القصة القصيرة جدا حافة خطرة جدا أيضا ؛إذا لم يتم الوعي بأضلاعها غير البارزة،في قصر يسعى أن يجذب العالم ، لمربع يفضي إلى ما لانهاية في الداخل الذي يطوي على ملكات الادراك والنظر الفكري . أقول دون ذلك، تضيع هذه القصة وصاحبها في دوران مفرغ، لن يضيف لهذه القصة إلا الاجترار والتكرار، من خلال بث كلام لايصاغ ولا يبنى ؛ بل لا تموقع له ، مهما احتمى بظل القصة القصيرة جدا والعالية السقف الإبداعي . لهذا، لا بد من الخبرة والحكمة في كتابة هذا النوع الإبداعي الشائك التكوين. حضرتني هذه الفكرة المركبة، وأنا أضع اليد على مجموعة « كورونيات « الصادرة مؤخرا . يواصل القاص حسن برطال ، رمي العالم بمربعات قصصية ، ذات الأسئلة الكبرى. هذه المرة تنطلق قصصه القصيرة جدا في مؤلف « كرونيات « من الوضع الراهن الذي يتنفس تحت وباء «كورونا « الذي عمر مرضا، مدة ليست بالقصيرة واليسيرة. وهي بذلك، لحظة عسيرة واكبتها بروتوكولات صحية، غيرت عادات بأخرى، على صعيد الأفراد والجماعات. فاختارت هذه المجموعة التمركز أولا حول وحدة الموضوع المتمثل في « كورونا « وانعكاساتها النفسية والاجتماعية؛ بل والفكرية. وبالتالي، فالقصص هنا، تتوزع على نفس التيمة، لكن بطريقة سردية خاصة تمتص تفاصيل اليومي، المختزل في مفارقات . أقول تمتصها وتعيدها،عبر نفس ساخر وقصير إلى حد التقتير؛ سعيا إلى تحويل هذه القصة الوامضة، إلى إشارة أو علامة أو لمحة أو رجة. إنها كل ذلك وأكثر،عبر حالات قصصية تذهب إلى حد سطرين . بهذه البلاغة في الصوغ ، فالقاص ينفرد بهذه الصيغة في كل مؤلفاته، في هذا النوع القصصي . فتتحول الكلمة إلى لبنة، إذا حذفت ؛ قد ينهار المعمار القصصي. إضافة إلى تراكيب مضغوطة تجنح نحو داخل ينطوي على أسئلة، تنطلق نحو الخارج الزاخر بالمفارقات. لكن هذه المربعات، تضيف مفارقات التأمل لما يجري. بذلك فهذه المجموعة تلهث بدورها تحت الوباء بلسانها، لتحيط بهذا «الكائن « الصعب الهندسة والواسع التأثير والانعكاسات. إنها بذلك تسوق المأساويات، بشكل ساخر. نقرأ في مجموعة « كورونيات» قصة « القبض على كورونا « ص 26 : « الزوجة تقول لزوجها : ( غسلت عليك يدي ) بالماء والصابون .. . الطفل يقول لمعلمه: أبي هو كورونا ..» مجموعة « كورونيات « تدون الساقط والمنسي، سعيا إلى احتضان الظلال، إبرازا للمفارقات . فالقصص هنا، تبنى كمربعات، تضمر أكثر مما تقول، من خلال كلمات قصصية معدودة ، تتحول إلى أدراج تغوص بالقارىء إلى داخله ، من خلال واقعة أو أحدوثة تتأرجح سردا بين الواقع والمتخيل أو بالأحرى الانطلاق من مداخل واقعية، سرعان ما تخضع للتحوير،على ضوء غرابة الواقع وتشعباته في المخيال الشعبي واللاوعي الجمعي . نفتح نفس المجموعة على ومضة « أعراض كورونا « ص 58 : « رجل عطس فقال الحمد لله…وعلى بعد ثلاثة أمتار رجل آخر سمع العطسة فحمد الله بدوره ثم هرب أما أنا فتسمرت في مكاني أبحث عن تفسير لتصرف الرجل الثاني ..» . من جانب آخر، فهذه المعادلات القصصية المختصرة والمفضية لنتائج نهايات غير مألوفة ،أي صادمة ، « كهربت « كل شيء جمالي ؛ بما فيه الترقيم الذي تتداخل فيه الفواصل والنقط . كأن القصة تسعى إلى الجملة القصصية المتكاملة من حيث المعنى ، بل المتكاملة قصصيا، من خلال تقضيم عناصر السرد ( شخوص ، مكان ، زمان ، حكاية …) . في هذا السياق ، فالقاص يهتم أكثر بالشخوص وهي تترنح من الألم، ألم الواقع والوجود . كما أن عناصر السرد الأخرى متخففة أكثر من الوصف ؛ في تبئير للأفعال ضمن مشاهد . نستحضر هنا ومضة « صندوق الدعم « ص 59 : « تم الإعلان عن دعم المؤسسات التي أوقفت الجائحة نشاطها ..رجل مطلق أعلن عن إفلاس مؤسسة زواجه ..» يبدو لي أن القاص حسن برطال تدرج على سلم القصة القصيرة جدا، عبر مؤلفات متعددة ( أبراج قوس قزح سيمفونية الببغاء مغرب الشمس الماء و البنون عائد إلى فيفا … )، وهو بهذا الجهد، لم يحد عنها أو انتقل لجنس إبداعي آخر ، وعيا منه أن لكل جنس أدبي قوانينه الرمزية .وبمعنى آخر إقامته ورؤيته الخاصة للعالم. وهو ما يؤكد أن المكوث داخل نفس النوع الأدبي، له معناه العميق. فالكاتب يتخلق داخل نفس النوع، تعميقا لرسوخه بغية الانفراد بتلك الخصوصية التي تتولد عن عذاب وعرق. وهو المتحصل مع القاص حسن برطال الذي يطارد المفارقات، مبرزا رؤوسها ، من خلال كلمات معدودة ، تشخص الحالات والمواقف، عبر اختزال سردي، في قالب ساخر، يقلب الوظائف المألوفة ، الشيء الذي يخلق رجة داخلية لدى المتلقي، وهي تطفو ضحكا ولو من الذات.