بعضهم أطلق عليها صفة «انعطافة»، وبعضهم وصفها ب «التجديد»، بينما واقع الحال يفرض الإقرار بأن الأمر إعادة موضعة شمولية للأدوار المحورية الرفيعة لمؤسسة من القيمة العلمية والوطنية ل «أكاديمية المملكة المغربية». وهو ورش، قليل ما سلط عليه الضوء، يقدم الدليل على أن ل «عقل الدولة» منهجية حكم يتعاضد فيها الآني مع الاستراتيجي. عمليا، منذ تعيين الأستاذ عبد الجليل الحجمري في منصب أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة، بطبيعة شخصه الهادئة والمنفتحة، بأسلوبه البيداغوجي التراكمي في مجالات التدبير التربوي والأكاديمي، دخلت هذه المؤسسة العلمية الوطنية الرفيعة منعطفا جديدا على مستوى ما يمكن وصفه ب «هويتها المؤسساتية»، يدفع في اتجاه الرفع من قيمتها كإطار لبلورة الرؤى الاستراتيجية لقراءة واقع المغرب في تقاطع مع محيطه العالمي. لأنه علينا أن لا ننسى أن هوية «الأكاديمية» في كل التجارب الرائدة عالميا (خاصة التجربة البريطانية والتجربة الفرنسية والتجربة اليابانية)، تتأسس ليس على مستوى قيمة أعضائها العلمية والفكرية فقط، بل على مستوى ما تبنيه من أرضية مقاربة تحليلية ناقدة وتوقعية لخطو بلدانها في درب الحياة بثقل خطو التاريخ. فهي ليست «ناديا للتأمل والتفكير»، قدر أنها «مصنع للمعاني» وأنها صانعة «بوصلة طريق». كانت التجربة السابقة لأكاديمية المملكة المغربية، بحكم طبيعة ظروف التأسيس (فهي زمنيا لا تتجاوز 40 سنة من عمرها، إذا ما قورنت بتجارب رائدة عالمية تجتر وراءها تجربة أكاديمية ممتدة لأكثر من 150 سنة)، قد ظلت سجينة محاذير الخطو بروح العلم، مما جعلها مكبلة بما يمكن وصفه إجرائيا بعدم «شجاعة مغامرة المبادرة». حيث بقيت مسطرية في الالتزام بحرفية القانون المؤسس لها، كما تمت بلورته بظروف القرار السياسي الذي تحكم في إنشائها من قبل العاهل المغربي الراحل المرحوم الحسن الثاني يوم 8 أكتوبر 1977. بصفتها مؤسسة تتمتع بالشخصية الاعتبارية ضمن إطار القانون العام والاستقلالية المالية، مع تحديد أعضائها في 60 عضوا منهم 30 عضوا مقيما من جنسية مغربية، و30 عضوا مشاركا من جنسيات أجنبية، فكانت النتيجة على مدى سنوات، أن بقيت «أكاديمية المملكة المغربية» أشبه بجزيرة معزولة عن فضائها الوطني في أبعاده الفكرية والثقافية، وأنها أقرب لمؤسسة تقدم الجواب عن ما يطرح عليها من سؤال، دون مغامرة المبادرة إلى تفكيك واقع الأفق الاستراتيجي لسؤال المعرفة المغربية في بعده الحضاري. منهجية العمل اليوم، في هذه المؤسسة الوطنية الرفيعة، مختلفة تماما، ليس فقط بسبب تطوير قانونها المنظم منذ نهاية 2020 (بعد مصادقة البرلمان على القانون رقم 74.19 في شهر نونبر 2020)، بل أساسا بفضل اختلاف منهجية مقاربة «سؤال المغرب» في العهد الجديد للملك محمد السادس، فيها ملامح رؤية شمولية لمعنى «الإنسية المغربية» في أبعادها الحضارية. وأن ترجمة ذلك يتم مؤسساتيا من خلال خلق مؤسسات علمية رفيعة (المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية/ المعهد الملكي للتاريخ/ منظومة إعادة تحديث المجال الديني معرفيا وفكريا/ المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية/ المؤسسة الوطنية للمتاحف… كمثال). مما كانت نتيجته طبيعيا، ضرورة تطوير آلية عمل مؤسسة رائدة من قيمة «أكاديمية المملكة المغربية»، يسمح بتجسير علاقتها مع عناوين محيطها الوطني والعالمي، من منطلق البنى المؤسسة ل «الإنسية المغربية» في أبعادها الحضارية. فالأمر في المحصلة، جزء من كل. ضمن هذا الأفق، لإعادة موضعة شمولية لأدوارها المحورية، يأتي تعديل قانونها المنظم الذي واشج أكثر بين سؤال التحليل الأكاديمي (الذي هو لب هويتها) وبين علامات الإنتاج الثقافية والفكرية المغربية. ولعل من بين أهم ملامح ذلك، ربط عمل المعهد الملكي للتاريخ بأكاديمية المملكة، وكذا إعادة تنظيم لبنيتها المؤسساتية على مستوى العضوية فيها، حيث تقرر تأسيسا على المادة 78 من القانون رقم 74.19 ضمن بابه السابع الخاص ب «أحكام انتقالية وختامية» أن يعين جلالة الملك لجنة خاصة مؤقتة تتألف من أمين السر الدائم (الأستاذ الحجمري) وست شخصيات يعهد إليها بإعداد لوائح للشخصيات العلمية والفكرية المقترحة لعضوية الأكاديمية، أولاها خاصة بالأعضاء المقيمين، والثانية بالأعضاء المشاركين، والثالثة بالأعضاء الشرفيين، والذين يتولى جلالة الملك البت في تعيينهم. وهي الشخصيات الست التي تشكلت من كل من الباحثة في علم الاجتماع رحمة بورقية، وزير الخارجية الفرنسي الأسبق هوبير فيدرين، الروائي المغربي الطاهر بنجلون، وزير التعليم الحالي شكيب بنموسى، الباحثة في مجال العلوم القانونية السعدية بلمير، والباحث في مجال الأنثروبولوجيا عبدو الفيلالي الأنصاري. إن الأدوار الجديدة لأكاديمية المملكة المغربية، قد جعل منها ترتقي إلى مؤسسة وطنية للسؤال والتحليل، تهتم بكل علامات إنتاج «معنى المعرفة مغربيا»، عبر بوابات علم التاريخ، والترجمة، والفنون الحية والفنون الجميلة والتراث اللامادي. دون إغفال أسئلة تحديات القيم العلمية والقيم الدينية وعناصر تشكل الهوية. لقد أعادت هذه الموضعة الجديدة لأكاديمية المملكة المغربية وهجا جديدا، صالح بينها وبين محيطها الوطني والعالمي تواصليا، وحررها من تلك العزلة التقليدية التي ظلت سجينة لها بخطة البدايات التأسيسية، مما يعكس نضجا في الرؤية وفي الأدوار، يرتقي بمكانتها المؤسساتية أكاديميا ضمن مهرجان باقي المؤسسات الشبيهة عبر العالم، كونها شرعت في التأسيس تدبيريا ومؤسساتيا ومنهجيا، للارتكاز على عناوين الأسس البانية ل «الإنسية المغربية» ضمن محيطها العربي والإسلامي والإفريقي والمتوسطي، بالروافد المغنية للهوية المغربية لسنيا ومعماريا وثقافة طبخ وغيرها من كل علامات الإنتاج الحضارية.