تَفتحُ جَريدَة «الاتّحَاد الاِشترَاكي» عينَ القارِئ المَغربيِّ علَى فترَةٍ أسَاسية منْ عالَم الطُّفولة، يَسترجعُ فيهَا أَصحابُها لَحظاتِ عُبورهم الاسْتثنائِي مِن "عَالم الطَّبيعَة" إلَى "عَالم الثقَافَة"، عَبر اللِّقاء الأَوّل بعَالمِ الكُتّاب أوِ المَدرسَة وَمُروراً بمُختلَف الحكَاياتِ المُصاحبَةِ: الدَّهشَة الأُولَى فِي الفَصل؛ الاِنطبَاع الَّذي يُخلِّفه المُعلِّم أوِ «الفَقيه»؛ تَهجِّي الحُروفِ الأُولَى؛ شَغَب الطُّفولَةِ وَشقاوَتهَا وَأشكَال العِقَاب غَيرِ المُبرَّر أَو المُبرَّرِ بمَا لَا يُعقَل؛ انْتظَار الأمَّهاتِ أمَامَ بابِ المَدرسَة؛ زَمَن الرِّيشَة والدَّواة وَالقصَص الَّتي تسْتَتبِعُ لَطخَات الحِبْرِ في الأصَابعِ وعَلى الدَّفاترِ وَالمَلابسِ؛ مُقرَّرات الرَّاحلِ بُوكمَاخ الشَّهيرَة، وَغَيرِهَا منَ التَّفاصيل الَّتي كانتِ الْبدَاياتِ الأُولَى التِي قَادَتْهم إلَى مَا هُم عَليهِ اليَوم وَالَّتي بكلِّ تَأكيدٍ، سَتتحكَّم، قليلاً أوْ كَثيراً، في مَا سَيكُونُونَه غَداً. صبيحة الاثنين. ثقل الحِمل، وهرش القمل، و»نص الشكل». ما إن يهل مساء الأحد حتى تتعكر أمزجتنا وتندثر قهقهاتنا ويرحل عنا الابتهاج إلى كهوف نائية قصية، ثم تنبلج لنا الحقيقة في عنف مرارتها. نتذكر أن هناك ضيفا ثقيلا، وقحا وسمجا اسمه دفتر التمارين. لا صوت يعلو فوق لغة القهر. كان أبي قد اشترى لي محفظة ذات إبزيمين، شبيهة بتلك التي يحملها جباة الضرائب، وكان التلاميذ يهزؤون بي لضخامتها وقبح منظرها، وكنت أبلع الحرج، وأبتعد قدر الإمكان عن الأفواه الصغيرة الساخرة حتى لا يتلقى أحدها لكمة تسكته هو، وتتسبب لي أنا في وجبة دسمة من الزرواطة في المساء. كنت أمقت هذه المحفظة، فقد كانت تشلني وتقتل حريتي وتعيق حركاتي، خاصة تلك الحركة الدؤوبة من مقبضها إلى رأسي ومن رأسي إلى مقبضها. لا بد من إسكات هذا الدبيب الذي ينغل في جذور شعري، لا بد من الهرش. لم تكن هناك رأس واحدة تخلو من القمل في قسمنا، فالقمل دليل قاطع على أننا أمة مسلمة، كان الناس يقولون عن صادق اقتناع: « اللي ما فيهش لقمل ماشي مسلم «. أنتحي أنا وحسن ومصطفى، وأحيانا يكون معنا عبد الحق وعبد الهادي، جانبا من سور المدرسة المقابل لحي «سوسيكا» ويخرج أحدنا من جيبه دروع الدفاع، فبعد قليل سندخل ساحة المعركة. أمد يدي فيصب عبد الحق قطرات من «زيت العود»، ثم يخرج من جيبه فصوصا من الثوم، سرقها من أمه ويشرع في فركها على راحتي، ونفس الشيء يفعله مع الآخرين. وعندما ينتهي منا نحن الثلاثة، يمد لنا يده فندلكها بدورنا مركزين على مقدمة الأنامل. تلك كانت بعض وسائل دفاعنا ضد مذموم الذكر، معلم العربية سي «خليفة «، ذلك الكائن المهووس لدرجة الجنون ب»قطعة الشكل». شاع، لداع ما، بين الأطفال أن الزيت البلدي والثوم يخففان من الآلام المبرحة التي تتلقاها أيدينا الصغيرة حين نفشل في إعراب الكلمات. ولأن إعراب سطر كامل، كما يقتضي العرف، من نص لا نفهم فيه شيئا، كان في حكم المستحيلات، فإن الضرورة تفرض أن نتسلح له، لل»خليفة «، بما استطعنا من زيت وفصوص ثوم. اليوم باغت النحس المشؤوم صاحبنا الوديع: «مستقيم عبد الهادي». أعتقد أن جميع الأعين الصغيرة رمقت دائرة البول على سرواله لما نودي باسمه للقيام، ورغم أن أنامله يفترسها الرعاش، ها هو المسكين يجاهد بلا أمل لإخفاء الدائرة اللعينة، فالخوف كل الخوف أن يصبح عند الخروج مادة للتندر. زأر سي خليفة: «اشكل السطر الثاني». وطفقت الحركات والسكنات ترتسم، كيفما اتفق، فوق الكلمات وتحتها، يزيدها اضطراب الأصابع سوءا فتستحيل الكسرة منشارا والسكون مغرفة والتنوين مقلشا كأذني «مشطفى»، والفتحة خطا طويلا يشير نحو موقع «سوق الكلب». تنفرج غضون الضبع المتربص ويمني روحه المريضة باقتراب جولة الانتقام ثم يزأر من جديد: «لماذا نونت سؤدد»؟ فيأتي الجواب ملعثما بالرعب: – « لأنه اسم مكان». -»هممم سؤدد اسم مكان، آش من مكان؟ هل الكلمة مفرد أم جمع؟» -جمع. -ماهو مفردها؟ -سد. -»الله أكبر…..سد»، ويجيب عبد الهادي الذي ظن أن الأستاذ سأله عن «أكبر سد»، والذي كان في الآن نفسه يحلق في قارة العقاب، حيث السياط اللاسعة تتهاوى والأنياب المسمومة تقطر: -»أكبر سد في المغرب هو سد لالة تاكركوست». -»انتخابات هذي…» لسنا ندري لماذا كانت كلمة انتخابات هذه لازمة يرددها الضبع في كل المناسبات، حين يغضب، حين يسخر، حين يتعجب، حين يشتم…. في كل الأحيان وفي كل الظروف لا تطرق سمعك سوى هذه الخاء المتناثرة في الهواء. انهالت «الكروة» الناقمة على اليد اليتيمة. حصة اليوم عشرون دقة في كل يد. ومع كل ضربة يتلوى الجسد الأعزل، ويرمي عبد الهادي يده، التي بدت الآن كقط أليف ميت، وسط رجليه لعل ذلك يخفف من جبروت السوط الأهوج. عندها يلكزني حسن زميل طاولتي موشوشا لي بهمس خائف: «واش سد لالة تاكركوست» ماشي هو أكبر سد في المغرب؟». قليلون منا فقط من كانوا يعرفون الفرق بين الشكل والتاريخ والجغرافيا وسورة «الواقعة» واللفيف المفروق وأكل السحت…. كان الرعب من الضرب يقوض كل قلاع الاستيعاب في أدمغتنا الغائبة. ذات يوم طلب أستاذ الفرنسية، وكان اسمه «كدانا» أو «بدانا» لم أعد أذكر، من «حسن» أن يصرف له لوفيرب jouir -ألامبارفي. بدأ حسن يتأتئ je -je -je ما جعل الأستاذ يسأله: «آشنا هي بعدا «جوير؟». انتظر حسن برهة ثم حول وجهه نحو النافذة واتخذ هيئة من يفكر وقال: -»ماشي هي الجير؟». هو لايعرف من اللذة إلا القليل، وفعل «التذ» بالفرنسية بعيد جدا عن قاموسه، أما «الجير» تلك الحجارة النارية البيضاء التي كانت تضطرم في السطل قبل أن تتحول إلى صباغة نطلي بها جدران بيوتنا، فقد كان يعرفها حق المعرفة، خصوصا لما تعطيه أمه نزرا يسيرا منها وتقول: «خوذ هاد الجوير دوز بيه على الكابينة» وتدفع في وجهه شطابة الدوم، فيأخذ المكنسة ويغمسها في سطل الجير ويشرع في الرش. بدا عبد الهادي في طريق العودة إلى طاولته كدجاجة مبللة منتوفة الريش. دائرة سرواله التي كانت بحجم كرة المضرب، صارت الآن بحجم كرة اليد، وجهه الذي جففه، قبل «الكروة» شحوب الخوف، أصبح الآن رصيفا مهجورا ينضح بالعرق والدمع والمخاط. يداه الفائحتان برائحة الثوم، غدتا كشوكتين صدئتين منسيتين على قارعة الطريق. أوووووف من أين أتاه كل هذا الهواء لينفث هذه التنهيدة المنبجسة من أعمق أعماقه؟ «يتنخصص»، على الأقل انزاح عن الصدر، ولو إلى حين، جبل انتظار العذاب. مازال في القلب متسع للحبور. أخيرا يأتي أوان السراح. تضغط أصابع «با عباس»، حارس المدرسة، على جرس الخروج فتضج السعادة في قلوبنا، سنتحرر، أجل سنتحرر من الشكل والضمة واللفيف والسكون، والسوط والسد والسؤدد والسورة والسحت، وأيضا من لوفيرب» Jouir.