاف، ولا ريشي سوناك الذي كشف فحصه الطبي الأخير أن قلبه مجرد لعبة لتزجية الوقت، ولا الجامعة العربية الغارقة في أفكارها السوداء. الدخان سيد الموقف، وعلينا أن نتجرع كؤوسا ملأى عن آخرها بالشفرات. من حقنا ألا ننتظر. ذلك الطفل الناصع الذي يضحك وكتفاه يهتزان من فرط القصف، يوبخ بنادقنا المعطوبة. وتلك المرأة التي تمسك حجرا وزجاجة بنزين، تدير لنا ظهرها لحظة الوضع، وتحاول أن تبدو أمام رضيعها أقل حزنا. وذاك الحجر الذي لا يملك القدرة على الصبر، وملَّ بحجج منطقية من البقاء مكتوف اليد، وصرخ ملء صوته: «ألا تعلمون أن السلاح الذي يفقد وظيفته يختفي؟ متى ينطلق سلاحكم للتعبير عن نفسه؟». من حقنا ألا ننتظر. لقد كنا معا منذ أكثر من أرض والحروب لم تنقطع قط، فليس قدرا أن نضع السلاح، وليس قدرا أن نستلقي بمحض إرادتنا على أريكة الهزيمة. يقول المقاتلون هناك: «إننا نبتكر كل شيء يتصل بنا. نصنع الأبطال بطريقة ما، نملأ الأماكن الفارغة بين شجرة وأخرى. ننتعل الحياة ونحمل حقائب صغيرة فوق ظهورنا. أحيانا نتحول إلى هدير ماحق، وقد نظهر على المحتل بالوتيرة نفسها إذا قرر أن يدوس بقدميه على شوارعنا. لسنا عاجزين عن الإمساك بالجرح بكل قوة، وقد نعتصره حتى يدمي، ومن الممكن أن نصحح أخطاء المعنى إذا غفا في الضمير العالمي. لم نأت إلى هذه الأرض في رمشة عين، ونعلم أننا لسنا في رحلة سياحية. هدفنا هو أن نوجد في اليوم الموالي، وأن نظل فريقا واحدا لا يعرف الخسارة حتى لو أبيدت أجسادنا عن آخرها». إسعاف أمريكي فاشل صارت الأمور أكثر وضوحا. أمريكا تريد بقعة أرض أخرى خالية من الفلسطينيين. إخراج متقن وديكور دقيق، والعالم سيجرفه التيار. حق الرد. حق الدفاع عن النفس. الحرص على قلب الأدوار، ومواصلة الاجتثاث بكل ارتياح، بل الدفع بكل الأشجار إلى الإقامة الجسيمة في الصحراء. والمطلوب أن يطل الأمميون الطيبون من الشرفة، وأن يكثروا من التصفيق. كان واضحا أن الاجتياح البري ستصنعه أمريكا، الأكثر أهلية لارتكاب الحماقات. والأدهى أن القوة المحتلة ظاهرة الارتباك، وأن ذراعها منقبضة وتحتاج إلى تدليك عسكري سريع. بايدن زار تل أبيب. ولهذا السبب اقتنع أن الحرج كبير، وأن «المناولة» ضرورة. بايدن وعد أن يقلص الخسائر، وأن يجبر العالم على الغرق في المحارق القديمة. الأمريكان يعرفون أنهم لن يأتوا ليشربوا الجعة الباردة في رفح أو خان يونس. يعرفون أنهم سيتركون جلودهم تجف على الأسوار. من المؤكد أنهم سيحاولون التفاوض مع الموت قليلا. سيقومون بالشيء نفسه وهم يدخنون الماريوانا أو يتقدمون وراء المدرعات أو يندسون بواقياتهم تحت الأرض. جاؤوا ليضعوا الانتصار على رأس «إزرا». كلهم يستعملون أسماء مستعارة. القوات الخاصة. فرقة الدلتا. الأقمار الصناعية. المطارق الحفّارة. التوربينات الأرضية. الغازات السامة. الأقنعة الواقية. الخوذات المتطورة. أجهزة الرؤية الليلية. كاشفات الأنفاق. الحذر. الخوف. الأقراص المخدرة.. وصلاة شاسعة لتأمين الجنة. بايدن يجتهد كثيرا ليظهر لنتانياهو أن كل شيء على ما يرام، وأنه جاهز لوضع خرق ملوثة في أفواه الإنسانيين والديمقراطيين والحقوقيين والمؤرخين. لا أحد في الجهة الأخرى مع الفلسطينيين. لا أحد يجرؤ على الخروج من العرض الأمريكي الممتاز.. «إزرا» يقول إن الأمن مادة أساسية غير قابلة للمراجعة. يتحدث عن موقعه الهش والمتضارب في الجغرافيا، كأنه لا يعرف أن الموقع ترجمة حرفية للأرق. يقول إنه متأرق منذ خمسة وسبعين عاما. لا ينخفض رأسه للنوم، ويشعر أن قبور الأرض تجثم على قلبه. الأمر لا يتعلق بوخز الضمير الذي لا يملكه، ولا بأي أفكار إنسانية أو تاريخية. الموقع مشنقة، والأمن حرب انتحارية دائمة. لا يعرف بايدن أن الاجتياح البري ليس مؤشر نجاة لإزرا. لا يعرف أن الأشجار تنبت بجذورها من جوف الأرض، تماما كالفلسطينيين، وأن انعدام الاهتمام بهذه الحقيقة دليل على أن عملية «الإسعاف الهمجي» فاشلة. «عبدة الكيتش» على طريقة طوم لستم حديثي عهد بالفاجعة أيها الرجال المنسيون. تركتم لصراخكم، وقيل لكم إن دمهم المراق قدر. قالها الشرق والغرب، وقالتها كل الجهات. كلكم مرشحون للقتل ما دام فيكم شرف يخضر بلا هوادة. لا مجال للإفصاح والإضمار. الجميع متفق على الخاصية الضرورية للسيوف المتقاطعة التي تفرمكم عن آخركم. لا فرق بين لسان ولسان، ولا بين بيان وبيان. حتى المجاز ليس حقيقتكم. صورة وعدم. لا تاريخ يخضع لملاحمكم التي تتكرر في نسخ لامتناهية. لا وجود لكم في «الشيء» الذي يسرقونه منكم. عليكم فقط أن تتدفقوا في الماضي لينسوا وجودكم، ليستردوا سلاحهم من نحوركم. عليكم أن تبحثوا عن بيئة أخرى، وأن تهجروا الاعتقاد الشائع بأنكم صورة أصلية للأرض. هذا هو السبيل الأوحد للنجاة. ارحلوا عن وقتكم، وسيحوا في الأرض بطريقة مختلفة. عيشوا في البحر أسماكا، والأصح أن تصيروا ملحا أو زبدا. تراكموا بعضكم على بعض. ترسبوا وتحجروا، ولا تنهضوا من أحجاركم. لا تنصبوا الفخاخ للكثافة الصهيونية. عيشوا الندم، واتركوه يوحد صفوفكم.. هناك بعيدا.. بعيدا في العدم. لا تنتظروا النجدة من مجلس الأمن، ولا من الكلاسيكو بين «طوم» و»راسكولينكوف». لا تنتظروا شيئا من محترفي «الكيتش». هؤلاء يتقصون حركة القوة، ويقيسونها باستراتيجيات الوصل والفصل والاستنفاع. لا تهمهم أرضكم، ولا أرقام موتاكم. أنتم مجرد «إمتاع ومؤانسة». أدوات تنشيط بالتقسيط المريح. لحم فائض عن الكتب المقدسة. تكرار متوحش لا جدوى من بقائه على وجه الأرض. عليكم أن تنقرضوا لتلفتوا الانتباه! أنتم تموتون لإظهار أهميتكم القصوى. وهم يتبنون صوتا آخر. حكوماتهم. مؤسساتهم. جيوشهم. إعلامهم. أموالهم. آدابهم. علومهم. فلاسفتهم. أخلاقياتهم. كلها تتحدث بشكل أفضل عن عدم أهليتكم للوجود. لا يفرقون بينكم وبين الاحتباس الحراري. بدونكم سيكون العالم أفضل. لا حروب، ولا مجاعات، ولا اشتباكات، ولا أهوال. كل الظواهر المفلوقة ستختفي ولن تخطىء طريقها نحو الانمحاء. لا تنطلقوا أيها الرجال من الأصل. لا تحرجوهم كثيرا في فراشهم. لا تجعلوهم يهرولون ذهابا وإيابا إلى خجلهم الحتمي. لا تسقطوهم من أكاذيبهم. لا ترموهم خارج المتن. فكل المتون يصنعها طوم، ويفصلها بارتياب قبل أن يخلعها على الشهود والأحلاف. لا تنسوا أن ما يقع معكم مجرد إنشاء مدرسي!