أفضل ما يُعرَّف به الروائي أنه من يقُص القَصص، والعطش تجاه القصص يعود إلى الأيام التي عاش خلالها البشر في كهوف مظلمة وهم يقضمون جذور الشجر وفئران الحقول الهزيلة المشوية، إذ يمكننا – في الواقع – تصور تبادل الحكايات جعل من لياليهم المظلمة الطويلة قابلة للتحمل ما إن يجتمعوا حول نيرانهم كي يحموا أنفسهم من الطقس القاسي والوحوش التي لا يمكن وصفها بالودودة. ومن البديهي القول إن تلك القصص كانت تُحكى كما يجب إن كانت تستحق الحكي أصلًا، فوجب على القصص السعيدة أن تروى بصوت تعتريه السعادة، وأن تروى القصص المخيفة بشكل مخيف، والمقدسة بشكل يضفي القداسة، وكان ذلك مفهومًا أساسيًا؛ إذ على الأعمدة الفقرية أن ترتعش، وعلى الدموع أن تهل، وأن تثار المناطق سريعة الإضحاك وأن يحدث كل ما يجب حدوثه كي ينسى المستمعون الجوع والبرد لبضع لحظات زائلة. ومنذ ذلك الوقت إلى اليوم، صار على القصة من الطراز الأول أن تحقق ذلك الغرض المحسوس، إذ يجب أن تنقل المستمع إلى مكان آخر ولو بشكل مؤقت. وإن سمحتم لي بالمبالغة، يمكننا القول إن القصة الجيّدة تنقل جمهورها بالضرورة عبر الجدار الذي يفصل هذا العالم عن الآخر، وأن مقدار جودة نقلها للمستمعين إلى الجانب الآخر أمر أساسي، والحق أن لنا الزعم بأن تلك إحدى واجبات القصة الجيدة. وعلى الأرجح أن في كل مجموعة منهم شخصًا ذا موهبةٍ تجعل القصص حية وممتعة. كان مثل أولئك الأشخاص متخصصين في ذلك لدرجة أو أخرى بينما يستمعون إلى الحكايات العديدة التي شاركتها المجموعة، ويضفون عليها لمساتهم الدرامية الخاصة، ثم يسردونها بطريقة ممتعة وجذابة، وبالإمكان رؤية أولئك المتخصصين يفعلون ذلك حول العالم، إذ رغم أن لغاتهم قد تكون مختلفة إلا أن جوهر فنهم لم يتغير. لمّا اتخذت [كل] مجموعة من البشر لغة مكتوبة، كان على الأفراد من تلك الشاكلة الذين تعلموا (أو بوركوا ب) موهبة القص أن يتحملوا مسؤولية وضع تلك القصص في نصوص. إذ مُررت الأساطير الشفوية والفولكلور وحيل الحياة لكل قبيلة عبر النحت على قطع من صخر أو خشب ثم كتبت على الورق. وفي النهاية، قُسمت تلك المستندات بحسب وظيفتها، وأسست من ضمن تلك الأقسام فئة المتخيَّل (بالأمس [نسبيًا] إذا ما نظرنا إلى مسار تاريخ البشرية)، وصار المتخصصون الذي جمعوا ما ينتمي إلى تلك الفئة ب"كتّاب"، وكانت تُسدَل على أولئك الكتّاب أكاليل الغار ويُكرمون من قبل سيدات الطبقة الرفيعة، بيد أن من الممكن أيضًا أن ترجمهم الجماهير غير المستنيرة أو تُقطع رؤوسهم أو يُدفنوا أحياء أو يُحرقوا حتى الموت – في بعض الحالات المأساوية – لكونهم أغضبوا من في السلطة. أنا أحد من عاشوا على كتابة القصص والروايات، ورواياتي وقصصي منشورة في كتب، ومحصولي من الأرباح يسمح لي بشراء الطعام وصلصة الفلفل الأحمر الحار والأقراص المدمجة وسداد فاتورة الكهرباء. ظللت في هذا العمل لما سيصل إلى خمس وعشرين عامًا، ولحسن الحظ أن رأسي لم يُقطع بعد. على أن ظهري قد رُشق بالحجارة في بضع مرات، إلا أن تلك إهانة هيّنة بالمقارنة مع فصل رأسي عن جسدي. الأقرب للدقة أن الكتابة مهنة انعزالية، إذ يجلس المرء منتظرًا في مكتبه وهو يتصارع مع الكلمات محاولًا وضعها في ترتيب سليم، ويمر يوم إثر يوم على هذا الحال. حين يكون عقلك في غاية التركيز على عملك، فمن العادي أن تمضي أربع وعشرين ساعة دون الحديث مع أي أحد، وأعتقد أن ذلك صعب جدًا على شخص ذو شخصية اجتماعية بقدر أكبر. ومع ذلك، بغض النظر عن عزلة وظيفتي في جوهرها، أتذكر دومًا أنني سليل حكائي القصص حول النار في الماضي؛ وإذ بي أسمع صوت النار وأرى فيها الظلمة في بعض الأحيان أثناء جلوسي أمام الحاسوب؛ حتى أنني أستطيع الإحساس بالجمع المتحلقين لسماع قصتي، فأستمر بالكتابة محفزًا بتلك الأحاسيس. أجل، لدي قصة تحتاج إلى أن تُحكى، والكلمات كي أرويها، وقبيلة من التواقين – ويا كيف أعبر عن امتناني لهم؟ – الذين ينتظرون ما عليّ قوله، وأستطيع نقلهم عبر الجدار الفاصل بين هذا العالم والآخر إلى درجة محددة. هل تغيرت المتعة التي يجلبها هذا النوع من القص بأي طريقة أساسية خلال العشرة آلاف سنة الماضية؟ لا أعتقد ذلك. اسمحوا لي أن أقول بضع كلمات عن المكتبات. يعتريني إحساس لطيف بالإعجاب كلّما عبرت أبواب مكتبة. أي مكتبة. وقد اعتراني ذلك الإحساس حين كنت طفلًا، وما زلت أحس به حتى اليوم. كانت زيارة المكتبة في أيام المدرسة ملهاتي (أحببت لعب البيسبول أيضًا، لكن يؤسفني القول إني لم أكن بارعًا.)، وما إن ينتهي وقت المدرسة، أقفز على دراجتي وأذهب إلى مكتبة المدينة، حيث أتوجه مباشرة نحو قسم الأطفال، وأتجول هناك عبر الرفوف المليئة بكتب القصص المصورة، قديمها وجديده،ا من كل أنحاء العالم، بلا حصر، حتى تبدأ عيناي بالارتعاش. كنت أشبه بطفل يخرج من غابة كثيفة فيجد قلعة عالية من القرون الوسطى لم يرها من قبل. في البدء، لم أعرف ما علي قراءته، إذ توجد العديد من الكتب. لذا أخذت أول ما رأته عيناي ثم أكملت مِن بعده، قارئًا الكتاب تلو الآخر، بحسب الترتيب الذي رأيته في الرف. لم تتطلب قراءتي في تلك المرحلة أي انتقاءات فكرية عالية، إذ كل ما علي فعله فتح الغلاف فأصير مسحوبًا إلى واقعٍ من خيال. كان الأمر سهلًا للغاية، فبمجرد دخول القصة كنت أستطيع وضع قدمي على أرضٍ ليست موجودة من قبل، وهكذا قرأت كل الكتب المعروضة تقريبًا، حيث كل منها بوابة إلى الجانب الآخر، وحين أنتهي منه تُغلق البوابة معيدةً إياي إلى هذا الجانب. (رغم أن الانتقال [بين العالمين] لم يكن سهلًا في بعض الأحيان). حين انتهيت من كل الكتب في قسم الأطفال، ذهبت مثل فأر نهم كي أقتات في رفوف التخصصات الأخرى، وهكذا انجذبت إلى عالم الكتب الذي لا يُحد. كان للمكتبات قدر فيَّ منذ ذلك الوقت، تلك الأماكن التي أستطيع العثور فيها على نار تدفئني متى ما احتجت. قد تكون تلك النار حميمية وعفوية، وفي بعض الأحيان تمثل نارًا تشير إلى السماء، ومهما كان حجم النار وشكلها، أستطيع الوقوف أمامها لتدفئة جسدي وعقلي. ولعل معزّة المكتبات عندي سبب بروزها في عدد من قصصي على ما أعتقد. اسمحوا لي ببضع أمثلة. تعرض روايتي «نهاية العالم وبلاد العجائب» مكتبة تحوي جماجم أحصنة وحيدة القرن، ويمضي الشاب، شخصية الرواية الرئيسية التي تعيش محاصرة بلا ظل في قرية غريبة مسورة، أغلب وقته في المكتبة "يقرأ" الأحلام التي تخبره الجماجم بها واحدة تلو الأخرى. كما يغادر بطل رواية «كافكا على الشاطئ» المنزل بعمر الخامسة عشر، وينتهي به الحال بعد عدة مغامرات في مكتبة خاصة صغيرة على أرض شيكوكو، حيث يواجه شبحًا من الماضي ويُسحب بلا مناص إلى داخل قصة الشبح – وبالتالي المكتبة. كما يحكي عمل قصير مكتوب للقراء الشباب بعنوان «المكتبة الغريبة» قصة صبي يزور المكتبة العامة ويقع أسيرًا لعجوز مخيف يعيش في قبوها. كان نظام العجوز هو الإمساك بالصبي وقد قرأ الكتاب ثم شفط دماغه كي يحوز معرفته، وعلى الصبي الهرب من العجوز برغم السلاسل المحيطة بكاحليه.