ثواني قليلة لكنها بعمر سنوات طويلة من الرعب، لم تجعل فقط الجدران و الأعمدة تتمايل و السقوف تتشقق و منها ما تهاوى فعلا، بل كانت كافية لإخراج مدينة بكاملها إلى الشارع. ذلك ما حدث في مراكش ليلة الجمعة حيث جسد توقيت الحادية عشرة و إحدى عشرة دقيقة مسافة بحجم ما يفصل ما بين الحياة و الموت . تحركت الأرض بعنف، فشكلت ملامح مفزعة لكابوس حي بفعل درجة قوة الاهتزاز . تبعه مباشرة انقطاع شامل للكهرباء ليعم المدينة ظلام مخيف و غير مسبوق. خرج السكان دفعة واحدة إلى الشارع لا يدرون ما الذي أصابهم، بعدما وجدوا أنفسهم تحت رحمة مساكن تترنح أمامهم مرتجفة و متمايلة كما لو كانت ثملة. منهم من خرج حافيا، و منهم من غادر بيته مرتجفا بملابس النوم، و منهم من خرج شبه عار غير عارف بحالته. الزلزال الذي ضرب محيط مراكش و امتدت اهتزازاته إلى مدن أخرى، أقنع الناس أنهم في قبضة الموت، وإن حدث العكس فهو فضل كبير وأكثر من معجزة. فمنهم من فصل بينه بين الهلاك سنتمترات قليلة بعدما أفلت بنفسه ليلتفت مصدوما بهول الدمار الذي كان يلاحقه. و منهم من خطا خطوة واحدة و عندما راجع نفسه وجد أنه فقد أمه أو ابنه أو أخيه أو زوجته أو والده تحت أنقاض البيت الذي كان يجمعهم في حياة كانت إلى لحظات قليلة قبل ذلك ممتلئة و غنية، فصاروا فجأة و من دون سابق إنذار مفصولين بين عالمين لا يلتقيان، واحد للأحياء و الثاني للأموات. بعد الهزة مباشرة و ما رافقها من تدفقات بشرية في الشوارع، كانت الصدمة أقوى من أن تجعل الناس ينتبهون لهول الخسارة. امتلأت الطرق أولا ببكاء الأطفال و صراخ النساء و نداء الرجال. و بعدها عم الصمت لتتوالى الأخبار السيئة كقطرات المطر. انهيارات في حي الملاح و سيدي يوسف بن علي و بالمدينة العتيقة، وفيات حددت في البداية في ثلاثة أشخاص و ارتفعت إلى خمسة ، لتواصل الأرقام مع مرور الوقت انتفاخها، و امتلاء فضاء المدينة بأبواق سيارات الإسعاف التي لم تكن تمر فرادى، و إنما في مواكب متعاقبة لتؤكد أن الأسوأ قد حث فعلا. و الأسوأ كانت أخباره تأتي من منطقة الحوز. تحت سماء صافية يتوسطها هلال كبير كما لو كان الشهر العربي قد اقترب من نصفه، غير أنه لم يبدأ بعد، خيمت على مراكش رائحة الموت و الحزن و الفقد. و تعمق ذلك بفعل نداءات الاستغاثة التي كانت وسائل التواصل الاجتماعي تضج بها و القادمة من ثلاث نيعقوب و مولاي ابراهيم و إيجوكاك و أسني.. و بدت جماعة إيغيل مركز تساؤلات لاتنتهي حول ما الذي يحدث هناك، بعدما ظهر أن مركز الزلزال كان بها و بدرجة بمخيفة بلغت سبع درجات على سلم ريختر. حلقات الرعب تواصلت، و تغذت بفعل توارد أخبار تؤكد أنه بعد الزلزال ستأتي هزات ارتدادية، و من يدري فقد تكون أعنف. إذ لا ضمانة على هيجان الطبيعة. وهكذا فمن كان يغزو نفسه إحساس دفين بأنه نجا من الكارثة، لم يعد متأكدا أن نجاته هذه مضمونة. لذلك اندفع الناس في مختلف أنحاء مراكش إلى الساحات حاملين معهم أغطية و افرشة و كراسي، بعيدا عن تهديد العمارات و الجدران. و هناك قضوا ليلتهم إلى الصباح. معركة الإنقاذ بدأت لحظات بعد توقف الزلزال الذي كان مفاجئا، بدا الموقف أكثر سوءا بعدد من أحياء المدينة و خاصة العتيقة منها. سارع أبناء هذه المناطق أولا في سلوك تضامني إلى محاولة إنقاذ المفقودين تحت الأنقاض، و التحقت بهم بسرعة فرق الوقاية المدينة و السلطة المحلية و القوات المساعدة و الأمن، التي شرعت في انتشال جثت الضحايا الذين عصف بهم هذا الحدث ، و نقل المصابين إلى المستشفيات لتلقي العلاجات. ووضعت مؤسسات الاستشفاء و في مقدمتها المستشفى الجامعي في حالة طوارئ حيث استدعيت كل الأطقم الطبية و التمريضية و الإدارية فورا للخدمة. و لا سيما أن حجم الخسائر المتوقع في الأبدان جد مرتفع بسبب الخطورة الفائقة لقوة الزلزال، و بالضبط في المناطق المحيطة. المشاهد الأولية داخل الأحياء العتيقة، كانت تظهر المدينة كما لو فرمت دفعة واحدة بقبضة من حديد: بيوت منهارة بكاملها، أنقاض في كل مكان، جدران متصدعة، حوانيت فقدت واجهاتها و تكسرت محتوياتها، و صوامع تشققت و تداعت أجزاء منها. كانت العلامة الأبرز انهيار صومعة جامع خربوش بمدخل درب ضبشي بجامع الفنا، و تداعي الجزء العلوي من صومعة مسجد أزبزط. تداعي أجزاء مهمة من صومعة باب أيلان، و انهيار أجزاء من السور التاريخي للمدينة، و تلاشي أجزاء من قصر «دار الحاج إيدار» الشهير بدرب الحجرة بدرب ضبشي، تلاشي أجزاء مهمة من المسلك السياحي « طوالة سي عيسى» بحي القصور، انفصال جدران مرتفعة عن بناياتها بزنقة الرحبة بفعل ضخامة التصدعات مما يؤكد أن انهيارها حتمي. و لا أحد يعرف وضعية المآثر التاريخية لأنها مغلقة. لم تكن مهمة فرق الإنقاذ سهلة، بل كانت تتم في أجواء معقدة بحكم البنية الهشة للبنايات في المدينة العتيقة، و ارتفاع الكثافة السكانية بها. في حي الملاح الذي انتشرت في بعض دروبه الانهيارات، زادت مهمة رجال الإنقاذ تعقيدا التسربات المائية، بفعل انفجار أنابيب الماء الصالح للشرب بسبب قوة الزلزال، مما كان يشكل خطرا مضاعفا عليهم، تجاوزوه بشجاعة. و في بعض الأحياء حدثت انهيارات في أزقة جد ضيقة، كان التحرك فيها جد صعب، و الوسائل التي يَسمح باستعمالها في الإنقاذ جد محدودة و ينبغي استخدامها بدقة، و إلا تسبب ذلك في كارثة أكبر. كانت العمليات تجري، تحت تهديد الموت و الفاجعة و رغم ذلك تواصلت بنجاح. المستشفى الجامعي محمد السادس، بعد صدمة الزلزال القوي الذي أفزع المرضى و العاملين، و دفع الكثير منهم إلى ترك أجنحته و اللوذ بساحته، عاد إلى تنظيم فرقه بنجاعة للتغلب على العدد الكبير من الحالات التي تفد عليه من المصابين، فخصصت فرق للاستقبال و التشخيص و تعبأت مركبات الجراحية لإنجاز العمليات الجراحية المستعجلة لمن تستدعي حالتهم ذلك، و خصصت فرق للإنعاش. و إلى حدود ظهر يوم السبت، استقبل المستشفى ما يفوق 400 جريح، 15 منهم استلزمت حالتهم إجراء عمليات جراحية على الرأس و المتانة و القفص الصدري و الأطراف، ووضع 31 من المصابين في قسم الإنعاش. المستشفى العسكري بمراكش استقبل أيضا أعداد كبيرة من الجرحى و خاصة تلك القادمة من الأقاليم المحيطة.