من يمتلك جسد الذّات البشريّة: هي نفسها، أم الله خالقها كما في التّصوّر الدّينيّ؟ أم أنّ هذا الجسد ملك لطرف آخر هو المجموعة أو الدّولة؟ أم أنّه ليس ملكا لأحد؟ ليس من السّهل طرح هذا الإشكال القانونيّ والفلسفيّ والبيوقيميّ. ولكنّني أطرحه مع ذلك، لا لأنّ لي زادا نظريّا كافيا لطرحه في كلّ أبعاده، فهذا ما لا أدّعيه، وما لا يمكن أن يوفي بشروطه مقال بسيط، بل لأنّ إجابة ما عن هذا السّؤال ربّما يتوقّف عليها تحليل بعض مظاهر البؤس الذي تعيشه النّساء في علاقاتهنّ بالرّجال، ويتوقّف عليها تحليل صورتين نمطيّتين أساسيّتين تنتجهما وسائل الإعلام السّمعيّ البصريّ في العالم العربيّ عن جسد المرأة، سواء في كليباتها الفنّيّة أو إشهاراتها أو مادّتها الإخباريّة : صورة فنّانات الإغراء العاريات اللاّتي تنبعث منهنّ جاذبيّة الدّعارة من ناحية، وصورة النّساء المحجّبات اللاتي تحيط بهنّ هالة الأمومة المقدّسة من ناحية أخرى. من المالك المفترض والفعليّ لهذه الأجساد في عرائها وحجابها؟ انطلاقا من بعض صور نساء اليوم، وانطلاقا ممّا أعرفه وما أحدس به عمّا يسمّى "كرامة بشريّة"، يمكن أن أساهم في طرح هذا السؤال للنّقاش. أنتمي إلي جيل كان عليه أن يختار بين القيم التي تنشرها حركات الإسلام السّياسيّ في تونس، ونماذج التّحرّر الفرديّ التي كنّا نحاول الاطّلاع عليها في الأدبيّات النّسويّة أو اليساريّة. لم تكن للدّعوة الإسلامية جاذبيّة تذكر لدى أغلبنا عندما كنّا طلبة في سنّ العشرين، بل كان بعضنا يستظهر بفرضيّات إنجلز عن الملكيّة الفرديّة والأسرة، وكان بعضنا الآخر يجد بغيته في أدبيّات مبدعي الأوضاع، ويرتّل شواهد من كتاب راوول فانغام : "رسالة في حسن العيش موجّهة إلى الأجيال الصّاعدة" كما يرتّل الإسلاميّون بالأمس واليوم آيات القرآن. وكان الشّعار الذي نرفعه لمواجهة سلطة الأسرة ومواعظ الدّعاة الإسلاميّين الذين بلغوا ذروة نشاطهم الدّعويّ في آخر الثّمانينات هو: "جسدي أمتلكه أنا ولا أحد يتصرّف فيه غيري"، وهو نفس الشّعار الذي رفعته النسويّات في العالم الغربيّ، عندما كنّ يطالبن بالحقّ في الإجهاض، والحقّ في استعمال موانع الحمل، والحقّ في إقامة علاقات جنسيّة خارج الزّواج.. وما يمكن أن أقوله اليوم، مستفيدة من تراكم سنوات العمر، هو أنّنا لا نحتاج إلى شعار ومفترض "جسدي أمتلكه أنا" لكي نطالب بالحرّيّات الأساسيّة وبما أصبح يصطلح عليه ب"الحقوق الجنسيّة والإنجابيّة". لسبب بسيط أول هو أنّ كلّ هذه الحقوق تكفلها منظومة حقوق الإنسان باسم الحرّيّة والمساواة والكرامة، وربّما باسم السّيادة، سيادة ما غير مطلقة على الجسد، ولا تكفلها باسم مبدإ يبقى أكثر غموضا وإشكالا من غيره، هو ملكيّة الإنسان لجسده. فالسّبب الثّاني الأساسيّ الذي يجعلني أدرك اليوم ما في هذا الشّعار من خفّة، هو المطبّات التي يفضي إليها في إيجاد حلول لبعض مظاهر الضّعف البشريّ، وبعض مظاهر الأزمات التي تعيشها الذّات البشريّة. إنّ بعض هذه المظاهر يفرض تدخّلا من آخر يكون واسطة بين الإنسان وجسده لكي لا يفعل الإنسان بجسده ما يشاء في حالات اليأس وفي سياق الثّقافة الاستهلاكيّة التي تحثّ الإنسان على أن يستمتع ويغرق في المتعة، وفي سياق التّكنولوجيا الطّبّيّة التي تعد الإنسان بكلّ فراديس الشّباب والجمال والكمال وكلّ معجزات التّغيّر. لا بدّ مثلا من حماية المقبلين على الانتحار من حلولهم اليائسة، لا سيّما أنّ التّجارب تبيّن أنّ المنتحر عندما يعاني اضطرابات نفسيّة لا يقتل نفسه فحسب بل يقتل شخصا آخر يلتبس أحيانا بجسده، فيريد بفعله أن يؤثّمه أو يؤثّم من حوله. لا بدّ في هذه الحالة من التّدخّل لمساعدة المقبل على الانتحار على التّعبير عن رسالته الاتّهاميّة بالكلام لا بالفعل المدمّر لجسده وحياته. ولا بدّ للتّدخّل لحماية من يعانون من اضطراب في الوعي بهويّتهم الجنسيّة وممّن يريدون تغيير "جندرهم" رغم أنّهم لم يولدوا حاملين لخلل كروموزوميّ يؤدّي إلى التباس أعضائهم الجنسيّة. فالتّكنولوجيا الطّبّيّة تعد هؤلاء بإمكانيّة تغيير الجندر أو النّوع، وتفتح لهم إمكانيّة التّحوّل من الذّكر إلى الأنثى أو العكس، عن طريق العلاج الهرمونيّ أو الجراحيّ. ولكنّ التّجارب والأبحاث تثبت فشل ادّعاء تغيير الهويّة الجنسيّة، وخطورة الحلول التي يوفّرها الطّبّ والطّبّ النّفسيّ ذاته باختياراته العلمويّة. ثمّ إنّ مبدأ ملكيّة الإنسان جسده يمكن أن يفتح باب الاتّجار بالحياة. فالإنسان يحقّ له له أن يتبرّع بعضو من أعضائه في حياته أو بعد موته، ولكن لا يمكن أن يسمح له من النّاحية القيميّة أن يتّجر بأعضائه، ولا يمكن أن يعرّض حياته إلى الخطر المؤكّد.. ولكنّ سؤال "من يملك الجسد البشريّ" لا يطرح نفسه في هذه الحالات الاستثنائيّة القصوى، بل في حالات تمثّل واقعا بنيويّا مألوفا وأليما في الوقت نفسه، هو واقع التّجارة العالميّة بأجساد النّساء. فالحجّة التي يقّدّمها أنصار مؤسسة البغاء، والمدافعون عن "أقدم مهنة في العالم" كما يقولون، هي أنّ المرأة مالكة لجسدها وتفعل به ما تشاء. ونعرف اليوم حجم المأساة التي تعيشها المومس من خلال الشّهادات المنشورة لنساء تعاطين هذه المهنة وعبّرن عن المهانة التي تعيشها المرأة عندما تمكّن من نفسها من لا تريد ولا تختار، وعندما تتحوّل إلى ركام من اللّحم البشريّ، وعندما تفقد احترام نفسها لنفسها. إنّ جسد المومس ليس ملكا لها، بل بضاعة لمن يستهلكه، أو آلة حيّة منتجة يتصرّف فيها الوسطاء الذين يستغلّونها، ولذلك تعتبر المواثيق الدّوليّة البغاء شكلا من أشكال العبوديّة وتدينه. وما ينطبق على الاتّجار بالمومسات ينطبق في رأيي على الاتّجار بنجمات الإغراء لجعلهنّ أجسادا تعرض للفرجة والاستهلاك في سياق ما يُدّعى أنّه فنّ وهو في الحقيقة شكل جديد من أشكال البورنوغرافيا التي تنكر أنّها بورنوغرافيا. فهذه الصّناعة الرّائجة في شكلها الملتبس في العالم العربيّ تخلق أنماطا استهلاكيّة، وتمثّل مجالا لتغذية الاستيهامات، ومصدر لذّة لعاشقي الصّورة التي تمثّل الكمال وتبعد شبح الإخصاء والافتقار، ولكنّها في نهاية المطاف تؤدّي إلى تغذية الثّقافة الدّينيّة القائمة على التأثم والتّحجّب. فكما أنّ مؤسّسة البغاء لعبت دورا في استقرار الأسرة وامتصاص الفوضى الناجمة عن الحياة الجنسيّة، يمكن أن نقول إنّ بين ثقافة الحجاب وثقافة الإغراء والتّعّرّي تلازما مطلقا، وأنّ كلاّ منهما يمثّل معدّلا بنيوّيا للآخر، وكلاّ منهما يمثّل مصدر تنفيس للآخر. إنّ ثقافة الإغراء والتعّرّي لا تحرّر المرأة، بل تعرضها بضاعة استهلاكيّة، ثمّ إنّها إضافة إلى ذلك لا تتناقض مع حرص الرجال المستهلكين لهذه البضاعة على تحجيب بناتهم وأخواتهم ونسائهم بعد أن يطفئوا الشّاشة ويلتفتوا إلى واقعهم. بل إنّ تحجيب النّساء يقدّم عادة، في الأدبيّات الإسلاميّة، على أنّه ردّ فعل على العراء المعروض للفرجة. وقد شاهدت مؤخّرا قناة تبثّ كليبات بورنوغرافيّة وفي أسفل الشّاشة نفسها تقدّم أدعية دينيّة ومواعظ وابتهالات. فكلا الثّقافتين يمثّل سوقا مربحا وهما غير متناقضتين إلاّ في الظّاهر، ولذلك يمتلك الثّريّ العربيّ الواحد قناة تبث الدّعارة وأخرى تبثّ التأثّم من الدّعارة دون أن يرى تناقضا في الأمر.