( تلك العبقرية المبكرة والروح العاصفة الثائرة التي اهتصرت الشعر أو اهتصرها الشعر، فقالت كل ما عندها بين الخامسة عشرة والتاسعة عشرة ثم لم تعاود ) لانْسونْ: تاريخ الأدب الفرنسي. يُدْهشُنا آرثرْ رامبو الشاعر الهائل، العابر للأزمنة والأمكنة، بنعال من ريح، الذي حقق منجزه الشعري اللافت والنوعي لفرنسا، وللعالم، وهو في مقتبل عمره، في شرخ الصبا وميعة الشباب، في عمر سبعة عشر عاما. وهو عمر – كما نرى- لا يسمح بانبثاق العبقرية والتفرد، وانبجاس النبوغ إلا للقلة القليلة من أبناء البشرية، إذ هو عمر المراهقة المشتعلة عمر الاهتمام النرجسي بالذات والتحديق في الآخر المختلف، والقسيم المكمل، أي: في المرأة تحديدا. لكن، يعلمنا رامبو، وتقدم لنا سيرته المكثفة، درسا بليغا عن نبوغه الباكر على أساس من «هضمه»، واطلاعه الواسع على الآداب اليونانية واللاتينية، فقد كان الأول فيهما بين زملائه وأترابه التلاميذ. ذلك أن الميراث اللغوي والشعري والثقافي غذى الشاب رامبو، تغذية شاملة عميقة، انتقلت إلى البلورة الجديدة باعتبار العصر، والسياق الزمني، والقيم السائدة، ما وضع بين يدي مدونة الشعر الإنساني، شعراً آخر، شعراً غير مسبوق، ينضح فرادة وتميزا، ومفارقة. ففي ربيعه السابع عشر، كتب عَمَليْه الشعريين الخالدين: (فصل في الجحيم)، و»الإشراقات». ثم بعد ذلك أتلف القلم، وعلق الكتاب، وحلق في ميتافيزيقا وجوده الشخصي والخاص، ورأى ما رأى. وضع الرتاج، وأنزل المزلاج، وأقفل الباب، وامتطى مركبة من نور تجرها جياد من أثير، ليتوه في أبدية اللحظة الأخرى، لحظة التحرر من ميراث شعري ضخم، ومن منجز إبداعي متفرد حققه الشاعر، وتَحَصَّله في هنيهة فارقة خاطفة أشبه ما تكون بهنيهة الوحي الغامضة والفجائية. اِسْمَعْهُ يقول: « اكتشفت ألوان الحركات، اكتشفت لغة شعرية في متناول جميع الحواس. احتفظت بحقوق الترجمة. لاحظت ما لا يمكن التعبير عنه. رُضْتُ**** نفسي على الوهم، فكنت أرى مسجدا مكان مصنع، وجوقة من الدفوف تضربها الملائكة، وحجرة استقبال في قاع بحيرة. ثم شرحت أضاليلي السحرية بأوهام من الكلمات». وهو إذْ وعى فعلته الشعرية الخطيرة والوجودية، ولَّى الوجه – غير آبِهٍ ولا نادم- شطر إفريقيا: (الحبشة)، وشطر اليمن: (عدن)، شاعرا يتنشق البن وعرق الزنود، ويعبث ب»البندقية»، كما يعبث طفل بِدُماهُ، ويتاجر في المُهَرّب والسلاح وأشياء أخرى، هائما على وجهه في الأدغال، والسّافانا، والأحراش، والجبال الجرداء، والصخور الناتئة، مأخوذا بالعوالم السفلية، والعوالم العلوية، والعوالم القصية، ماضغا للوقت و»القاتْ»، وممضوغا، نافضا يده من شعر أرَّقَه، فدَوَّنَه بسرعة عجيبة، مستعجلا موته. وفي هذا ما أدخله دائرة الشعراء «القديسين» الهائلين، والملعونين بما تفيده اللعنة هنا، من معاني اللذة الحرام، والطابو المزعج، والجحيمية التي اختارها لأن فيها ما يحقق الفردوسية المتحجبة، الهاربة، وهي الفردوسية التي نفثها سريعا في منجز شعري منحه، وباستحقاق، حياة أخرى، حياة ممتدة لا تقاس بعقارب الزمن. حياة يمنحها القراء عبر العالم، والتواريخ، والجغرافيات، واللغات، لسارقي النار مثل رامبو، في الجهات الكونية. لم يَعُدْ رامبو إلى رامبو – بكل تأكيد- بعد أن طار، أو على الأصح، هرب بحسب الشاعر «رُونيه شارْ»، إلى إفريقيا واليمن، بائعا للبُنِّ، ومتاجراً في البضائع، والذخيرة والسلاح، ومفاوضا صيرفيا بحريا مع ربابنة بواخر تنقل السلع، والمهربات وأشياء أخرى. صار «إلها أرضيا» صغيرا، أو»إنسانا إلهيا» بتعبير الفيلسوف ابن باجة. قُرْصُ شمس بُنيّة مُحَمَّصَة سقطت عند الأصيل في بحر لجيّ العباب، قُرْصٌ تقاذفته أمواج الأسطورة الشخصية المنحوتة بعبقرية غريبة مدهشة، وألواح الميتافيزيقا، وخرائط المتاهات المدوخة، وخرافة «العود الأبدي» !! ما يعني أنه اكتمل تماما، وانقفل كالدائرة الرياضية، وتناهى كمثل الذرة الفيزيائية، وتزوج العلوي، والتبس بالناري والنوري، واستوطنته الشعلة المقدسة، «ولم يكن لديه شيء آخر يكشفه سوى أنه عثر على الأبدية» كما عبر الشاعر «بولْ كلوديلْ». وفي هذا ما يسطر بحبر الألوهة الآدمية أن رامبو لم ينخلع من تماميته وكماليته حتى وهو يفارقها، ويحاول التنصل من عبئها وجبروتها، إلى ما يناقضها ويخالفها، وينسيها شكلا وحضورا، ووجودا وأنطولوجية. لأن الشعر إذا تحقق التحقق المرجو والمنشود، يحرق صاحبه كما أحرق هولدرلينْ، وتْرَاكْلْ، ولوتريامون، وأرْطو، ولافورغْ، وكوربييرْ، وغيرهم من الشعراء الهائلين العابرين بنعال من ريح مثلما قال الشاعر الشامخ سْتيفانْ مالاَرْمِيه، وهو يصف عبور رامبو الخطير والمتعجل والعاصف في آن. لم يكن عمله الشعري (فصل في الجحيم)، سوى سدّادة ميثية محكمة، وثيو- سيرة فذة ومخصوصة، ختمت توطينا عميقا في الشعر لأقْنومَيْ: الأنا والنّحن، اللذين صيَّرهما رامبو واحدا: (أنا آخر). ولم تكن: (الإشراقات) عمله الشعري الآخر الذي أحرق سفن الشعر الراسية قبله على مياه الشعر الهادئة أو الراكدة، عملا صوفيا منخطفا، منعزلا، مجثثا ومُنْبَتّا عن دمه الشخصي، وبياض حبره، وماء شعره، وفظاعات زمنه، وفوران شرطه الإنساني. الأَحْرى أنه كان نقطةَ بدءٍ وتسمية، وارتماءٍ في مجرة الشعر الكونية التي تَفَلَّكَتْ أزمنةً مرَّتْ، وأزمنة آتية. كتب الشاعرالفرنسي الكبير»رُونيه شَارْ» يقول: ( لم يعد الشعر يشكل لدى رامبو جنسا أدبيا أو سِباقاً. رامبو هو الشاعر الأول لحضارة لم تظهر بعد، حضارة ما آفاقُها ولا حيطانُها إلا قشٌّ غَضوبٌ. وإذا أمكن الكلام على شاكلة مُوريسْ بْلاَ نْشُو، فها هي ذي تجربةٌ للكلية، تتأسس في المستقبل، وتنال ترخيصها في الحاضر. ولا سيادة ترجع هي إليها سوى سيادتِها هي). -René char, Préface à Arthur Rimbaud- poésies/ Gallimard. ) ت : كاظم جهاد. )