ما يحدث بين روسيا والمليشيات المحسوبة عليها «فاغنر» يستوجب مدخلين: الأول يهم تطورات الانفلات، الذي قاده يفجيني بريغوجين على فلاديمير بوتين، وانعكاساته على الحرب الروسية الأوكرانية. والثاني يهم خوصصة الحرب، التي تتم في العالم اليوم، وأدوار المقاولة العسكرية الخاصة، وما تجره في سياجها من شبكات وتنظيمات للتأثير والنفوذ السياسيين على ترتيب المعادلات الجيواستراتيجية. بالنسبة للنقطة الأولى يمكن أن نخلص، إجمالا، إلى القول إن الحرب ستعرف تطورا جديدا، ولن تكون كما كانت من قبل. نحن أمام انقلاب في الوضع الذي اتخذته مليشيات «فاغنر»، من امتداد شبه عسكري للجيش الأحمر إلى خصم يريد تطويق المؤسسة العسكرية. التمرد، الخيانة والطعنة في الظهر، كلها عبارات تكشف عمق التحرك وتلقيه من طرف المؤسسة الرئاسية التي تخوض الحرب. ولعلها المرة الأولى منذ حرب الجيش الأبيض ضد قوات لينين البولشوفية.. التي يجد فيها الجيش الأحمر نفسه أمام شبح الحرب الأهلية. وكيف ما كانت الأوضاع فإن من غير الممكن تجاوز وجود قيادتين عسكريتين فوق نفس التراب الروسي، مع وجود جبهة حرب، وتزداد الخطورة في وضعية الحرب. ولن يغفر بوتين هذا الأمر، كما أن موسكو ستزداد هشاشتها، سواء في القطيعة مع أوروبا بسبب الحرب أو داخليا بسبب تلغيم معنويات الجيش الذي يخوض الحرب، لا سيما وأن قوات «فاغنر» موجودة بشكل قوي في المدينة الاستراتيجية في أوكرانيا باخموت. وما يزيد من توجسات سيد الكريملين السهولة التي وصلت بها قواتها إلى مفازات العاصمة… وهذا النوع من العمليات لا ينتهي، وقد يؤجل بوتين الخوض فيه حاليا، باعتبار أنه سيرتب الأولويات: التناحر الرئيسي من التناحر الثانوي، أي من التضاد مع معسكر الغرب والناتو إلى التناقض مع رفاق بريغوجين .. الحفاظ على ذراع عسكري بأدوار جيو استراتيجية في القارات الأساسية له، إفريقيا وأمريكا اللاتينية وجزء من أوروبا، وتكسير عقد الثقة لا شك أنه سيجعل أصداء «فاغنر» تتراجع، وبالتالي تراجع موسكو في العديد من مناطق العالم اللهم إلا إذا استطاع بوتين تغيير طباخه السابق في مأدبة لا بد أن تكون دموية كي يسهل تصورها! الشق الثاني والمتعلق بخوصصة الحرب، والذي جعل «فاغنر» تشبه قوات الردع السريع السودانية، كما جعلها تتلقى الأضواء منذ 2014 عند غزو القرم، وفي الحرب السورية إلى جانب الأسد، وفي ليبيا إلى جانب الجنرال حفتر.. وفي جمهورية إفريقيا الوسطى حيث أبرموا أفضل العقود¡ وفي مالي .. وهي الذراع التي تقوض الحضور الغربي ولا سيما منه الفرنسي. في شمال إفريقيا كما سبق وقلنا هناك وجود «فاغنر» بقوة كامتداد للسياسة الروسية.. ولعل النقطة الأعمق تهم «خوصصة الحرب»، بحيث تزايد دور المقاولة العسكرية الخاصة في تدبير المهام التي كانت توكل تقليديا إلى الجيوش النظامية. وقد تعددت المهام ما بين حراسة الشخصيات السياسية، وحراسة المواقع الاستراتيجية اقتصاديا أو سياسيا إلى التكوين العسكري والمخابرات، واستنطاق المعتقلين وإلى .. الحرب الميدانية. المُناولة العسكرية الجديدة صارت عنصرا من عناصر شبكة قراءة التحولات التي تقع في العالم.. والارتزاق أصبح خيارات عسكرية وسياسية مفكر فيه ومطلوبة، مقابل «فاغنر» هناك «بلاووتر» الأمريكية التي دشنت هذا المسلسل ما بعد الحرب الباردة، كما كانت فرصة لإعادة تأهيل العديد من خدام الديكتاتوريات ( الاستعانة بحراس بينوشيه في حماية منشآت نفطية في العراق).. تحولات الحرب تجعل المراقبة «الديموقراطية» غير واردة بالنسبة لقادة البلدان التي تلجأ إلى خدمات الشركات الخاصة، كما أنها مقاولات يمكن التخلص منها بعد الاستعمال (جوطابل) كما يقال.. ولعل من التمثلات الجديدة للمقاولين الحربيين هو خروج المركبات الصناعية العسكرية إلى الوجود، وبأقل كلفة سياسية… غدا: بوتين، فاغنر والجزائر..