نظم المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة ووزارة العدل والمندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الإنسان ، ندوة وطنية حول المحاكمة العادلة ، وذلك يومي 24و25 فبراير 2023 تحت عنوان: العمل القضائي وضمانات المحاكمة العادلة في ضوء الدستور وتحديات الممارسة ، وهذا المقال يلخص العرض الذي كلفت بتناوله في تلك الندوة ، وهي الندوة التي تعتبر الندوة الثانية، حسب علمي، التي تتناول بالدرس والنقاش موضوع المحاكمة العادلة ، والمحاكمة العادلة تعتبر حقا من حقوق الإنسانالمثبتة في الاتفاقيات الدولية ، والتي التزم بها المغرب في دستوره ، وبالتالي أصبح ملزما بالتقيد بها سواء في القضايا الزجرية أو المدنية، لكن الذي يميز هذه الندوة عن باقي الندوات التي تناولت نفس الموضوع هو: 1-هوية الجهات الأربع التي نظمتها والتي هي: أ-الجهات المسؤولة على سن القوانين والتشريع الذي يلزم الدولة ويلزم المواطنين، وهي وزارة العدل، والتي يجب أن تكرس قواعد المحاكمة العادلة في كل التشريعات التي تصدر في بلادنا. ب-الجهة المسؤولة عن تطبيق تلك القوانين على المواطنين، وهي القضاء، الذي يجب أن يكرس قواعد المحاكمة العادلة في أحكامه عليهم، سواء عندما تكون لهم خصومة مع القانون، أو خصومة في ما بينهم، أو خصومة مع الإدارة . ج-الجهة المسؤولة عن مراقبة مدى احترام الحكومة عند سن تلك القوانين لمبدئي الشرعية والمشروعية، بما فيها مدى تطابقها مع الدستور ومع الاتفاقيات الدولية التي صادق المغرب عليها ونشرها في الجريدة الرسمية، ومراقبة مدى تطبيق القضاء لتلك القواعد القانونية ولتلك الاتفاقيات الدولية في أحكامه، وهي المندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الإنسان، وذلك عبر تقارير التقييم ذات الصلة، وتقارير رصد التحولات التي تحدثها تلك التشريعاتمن جهة، وذلك التطبيق من جهة أخرى، ومدى شعور المواطن بتمتعه بالحقوق الأساسية الفردية والجماعية المكرسة في الدستور، وذلك من أجل التنبيه للخروقات أو الانحرافات التي قد تطبع بعض تلك التشريعات أو بعض تلك التطبيقات والأحكام القضائية . 2-إن منظمي هذه الندوة لم يختاروا لها الموضوع الكلاسيكي المتعلق بشرح المبادئ الأولية التي تتعلق بالمحاكمة العادلة وتحسيس الناس بها، والتي هي المرحلة الأولى التي مرت منها المراحل المؤسسة للمبادئ الأولية لحقوق الإنسان، لأنهم واعون بكون المغرب تجاوز مرحلة التحسيس بالمبادئ الأولية لحقوق الإنسان، وهو اليوم يوجد في المرحلة الثالثة أي مرحلة المحاسبة عليها، كما سأبين ذلك في ما بعد. فموضوع هذه الندوة هو موضوع جد كبير ويحتاج لعدة ندوات، كما يحتج لوقت أكبر من الوقت المخصص لهذه المداخلة في هذه الندوة ،غير أن منظمي الندوة جعلوا موضوعها فرعيا لكنه كبير له أبعاد دستورية وقانونية وقضائية وكذلك دولية، وهو الموضوع الذي اختار له المنظمون المداخلة التي كلفوني بها وهو: المحاكمة العادلة في ضوء المكتسبات والتحديات الراهنة. وهو الموضوع الذي سأحاول ملامسته ومقاربته في الحدود الممكنة زمنيا وظرفيا، وهو الموضوع الذي يمكن قراءته كذلك تحت عنوان آخر وهو: المحاكمة العادلة بين الإرادة السياسية ونحن. وقبل الدخول في صلب مقاربة هذا الموضوع من المفيد التذكير بكون سؤال المحاكمة العادلة لا يتوجه به للقضاء فقط، ولا يعتبر وحده المسؤول عن تحققها أو عدم تحققها، بل هو سؤال يتوجه به كذلك لرجال ونساء مهنة المحاماة، وأحيانا أخرى للخبراء، لأن دور كل هؤلاء ومسؤوليتهم لا تقل على عن دور ومسؤولية القضاء لآنهم يقررون في القضايا الفنية التي لا محيد للقضاء من اعتمادها . وإن كان دور القضاء يتقدم على كل هؤلاء المتدخلين في العملية العدلية بخطوات في تحمل المسؤولية بالنظر لأنه هو وحده من يقرر في نهاية المطاف وهو من ينطق بالأحكام القضائية . كما أن سؤال المحاكمة العادلة لا يعني الأسرة القضائية وحدها، بل يعني بالأولوية الذين يضعون ويصوتون على القانون أي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، إذ أن المفهوم السليم للقانون ليس هو ما يصدر هاتين السلطتين في شكل فصول وأبواب ويحمل رقما وتاريخا، لأن هذه المواصفات قد نجدها في قانون معين، ولكن ليس بالضرورة يكون قانونا عادلا . ذلك أن الدول الديموقراطية الحديثة لاتسمى بدولة القانون، لأن نظاما ديكتاتوريا أي بدون سلطة تشريعية أو تنفيذية أو قضائية، يمكنه ان يصدر هو كذلك قوانين . بل الدول الديموقراطية الحديثة يسمى بدولة الحق والقانون، أي أن القانون الذي تصدره هذه الدول يجب أن يحمي الحقوق أي أن يكون عادلا، إلا فقد هويته كقانون تسنده الشرعية والمشروعية معا . وكمثال على القانون غير العادل نورد ما أتت به مدونة الحقوق العينية في المادة 2 منها التي أصبحت تلزم كل من يملك عقارا مثل بيته الذي يسكنه وعائلته بأن ينتقل بانتظام إلى المحافظة من أجل التحقق هل لايزال العقار في اسمه أم تم التشطيب على اسمه وسجل محله اسم شخص آخر بواسطة عقد مزور وإلا تم طرده من منزله بعد 4 سنوات، إذ تنص تلك المادة على ما يلي: إن الرسوم العقارية وما تتضمنه من تقييدات تابعة لإنشائها تحفظ الحق الذي تنص عليه وتكون حجة في مواجهة الغير على أن الشخص المعين بها هو فعلا صاحب الحقوق المبينة فيها ، إن ما يقع على التقييدات من إبطال أو تغيير أو تشطيب من الرسم العقاري لا يمكن التمسك به في مواجهة الغير المقيد عن حسن نية، كما لا يمكن أن يلحق به أي ضرر، إلا إذا كان صاحب الحق قد تضرر بسبب تدليس أو زور أو استعماله شريطة أن يرفع الدعوى للمطالبة بحقه داخل أجل أربع سنوات من تاريخ التقييد المطلوب إبطاله أو تغييره أو التشطيب عليه ، فهذه المادة تلزم المالك الأصلي لمنزله بأن ينتقل كل مرة للمحافظة العقارية ليتحقق هل منزله لايزال مسجلا في اسمه أم تم التشطيب عليه من الرسم العقاري بالمحافظة العقارية حتى ولو تم ذلك التشطيب بعقد مزور. إذ أن الحكومة التي اقترحت تلك المادة والبرلمان الذي صوت عليها في الفترة ما بين 2011 و2016 بدل أن يحميا معا حق الملكية، وفقا لما ينص عليه الدستور ،قررا حماية من يستعمل التزوير، أي من يخالف القانون. فهذا القانون وإن صدر عن البرلمان فهو قانون غير عادل، لكن القاضي ملزم بتطبيقه، مما يؤدي إلى المس بشروط المحاكمة العادلة، ليس بسبب حكم القاضي، وإنما بسبب القانون غير العادل الذي سنته الحكومة وصوت عليه البرلمان. هل توجد إرادة سياسية لتحقيق المحاكمة العادلة؟ من غير المنازع فيها أنه بدون الإرادة السياسية في أي إصلاح، لا مجال للحديث عن الإصلاح أصلا، وبدون ثمن يؤدى للوصول إلى الإصلاح، لا مجال للحديث عن الإصلاح، لهذا كانت ضرورة تحقق الإرادة السياسية مطلبا لكل المدافعين عن حقوق الإنسان في بلدنا، لأن الجميع كان يلاحظ غياب تلك الإرادة السياسية، وبالطبع كنا جميعا نتوجه بتلك الملاحظات مباشرة إلى الدولة علنا وصراحة معززين مطالبنا بغياب مطلق لأي نص دستوري أو نص قانوني يتكلم عن إلزام الدولة باحترام المحاكمة العادلة بشروطها المعترف بها في الاتفاقيات الدولية، سواء في القضايا الزجرية وكذلك في القضايا المدنية. وسأحاول تناول هذا الموضوع،محافظا على نفس نسق وتركيبة العنوان حتى لا أخرج منه، وذلك انطلاقا من المداخل التالي: 1 – هل توجد لدينا مكتسبات تتعلق بالمحاكمة العادلة، وما هي؟ 2 – هل المحاكمة العادلة تنتهي باحترام الإجراءات المسطرية في المحاكمة، أم تمتد لتشمل تعليل الأحكام القضائية ؟ 3 – هل تعليل الاحكام القضائية متحرر من السلطة التقديرية للقاضي منجهة، ومن الاجتهاد القضائي مع وجود النص القانوني من جهة أخرى؟ 4 – ما هي التحديات الراهنية للعمل القضائي المغربي؟ سأحاول تقديم رأي حول هذه الإشكاليات الصعبة الأربعة، مستحضرا أن هناك إشكاليات غيرها كثيرة لا يسمح الوقت بتناولها، وعلما أني لا أضفي على هذا الرأي صبغة الكمال، بل هو رأي من بين آراء أخرى تقوي النقاش وتنميه وتفتحه على آراء أخرى في موضوع لا تخفى أهميته وحساسيته . 1-فما هي المكتسبات المتعلقة بالمحاكمة العادلة؟ قد يظهر من هذا العنوان أن فيه كثير من التفاؤل، لأن البعض قد يطرح السؤال هل فعلا تحققت الإرادة السياسية للدولة بخصوص توفير الشروط الدستورية والقانونية لتحقيق المحاكمة العادلة، لأنه في هذه الحالة وحدها يمكن الحديث عن المكتسبات المتعلقة بالمحاكمة العادلة، أي هل يوجد في قوانيننا أثر للنص على وجوب احترام شروط المحاكمة العادلة، يمكن التمسك بها والمطالبة بتطبيقها، أم أن مطلب المحاكمة العادلة لايزال مطلبا ملحا يتكرر في كل محاكمة وفي كل ندوة، بل وتواجه به بلادنا في المحافل الدولية، بحق أو بدون حق . قبل الجواب على هذه السؤال من المفيد التذكير بكون الفكر المؤسس لثقافية حقوق الإنسان على الصعيد الدولي مر من ثلاث مراحل: مرحلة التحسيس بالقواعد الأولية المؤسسة لحقوق الإنسان، وهي المرحلة الأولى التي يتم فيها إشاعة ثقافة حقوق الإنسان والتعريف بها وبأهميتها على الفرد وعلى الجماعة ، وبالتبع لذلك على التنمية المستدامة والاستقرار في أي مجتمع، ومرحلة التحسيس هذه يتم فيها الدفع إلى تعلم والتشبع بمبادئ حقوق الإنسان الأولية والإلمام بقواعدها والتعرف على الاتفاقيات الدولية المعنية بها، وهو التحسيس الذي دعمته الأممالمتحدة في عدة قرارات لها، وبعد ذلك دعمته الدول الكبرى، بل استعمل التمسك بحقوق الإنسان كسلاح في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي، كما يعلم الجميع وهذا ليس هو موضوع هذه الندوة . مرحلة الإعمال الفعلي للمبادئ وللقواعد المؤسسة لحقوق الإنسان، وذلك عن طريق إدخال قواعدها ومبادئها في القوانين الداخلية للدول لتصبح ملزمة بها، وكي تعتبر نفسها من بين الدول ديموقراطية . واعتبار تلك القواعد التزاما من الدولة تجاه مواطنيها، بل أصبحت الدول التي لم تلائم قوانينها مع الاتفاقية الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان يشار إليها في كل المحافل الدولية كدولة لا تستوفي الشروط المتطلبة في الدولة الديموقراطية بمفهومها الحديث، ولا يطمأن للتعامل معها اقتصاديا واستثماريا وسياسيا وقد تعيش انحصارا بشكل من الأشكال . مرحلة المحاسبة على عدم احترام حقوق الإنسان، وهي المحاسبة التي تبدأ بمراقبة مدى تطبيق الدولة لقواعد الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان على مواطنيها، وتتمثل تلك المحاسبة: أ-في حضور الدول إلى جنيف كل سنة من أجل تقديم تقرير حول وضعية حقوق الإنسان فيها أمام باقي دول العالم ، والجواب عن أسئلة المنتظم الدولي حول الموضوع، وهو امتحان صعب على معنويات الدولة المعنية، وكذا الرد على التقارير المضادة للمنظمات الوطنية لتلك الدولة . ب-اشتراط احترام الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان للاستفادة من الاستثمارات الأجنبية، ومن الدعم أو المساعدة من المؤسسات المالية الدولية، كالبنك الدولي أو صندوق النقد الدولي . ج- وتنتهي تلك المحاسبة بإنشاء المحاكم الدولية لمحاكمة من يمس بتلك الحقوق، كما هو الشأن بخصوص المحكمة الدولية ليوغوسلافيا، أو المحكمة الدولية لرواندا ، أو محاكمة بعض رؤساء الدول أو كبار المسؤولين فيها وغيرهم . والمغرب اليوم تجاوز مرحلة التحسيس، كما تجاوز مرحلة التطبيق، بعدما لاءم عددا كبيرا من قوانينه مع الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، بل ورفع جل التحفظات التي سبق له أن وضعها بخصوص بعض الاتفاقيات الدولية التي سبق له وقع عليها . فالمغرب اليوم يوجد في مرحلة المحاسبة لأنه مطالب في كل علاقاته الدولية التجارية وفي سياسته الخارجية وعلى رأسها قضيتنا الوطنية، أن يجيب عن سؤال مدى إعماله للاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان التي صادق عليها، ومدى إعماله للقوانين التي تلزم باحترام مبادئ وقواعد حقوق الإنسان التي نص عليها في قوانينه الداخلية . فهل تحققت تلك الإرادة السياسية؟ تتحقق الإرادة السياسية للدول كيف ما كان شكل نظامها عندما تعلن تلك الدول بشكل رسمي انخراطها وتبنيها والتزامها وإلزام باقي المؤسسات المكونة لهابالاعتراف وبإعمال وباحترام وبتطبيق قواعد المحاكمة العادلة كما هي متعارف عليها دوليا . لقد كان من الملفت حقا أن جلالة الملك بصفته رئيس الدولة طبقا لفصل 41 من الدستور أن خصص خطابه بكامله بمناسبة عيد ثورة الملك والشعب في 20غشت 2009 لتناول إشكالية إصلاح العدالة، ووصف ذلك الإصلاح بكونه جزءا من الجهاد الأكبر الذي أعلن عنه جلالة الملك المغفور له محمد الخامس مباشرة بعد عودته من المنفى، إذ ورد في خطاب جلالته ما يلي: «لقد كان في طليعة أهداف ثورة الملك والشعب، استرجاع استقلال المغرب، وبناء دولة المؤسسات، «القوية بسيادة القانون، وعدالة القضاء ، «ومواصلة للجهاد الأكبر لتحقيق هذا الهدف الأسمى، فقد ارتأينا أن نخصص خطابنا، المخلد «لذكراها السادسة والخمسين، لإطلاق الإصلاح الشامل والعميق للقضاء، تعزيزا لأوراش التحديث «المؤسسي والتنموي، الذي نقوده «. كما أن خطاب جلالة الملك هذا لم يتوقف فقط عند الإعلان عن الإرادة في إصلاح العدالة، بل أعطى للحكومة آنذاك توجيهات واضحة بوضع قوانين تؤسس للمحاكمة العادلة وتفرض احترامها، إذ بالرجوع إلى التوجيه الثالث المذكور في ذلك الخطاب يتبين منه أنه يتضمن أمرا صريحا بوجوب احترام المحاكمة العادلة ، إذ ورد فيه ما يلي: «مهما كانت وجاهة الأهداف الاستراتيجية، التي يمتد إنجازها على المدى البعيد، فلا ينبغي أن «تحجب عنا حاجة المواطنين الملحة في أن يلمسوا عن قرب وفي الأمد المنظور، الأثر الإيجابي «المباشر للإصلاح ، لذا، نوجه الحكومة، وخاصة وزارة العدل، للشروع في تفعيله، في ستة مجالات، ذات أسبقية، «أولا: «ثانيا: تحديث المنظومة القانونية ولاسيما ما يتعلق منها بمجال الأعمال والاستثمار، وضمان شروط المحاكمة العادلة. غير أن هذه الأمر التوجيهي الواضح والمعبر عن تحقق إرادة سياسية واضحة في كون الدولة ملتزمة باحترام القواعد المؤسسة للمحاكمة العادلة وضمانها، لم يلق استجابة من الحكومات المتعاقبة منذ خطاب 2009 إلى اليوم . وستتدخل الإرادة السياسية مرة ثانيا وذلك عبر دستور 2011 الذي يعتبر ثالث تحكيم ملكي عرفه المغرب في ظل الملكية الثالثة، وهو ما يمكن تسميته بتحكيم بين الدولة والدولة، والذي تمثل في سن دستور 2011 الذي سيدخل على النظام السياسي المغربي تحولات جد كبيرة تنافس كبريات الديموقراطيات في العالم، وعلى رأس تلك التحولات قضية أولى وأخرى ثانية، لهما معا نفس الأهمية المركزية: الأولى: تتمثل في أن جلالة الملك تنازل عن حقه في تعيين رئيس الحكومة خارج نتائج الانتخابات، كما كانت تنص على ذلك كل الدساتير منذ الاستقلال إلى دستور 1996 ، وأصبح ينتظر ما ستسفر عنه عمليات انتخاب مجلس النواب من قبل المواطنين، وبعد ذلك يعين رئيس الحكومة من الحزب الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد، وهو تحول يترجم مبدأ التشاركية الحقيقية في تدبير الشأن العام التي ينص عليها الفصل الأول من الدستور ،أي ان المواطنين يشاركون في ذلك التعيين باختيار الحزب الذي يريدونه أن يدبر شؤونهم الخاصة والعامة، وأن الملك يعين لهم من بين أعضاء الحزب المختار من طرفهم رئيسا للحكومة، وهذا التحول يترتب عنه تحمل المواطن بالدرجة الأولى مسؤولية حسن اختياره للحزب الذي منحه أصواته. الثانية: تخص القضاء إذ تخلى جلالة الملك عن تعيين القضاة لفائدة المجلس الأعلى للسلطة القضائية، واحتفظ فقط بحق الموافقة على ذلك التعيين، كما تنازل بصفة نهائية عن حقه في عزل القضاة الذي بقي من اختصاص المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وهي الاختصاصات التي كانت مسندة للملك في كل الدساتير السابقة منذ الاستقلال إلى دستور 2016. علما أن التحكيم الأول كان بين المجتمع والدولة، وترجم في تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة التي كلفها جلالة الملك بإنصاف ضحايا سنوات الجمر والرصاص التي عرفها المغرب، وهي الهيئة التي وقفت على مسؤولية الدولة والقضاء معا على ما وقع في تلك المرحلة، وعين جلالة الملك على رأس تلك الهيئة أحد ضحايا تلك الفترة وهو المرحوم الأستاذ ادريس بنزكري، وهي التجربة التي عجزت عدة دول أن تقوم بها . والتحكيم الثاني كان بين المجتمع والمجتمع وتمثل في تقديم مشروع مدونة الأسرة للبرلمان لأول مرة في تاريخ المغرب، لأن قانون الأحوال الشخصية صدر بواسطة ظهير وكان يعدل بظهائر، ولم يسبق أن سمح للبرلمان بمناقشته أو تعديله . وأتى هذا التحكيم من أجل رأب الصدع الذي عرفه المجتمع آنذاك حول محاولة تعديل قانون الأحوال الشخصية، وتمثل الخلاف وتعقدت الأمور عندما أخرجت مسيرة بالدار البيضاء تطالب بعدم إدخال أي تعديل على قانون الأحوال الشخصية، في مقابل مسيرة للمجتمع المدني وللأحزاب الوطنية التي نظمت قبل ذلك في مدينة الرباط، والتي كانت تطالب بإدخال تعديلات ترد الاعتبار للمرأة وتحمي حقوقها وتحمي حقوق الطفل أي الأسرة بصفة عامة . وستتأكد الإرادة السياسية المتجهة إلى وجوب إعمال والاستفادة من المحاكمة العادلة مرة ثالثة، ومن أعلى هرم الدولة ورئيسها، ليس فقط للتذكير بإلزامية ضمان المحاكمة العادلة، بل حددت تلك الإرادة السياسية كيفية تنفيذها فعليا وعلى أرض الواقع ليستفيد منها المواطن مباشرة ، وليس لتبقى حبرا على ورق، وهي الإرادة السياسية المعلن عنها في الرسالة التي بعث بها جلالة الملك للمؤتمر الدولي الأول حول استقلال السلطة القضائية، الذي عقد في مراكش في أبريل 2018 ، والتي ورد فيها ما يلي «بغض النظر عما حققه المغرب من إنجازات، في بناء الإطار المؤسساتي لمنظومة العدالة، فإنه «يبقى منشغلا، مثل كل المجتمعات التي تولي أهمية قصوى للموضوع، بالرهانات والتحديات التي «تواجه القضاء عبر العالم .» «ويأتي في مقدمة هذه التحديات، ضمان تفعيل استقلال السلطة القضائية في الممارسة والتطبيق، «باعتبار أن مبدأ الاستقلال لم يشرع لفائدة القضاة، وإنما لصالح المتقاضين، وأنه إذ يرتب حقا «للمتقاضين، فكونه يلقي واجبا على عاتق القاضي . «فهو حق للمتقاضين في أن يحكم القاضي بكل استقلال وتجرد وحياد، وأن يجعل من القانون وحده «مرجعا لقراراته، ومما يمليه عليه ضميره سندا لاقتناعاته . «وهو واجب على القاضي، الذي عليه أن يتقيد بالاستقلال والنزاهة، والبعد عن أي تأثر أو إغواء «يعرضه للمساءلة التأديبية أو الجنائية. «كما أن تعزيز الثقة في القضاء، باعتباره الحصن المنيع لدولة القانون، والرافعة الأساسية للتنمية، «يشكل تحديا آخر يجب رفعه بتطوير العدالة وتحسين أدائها، لمواكبة التحولات الاقتصادية «والاجتماعية، التي تشهدها مختلف المجتمعات . فمضمون الرسالة الملكية هذه أتى ليعزز التزام الدولة بالمفهوم الحقيقي للمحاكمة العادلة ليس فقط على المستوى التنظيري ، بل انتقل إلى مجال التطبيق الفعلي لها على أرض الواقع، إذ توجهت تلك الرسالة إلى كيفية تعليل الحكم وكيفية إصداره، وهو التعليل والإصدار الذي يجب أن ينطلق من تطبيق القانون، وينتهي الىتطبيق القانون . كما أن الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية يذكر بالمضمون الرسالة الملكية عند تخرج فوج من الملحقين القضائيين كتوجيه أولي يجب أن نير لهم الطريق وهم في بداية طريقهم، سواء ما تعلق بكيفية إصدارهم للأحكام التي سيتكلفون بها، أو ما يتعلق بالمفهوم الصحيح لاستقلال القضاء الذي هو مفهوم صدر عن ضامن استقلال القضاء جلالة الملك وفقا للفصل 107 من الدستور . أي الإعمال الحقيقي للمفهوم دولة الحق والقانون، حتى لا تبقى الأحكام القضائية موضوع اختلاف في التفسير والتأويل وتبعا لذلك موضوعا للتمييز في تطبيق القانون بين المتقاضين، وموضوعا للتشكيك أيضا خارجيا . ويتجلى ذلك الإعمال في ما تضمنته تلك الرسالة من تحديدها لمفهوم المحاكمة العادلة بكونها:ألا يحكم القاضي في ما يقضي به بين المتقاضين في النزاع بينهم، أوفي ما يقضي به على المتقاضين أي في نزاعهم مع القانون، إلا بما ينص عليه القانون والقانون وحده . فتلك الرسالة أتت لتذكر بما أتى به دستور 2011، أي لتذكر واضعي القوانين وتذكر المسولين على تطبيقه، بضرورة الالتزام بضمان استفادة المتقاضين والمواطنين من المحاكمة العادلة، وفقا لما ينص عليه الفصل 120 منه على ما يلي: «لكل شخص الحق في محاكمة عادلة، وفي حكم يصدر داخل أجل معقول . «حقوق الدفاع مضمونة أمام جميع المحاكم . غير أن هذه الإرادة السياسية الواضحة لم تترجم على أرض الواقع من قبل الحكومات المتعاقبة، كما لم تترجم في بعض الأحكام القضائية، وهو ما وقفت عليه اللجنة المكلفة بإنجاز تقرير حول النموذج التنموي التي اعتبرت أن من بين الأسباب الأربعة التي عرقلت التنمية في بلادنا وضعية العدالة، وضمنت في تقريرها توصيفا جد صعب وجد قاس ترجم النظرة التي خلصت إليها تلك اللجنة حول العدالة في بلادنا، وهو التوصيف الذي ذكرته في الفقرة الأولى من الصفحة 32 منه ،إذ ورد في الفقرة الأولى ما يلي: «يتعلق العائق الرابع بالشعور بضعف الحماية وعدم القدرة على التوقع الذي يحد من «المبادرات بسبب الهوة ما بين بعض القوانين التي تخللها مناطق رمادية والواقع الاجتماعي، «وقضاء يعاني من انعدام الثقة إضافة إلى ثقل البيروقراطية وتعثر سبل الانتصاف . كما ورد في الفقرة الثالثة من نفس الصفحة 32 منه ما يلي: «أن الاعتقاد السائد بكون العدالة غير فعالة يسهم في كبح الطاقات ، وعلى الرغم من الاصلاحات»التي تم إطلاقها لضمان استقلالية القضاء وتعزيز فعاليته والثقة فيه، فإن إحراز النتائج يعرفبعض التأخر: آجال طويلة للبث في الملفات، عدم القدرة على توقع الاحكام، نقص في الكفاءات، ضعف في الشفافية، وقصور على مستوى السلوك والاخلاقيات ، إن الممارسات «التعسفية، وإن كانت معزولة، وعدم دقة بعض النصوص القانونية وتفاوتها مع الواقع والممارسة «يقوي تصور المواطنين والفاعلين بخصوص مخاطر عدم الاطمئنان والتعرض للتعسف في»منظومة العدالة ، وينظر المواطنون إلى بعض حالات عدم الدقة في الصياغة القانونية على «كونها هوامش لتوظيف القانون لأغراض معينة الذي قد يمس ممارسة الحريات العامة والفردية، «مما يجعلها بذلك تحد من حرية تعبير المواطنين ومشاركتهم كفاعلين . لذا من الصعب الحديث عن عدم وجود الإرادة السياسية لإعمال القواعد القانونية لضمان واحترام شرط المحاكة العادلة التي هي الوجه الناصع لأي إصلاح للعدالة. ومن الصعب كذلك سماع خلاصة ما انتهت إليه لجنة النموذج التنموي التي تقول للمسؤولين على العدالة إنكم لم تترجموا على أرض الواقع تلك الإرادة السياسية الواضحة لإصلاح العدالة، ما دام أن تلك الإرادة أصبحت محصنة دستوريا وصدرت من أعلى سلطة في البلاد . ومن الملاحظ أنه منذ دستور 2011 لم تتحرك الحكومات المتعاقبة لإدخال تعديلات حقيقية على قواعد المسطرة الجنائية وقواعد المسطرة المدنية تفعل وتدخل إلى مجال التطبيق قواعد وشروط المحاكمة العادلة، لذلك قلت في مقدمة هذا العرض إن مطلب المحاكمة العادلة لا يزال مطروحا ، ومما يؤكد ما سبق هو أن الحكومة الحالية اأحالت أخيرا مشروع تعديل قانون المسطرة المدنية على الأمانة العامو للحكومة من أجل مباشرة مسطرة التشريع القانونية بخصوصه، غير أن بعض وسائل الإعلام تداولت خبر سحبه مجددا . لكن الذي يهمنا هو ما أتى به مشروع قانون المسطرة المدنية،لأنه هو أول معيار للتعرف على تصور الحكومة وفهمها للمحاكمة العادلة . فالقراءة الأولى لذلك المشروع يتبين منها أنه يهتم بالأولوية بالدفع بالقضاة وحثهم على الإسراع في إصدار الأحكام، بينما لا وجود فيه لأي مؤشر يبين الاهتمام بالنجاعة القضائية، ولا بالقواعد الأولية للمحاكمة العادلة، مما يضع السؤال كيف يمكن للقاضي أن يجمع بين واجب تحقيق النجاعة في إصدار الأحكام القضائية بما يقتضي من إلزامه بالبحث والاجتهاد لتكون الاحكام القضائية عنوانا للحقيقة ، وبين إلزامه بان يسرع في اصدار حكمه وفاء لما يسمى بالزمن الافتراضي لصدور الاحكام ،او الاسترشادي،وكأن اصدار الحكم مثله مثل صنع أي علبة او آلة جامدة تدخل في قالب مهيئ بصفة قبلية لا يتغير ، ان الدفع بالتسريع في اصدار الاحكام تجاوز ما يصرح به المسؤولون في الندوات او في غيرها سواء القدامى منهم والجدد ، بل اتى مشروع قانون المسطرة المدنية ليقلص من آجال الطعن ويقلص منآجال البث في الطعون ، ويدفع الى تركيزالقضايا المختلفة ليصدر فيها حكم واحد ، وتكليف المتقاضي بعمل كتابة الضبط في تبليغ الاستدعاء مع انه يؤدى للدولة الرسوم القضائية على المقال الذي يقدمه للمحكمة ، فإين نحن من ضمان الحكومة لتطبيق شروط المحاكمة العادلة كما هي محددة في الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب وادخلها في دستوره ، 3 – هل المحاكمة العادلة تنتهي باحترام الإجراءات المسطرية في المحاكمة ،ام تمتد لتشمل تعليل الاحكام القضائية ، الاعتراف بالحق في المحاكمة العادلة لا يكفي فيه الإعلان عليها في القوانين اوالدساتير ، لان عددا من الدول تنص في قوانينها علىعددكبير من الحقوق ، لكن بدون أي إعمال لها علىارض الواقع ، لكن الاعتراف الحقيقي وتبني والانخراط في الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالقواعد الأساسية للمحاكمة العادلة يستلزم النص على الآلية التي تمكن من استفادةالمواطن من مزايا المحاكمة العادلة ، أي آلية اعمالها على ارض الواقع ،أي اعمالها في تعليل الاحكام القضائية وفي إصدارها ،حتى يشعر بها المتقاضي والمواطن في القضايا التي تهمه سواء كانت ذات طبيعة وزجرية او مدنية ، كما ورد ذلك في خطاب جلالة الملك في سنة 2009 المشار اليه اعلاه ، وكما خلصت اليه اللجنة التي أنجزت تقرير النموذج التنموي ،