التمييز التربوي وغياب مبدأ تكافؤ الفرص ينظر إلى المدرسة عادة باعتبارها مؤسسة مجتمعية ذات طبيعة تربوية تنشيئية وثقافية مستقلة عن التجاذبات والصراعات العرقية والسياسة والاجتماعية التي تخترق المجتمع، وباعتبارها فضاء محتضنا لكل أفراد المجتمع، مهمتها الإشراف على التوجيه والإعداد والتكوين وتطوير مهارات الإنسان وقدراته وإطلاق العنان لطاقاته وإبداعاته وتحريرها من كل أشكال التسلط والقهر والتعسف والعنف حتى تتمكن من خلق فرد قادر على مواجهة مشكلات وتحديات العصر. وللمدرسة وسائل بيداغوجية وثقافية لنشر العدل والمساواة، لأنها مؤسسة وجدت لتقوية تلاحم المجتمع وتماسك أفراده، كما أنها تملك آليات لتخفيف حدة التباين الطبقي وردم الهوة بين أغنياء المجتمع وفقراءه. هكذا ينظر إلى المؤسسة التعليمية حين تصوغ أهدافها ومراميها ، تحقيقا لمبدأ تلاحم أفراد المجتمع، لكن الواقع كثيرا ما يكون مغايرا لذلك حين صارت وظيفة النظام التربوي هو إعادة إنتاج التمييز الاجتماعي أو المحافظة على بنية المجتمع القائم وإعادة إنتاج علاقات النفوذ الطبقي فيه، حتى إن بعض التربويين اعتبروا أن اللامساواة في المجتمع هي إحدى نتائج التمييز التربوي كما أن العديد من المدارس والاتجاهات النقدية ترى بشكل عام أن بنية العلاقات الاجتماعية القائمة في المجتمع، هي التي تهيمن على النظام التربوي فيه وتتمثل هذه الهيمنة في علاقات التوافق بين بنية النظام التربوي وبنية علاقات الإنتاج الطبقية في المؤسسات الإنتاجية في المجتمع وذلك من خلال فعل اجتماعي مباشر من قبل القوى المسيطرة – د. يزيد عيسى السورطي. ويرى هؤلاء النقاد التربويون أن المدرسة ماهي إلا جهاز ايديولوجي للدولة كما كانت الكنيسة بالنسبة للدولة الإقطاعية، بمعنى أن المدرسة ليست تلك المؤسسة البريئة المحايدة ولكنها وبسبب من مهامها السابقة ذاتها هي مؤسسة طبقية ذات وظيفة ايديولوجية ( ل – التوسير). هذه الوظيفة الايديولوجية لا يمكن اعتبارها معزولة عن وظائف أجهزة الدولة الأخرى قمعية كانت أم ايديولوجية والتي تعمل على تكريس هيمنة الفئة المسيطرة والمستفيدة. والحديث عن المدرسة المغربية الراهنة وعن التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أرست دعائمها الطبقة السائدة ستبقى الأداة الفاعلة في خدمة مصالح تلك الطبقة مما قد يعمق الصورة الطبقية للمؤسسة التعليمية وهذه الصورة هي وليدة (ضرورات «موضوعية» تفرضها الطبقات الحاكمة على التعليم وعليه ان يستجيب لها وأهمها الحاجة إلى انتقاء النخبة وتدريبها تقنيا ونظريا لتصل إلى أعلى الدرجات والحاجة إلى إعادة علاقات الإنتاج) – محمد بوبكري – تأملات في نظام التعليم بالمغرب. هذه السياسة التربوية التي تتحكم في آلياتها مصالح طبقة دون أخرى غالبا ما تقيم نظاما تربويا أساسه التمييز، وغياب العدالة في توزيع الفرص والخدمات والامتيازات التربوية والتعليمية. عن مفهوم التمييز التربوي التمييز التربوي يعني تغييب مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية وهو احد أشكال الهيمنة والاستحكام لأنه يعني حرمان أفراد أو جماعات أو فئات من حقوقها التربوية بطريقة تعسفية. والفشل في تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية كما يرى مايكل يونج أهم السلبيات في النظام التربوي التقليدي، وكثيرا ما يلف مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية الغموض لاختلاف مفاهيمه وتعدد الرؤى إليه: أ- هناك المفهوم المحافظ الذي مفاده أن الناس لا يتمتعون بنفس المواهب والملكات، وهم خلقوا دون أن يتشابهوا في أبدانهم وأخلاقهم ومواهبهم لذا يفرض على المؤسسات التعليمية اختيار الموهوبين فقط وإعدادهم وتأهيلهم لخدمة النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي السائد، لكن مع تطور الأوضاع الاقتصادية في الغرب وظهور الحاجة إلى اليد العاملة المكونة والمدربة انتشر المفهوم الرأسمالي- الليبرالي لمبدأ تكافؤ الفرص التعليمية الذي يرى انه يجب الاعتماد على كل الكفاءات والمهارات بدلا من الاعتماد على الطبقة الاجتماعية والخلفية الاقتصادية كأساس للانتقاء للمؤسسات التعليمية، فازدادت وتيرة تعميم التعليم ومجانية بعض مستوياته وأصنافه حتى يساعد على تأهيل المواد البشرية للرفع من وتيرة الإنتاج والتطور الاجتماعي. ب- المفهوم الثاني لتكافؤ الفرص التعليمية يركز بشكل اكبر على الظروف الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع ويدعو إلى المساواة في المسيرة التعليمية من بدايتها إلى نهايتها، ويشدد على ظروف سير العمل في المدرسة، أي أنه يهتم بالمساواة في نسب النجاح المدرسي والتفوق المهني بين مختلف الطبقات الاجتماعية. ومن أهم شروط إيجاد تكافؤ في الفرص التعليمية توافر تكافؤ في الظروف الاجتماعية والاقتصادية للإفراد في المجتمع، ذلك لان تكافؤ الفرص التعليمية لا يعني مجرد فتح أبواب التعليم بالمجان لكل أفراد المجتمع من دون الاعتبار لأحوال هؤلاء الأفراد الأسرية المتباينة وبصرف النظر عما هم عليه سلفا من فروق صارخة في المستوى الاقتصادي والاجتماعي. كما أن من شان هذا التفاوت الاجتماعي والاقتصادي بين الأفراد والأسر أن يسبب في ضياع فرص النجاح أو التوفيق في المسار التعليمي لأبناء هذه الفئات المتضررة اجتماعيا أو يهددها أو يؤثر عليها سلبا. إن مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية يعني بصورة أو بأحرى غياب كل أشكال التمييز التربوي وقد عرف التمييز التربوي وفق الاتفاقية الخاصة بمكافحة التمييز في مجال التعليم التي أبرمت في عام 1960 كما يلي (أي تفرقة أو استثناء أو قصر أو تفضيل يجري على أساس الجنس أو اللغة أو الدين أو المعتقدات السياسية أو غيرها أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الحالة الاقتصادية أو المولد، يقصد منه أو ينشا عنه إلغاء المساواة في المعاملة في مجال التعليم أو الإخلال بها ) – تقرير عن التربية في العالم – اليونسكو 1992 – ص 54. وتشدد منظمة «اليونسكو» على ضمان التمتع الكامل بحق التعليم باعتباره أساسا لتحقيق التنمية، وتقول انه (لضمان ممارسة الحق في التعليم، فلابد من وجود تكافؤ في الفرص وتمتع الجميع بالتعليم) والاتفاقيات الدولية الداعية والراعية لتحقيق العدالة والإنصاف في التربية والتعليم عديدة وكثيرة وجميعها تتحدث عن «الحق» في موازاة «التكافؤ» و«العدالة» من خلال الالتزام بمنع أي شكل من أشكال التمييز في التعليم. الأسباب التعليمية في تنامي ظاهرة التمييز التربوي: من العوامل التربوية والتعليمية التي ساهمت في زيادة حدة التمييز التربوي في مجالنا التعليمي، وجود فوارق في التمدرس وخصوصا على المستوى الجغرافي بين الوسطين الحضري والقروي ومن ذلك: ضعف تغطية الجماعات القروية بالتعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي (خصوصا) – الخصاص المهول في عدد الداخليات بالعالم القروي – ضعف عدد المطاعم المدرسية – قلة او انعدام التجهيزات والوسائل التعليمية الحديثة – قلة المنح الدراسية لفائدة الفتيات المتمدرسات بالتعليم الثانوي -….) مما ادى إلى حرمان عدد من المناطق النائية من حقها في التعليم بسبب ضعف البنى التحتية للمؤسسات التعليمية ونقص الإمكانات والتسهيلات والمرافق التعليمية وقلة المدرسين وبعد المدارس عن مقرات السكنى وإهمال تنمية هذه المناطق، ويمكننا تشخيص اهم هذه الاختلالات التربوية والتعليمية التي تساهم في حدة التمييز التربوي في: – نقص المدارس أو بعدها عن أماكن السكن، كما أن نسبة تغطية الجماعات القروية بالتعليم الإعدادي والثانوي ضعيفة ودون المطلوب. افتقار المدارس إلى التجهيزات الأساسية، وإلى المرافق التربوية والصحية، فمثلا في الموسم الدراسي 2006-2007 تم الإعلان عن وجود 9000 قاعة تدريس في وضعية غير لائقة، وبالنسبة للتجهيزات لاتزال ثلاثة أرباع المدارس بالمناطق القروية غير مرتبطة بشبكة الماء الصالح للشرب أو لا تتوفر على مرافق صحية، كما أن ثلثي تلك المدارس تفتقر للكهرباء وقليلة هي المؤسسات التي تتوفر على سكن للمدرس بالعالم القروي وبالتالي فان عددا معتبرا منهم يزاولون عملهم في ظروف صعبة تعوق الإنجاز الأمثل للعملية التربوية والتحصيل الجيد. عدم تحقيق المناهج الدراسية للحاجات الأساسية لسكان البوادي وعدم توافق برامجها وموادها مع خصائص بيئتهم. قلة عدد المدرسين، فعلى سبيل المثال أشار وزير القطاع خلال تقديمه لمشروع الميزانية الفرعية لوزارته إلى أن المغرب بحاجة إلى 27 ألفا و 209أستاذا خلال الموسم الدراسي المقبل، إضافة إلى 6 ألاف و629اطارا إداريا، فكم يتم توظيفه سنويا؟؟؟ – وجود أقسام بمستويات متعددة وخاصة في الناطق النائية – تعيين وتكليف المدرسين الجدد المتخرجين حديثا من المراكز الجهوية للتربية والتكوين بالمناطق النائية وبالبوادي والقرى وغالبا ما تكون هذه البيئة القروية حقل اختبار للمدرس الجديد وبعد سنوات من التمرين والخبرة ينتقل بنتائج خبراته إلى المدن والحواضر دون أن تفيد وتستفيد مما يحول هذه المناطق النائية إلى حقل اختبار أو تمرين لا غير، فأين الاستقرار التربوي والمهني؟ التعددية في أنماط التعليم، فإلى جانب التعليم المزدوج العصري هناك التعليم الأصيل والتعليم العتيق والتعليم الخصوصي والتكوين المهني والتقني، وكذا تعليم البعثات الأجنبية، والملاحظ أن هذا الأخير يكاد يكون موقوفا على أبناء الفئات المحظوظة ماديا وطبقيا ويضفي البعض على هذا النوع من التعليم صفة التعليم النموذجي الأمثل عكس التكوين المهني والذي يعتبره البعض ملتجئا «لمعطوبي الدراسة» أي المطرودين والموقوفين. هذه الاختلالات و التمايزات تبرز الطابع النخبوي والتمييزي للتعليم السائد لان الدولة غير قادرة على تحقيق عدالة تامة، أو على الأقل تقدم عدالة نسبية ضمن الإمكانيات المتاحة، لكن جاءت جائحة كوفيد 19 فحفرت بشكل أعمق في جسمنا التعليمي من خلال اعتماد (التعليم عن بعد) في غياب بيئة تعليمية تلائم الحاجيات التقنية والمادية والبشرية الملائمة لهذا النمط التعليمي: طلبة وتلاميذ يفتقرون لإمكانية الوصول إلى الانترنيت – طلبة وتلاميذ لا يملكون جهاز كمبيوتر لاستخدامه لأداء الواجبات – وهذا ما يرسخ أوجه اللاعدالة في التعليم ويجعل الفئات الأدنى اقتصاديا غير قادرة على الوصول إلى الانترنيت وبالتالي تغيب معايير تعليمية متكافئة. التمييز التربوي على أساس الجنس ينص الإعلان العالمي بشأن التربية للجميع على انه (يجب أن تمنح الأولوية القصوى لضمان توفير التربية للفتيات والنساء وتحسين نوعيتها وإزالة العقبات التي تحول دون مشاركتهن على نحو فعال كما ينبغي القضاء على كل القوالب الفكرية الجامدة القائمة على التمييز بين الجنسين في مجال التربية والتعليم). إذا كانت منظومتنا التربوية قد حققت انجازات كمية مهمة في اتجاه الوفاء بهدف تعميم التعليم حيث فاقت النسبة الصافية للتمدرس في التعليم الابتدائي 96% وأدت إلى تحقيق تكافؤ الفرص التعليمية للذكور والإناث عبر تطبيق مجانية التعليم وزيادة الإنفاق على التعليم وتعميم التعليم فتحقق بعض النجاح في هذا المجال. لكن على الرغم من ذلك فلا يزال هناك عدم تكافؤ في الفرص التعليمية بشكل عام بين الذكور والإناث إذ يغلب على تعليمنا بمختلف مستوياته وأنواعه التمييز ضد الإناث حيث لاتزال كثير من النساء المغربيات يعانين من الأمية ومعدل التحاق الفتاة في البوادي ما يزال غير مرضي وكثيرا ما تواجه الفتاة القروية او من وسط فقير صعوبات كثيرة تحول دون إكمال تعليمها وتجعلها عرضة للانقطاع عن الدراسة والتسرب من المدرسة (الزواج المبكر – بعد المدرسة عن السكن – النظرة الدونية للفتاة المتعلمة – قلة مراكز الإيواء – قلة وسائل النقل – ضعف عدد المنح المخولة لمتابعة الدراسة بعيدا عن مقر السكن…..). لكن على الرغم من كل ذلك فهناك مجهودات وجهود مبذولة مركزيا وجهويا ومحليا لتحقيق المساواة التعليمية بين الذكور والإناث . التسرب والرسوب مؤشر على وجود تمييز تربوي يشكل الهدر المدرسي آفة تؤثر سلبا في تنمية مجتمعنا، حيث أظهرت بعض الدراسات التي أنجزت بطلب من المجلس الأعلى للتعليم أن التلاميذ الذين ينقطعون عن الدراسة بعد أربع سنوات يؤولون إلى الأمية … وتهم هذه الظاهرة بالأساس الوسط القروي مما يستنزف التقدم المحرز في تقليص الفوارق في نسب التمدرس بين الوسطين الحضري والقروي وبين الجنسين. وان تزايد نسبة الهدر المدرسي من رسوب وتسرب تعتبر من أهم النتائج السلبية للتمييز التربوي، فكثير من طفالنا يغادرون المدرسة دون مؤهلات كما هو الشأن بما يناهز 400000 تلميذ وتلميذة ينقطعون عن الدراسة، أكثر من نصفهم في سلك التعليم الابتدائي نتيجة للظروف السوسيو اقتصادية لأسر المتعلمين أساسا (التقرير السنوي للمجلس الأعلى للتعليم 2008). وتبقى ظاهرتي التسرب والتكرار التي تغذي صفوف المنقطعين عن الدراسة مصير قرابة كل تلميذ من أصل خمسة في السلك الابتدائي، وفي نفس التقرير السابق تم الإشارة إلى أن نسبة التكرار تبلغ ابتداء من السنة الأولى من التعليم الابتدائي 17 % وتتراوح هذه النسبة بين 13 % في السلك الابتدائي و17 % بالثانوي مع نسبة جد مرتفعة تفوق 30 % في السنة الثالثة من الإعدادي والسنة الثانية من الباكالوريا، ومن تم فان نسبة التلاميذ المسجلين بالمستويات التعليمية الملائمة لفئتهم العمرية مقارنة بالمسار الدراسي المرجعي لا تتعدى 50 % ومن أصل 100 تلميذ مسجل بالسنة الأولى ابتدائي 13فقط يحصلون على الباكالوريا، 3 منهم لم يكرروا في مسارهم الدراسي. وتتعدد العوامل المسببة في الهدر المدرسي التي يرتبط بعضها إما بعدم ملاءمة المدرسة لمحيطها – أو بمحدودية الإقبال عليها – أو بسبب الظروف السوسيو اقتصادية لأسر المتعلمين – أو بعد المدرسة أو اقتصارها على أسلاك معينة… مما يقلص من نسب النجاح مع تزايد وتيرة الرسوب والتكرار والانقطاع فضلا عن وضعية البنيات التحتية وكذا ارتفاع تكلفة التمدرس بالنسبة للفئات المعوزة. من الملاحظ أن التسرب يكثر بين الفئات الأكثر تعرضا للتمييز التربوي كالفقراء والإناث وسكان القرى …..وكثيرا ما لا يصل العديد من التلاميذ إلى نهاية تحصيلهم التعليمي في الابتدائي أو الإعدادي أو الثانوي أو ينقطعون عن مواصلة تعليمهم او يرسبون. ويضطر الكثير من التلاميذ الفقراء إلى التسرب من الدراسة بحثا عن العمل ويعاني معظمهم من ظروف صعبة حيث لا تتوافر في بيوتهم الظروف الصحية الملائمة والتغذية الكافية ويواجهون صعوبات بسبب الدخل الفردي الضئيل ومستوى المعيشة المنخفض وتبين الدراسات أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة تساهم في تدني التحصيل الدراسي وزيادة نسبة الرسوب. هكذا فإن أغلب الدراسات التي أجريت هنا وهناك، تبين أن المتسربين ينتمون إلى بيئات ذات مستويات اقتصادية واجتماعية متدنية، كما بينت نفس هذه الدراسات أن معدل التسرب في القرى يتجاوز الضعفين عن معدله في المدن، وهذا الارتفاع يدل على وجود تمييز تربوي يساهم في إضعاف الكفاية الداخلية للنظام التربوي القائم . التكوين المهني وإعادة إنتاج التمييز التربوي من الظواهر التعليمية المنتشرة في عدد من الدول العربية ومن بينها المغرب فكرة التمييز بين التلاميذ من ذوي المعدلات المرتفعة الذين تستقبلهم المؤسسات التعليمية العليا المرموقة والمصنفة في حين أن نسبة مهمة من أصحاب المعدلات المنخفضة يوجهون أو يتوجهون أو يتوزعون على مؤسسات التكوين المهني . وفي تقرير ختامي لأحد المؤتمرات العلمية عن مستقبل التعليم الفني والتكوين المهني تم استخلاص بعض سلبيات التكوين المهني والفني والتي من أهمها: التصاق الدونية بهذا النوع من التعليم عند كثير من طلابنا وتلامذتنا وأولياء أمورهم حتى إن أكثر المتحمسين لهذا النوع من التعليم ينادون به لأبناء الغير وليس لأبنائهم. تكريس التعليم المهني لأوضاع مهنية واجتماعية محدودة الأفق ، لأنه تعليم مغلق تقريبا لا يتاح إلا لعدد محدود من خريجيه فرص إكمال دراساتهم العليا. ارتفاع نسبة البطالة بين خريجي هذا النوع من التعليم. (مجلة دراسات تربوية 1994) وتشير احدى الدراسات الصادرة من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم إلى نوعية التلاميذ والطلاب المتوجهين إلى التكوين المهني لعدم توافقهم مع التعليم العام أو عدم قبولهم فيه، وذكرت بأن ذلك ينعكس على المستوى النوعي للتلاميذ بشكل عام وما يترتب عن ذلك من ضعف المستوى المهني للتلاميذ. وهذا لا يعني أن هذا التعليم المهني لم يجتذب إليه تلاميذ من مستوى عال ومتميز ولكنها حالات نادرة لا تغير الصورة الكلية. وقد حظيت قضية العزوف عن الالتحاق بالتكوين المهني بالعديد من البحوث والدراسات ووردت إحداها عن منظمة اليونيسكو في دراسات مقارنة عن التطورات في التكوين المهني جاء فيها أن العديد من المشكلات المتأصلة في هذا التعليم هي مشكلات مشتركة بين العديد من الدول وان اختلفت أنظمتها السياسية. وترجع هذه الدراسة ظاهرة العزوف عن الالتحاق بالتكوين المهني إلى أنظمة التعليم التقليدية ومواقف المربين والجمهور التي تنزل التعليم التقني والتكوين المهني والمهن التي يعد لها إلى مرتبة دنيا، ورغم الإصلاحات والتحسينات التي دخلت إلى هذا التعليم (فإن الآباء وأبناءهم يفضلون الدراسات الأكاديمية التي يمكن ان تؤدي إلى المهن ذات المرتبة العليا لان التعليم المهني طريق مسدود لا يقود لدراسة أعلى مما يقتل الطموح ومن هنا يصبح التكوين المهني تعليما من المرتبة الثانية للتلاميذ والطلاب الأقل قدرة اكثر منه خيارا عمليا لأكثرية الناشئة) اليونيسكو- التطورات في التعليم التقني والمهني – باريس 1985 إننا إذا أمعنا النظر في معدلات التلاميذ الذين لجأوا إلى التكوين المهني او حول الهدر في هذا التعليم بالرسوب والتسرب وتحليل أسبابه نرى أن الملاحظة المتكررة هي أن مواد اللغة الفرنسية والرياضيات والعلوم هي المواد التي تؤدي إلى ذلك، مع العلم أن هذه المواد هي نفسها المواد الأساسية في اي دراسة تكنولوجية أصيلة مما قد يشير إلى عدم ملاءمة مدخلات هذا التعليم لمتطلباته. فالتكوين المهني كما قال احد النقاد التربويين المتخصصين في هذا المجال هو أسير النظام التربوي (د . يوسف عبد المعطي): أسير ظروف نشأته أسير موقعه وسط نظم تعليمية جامدة لم تفسح لهذا التعليم والتكوين الفني والمهني مكانا فيها ليصبح جزءا من نسيجها الحي. أسير حجم ونوعية مدخلاته من الطلاب والتلاميذ، فالعزوف عنه لا يسمح له أن يجذب الجميع . أسير هياكله وبناه وطرائقه لغياب مؤسسات البحث العلمي الموازية له. أسير مناهجه وأجهزته ومعداته التي لا تواكب سوق العمل. انه أسير كل هذه الظروف حتى أصبح يعاني تمييزا تربويا بالمقارنة مع أنظمة تعليمية أخرى. مقترحات وحلول إن مشاريع الإصلاح التي تم تنفيذها وتصريفها على ارض الواقع منذ الميثاق الوطني للتربية والتكوين إلى الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015-2030، قد استخدمت مفاهيم ومصطلحات وتنظيمات تبتت نجاحها في مجالات الصناعة والخدمات وإدارة الأعمال كمفاهيم المردودية – الكفايات – الأهداف – التخطيط – البرمجة- الجودة – الجدوى – الجاذبية…. لكنها لم تجد نفس النجاح الذي لقيته في مجالها الطبيعي، وعليه يجب العدول عن الصيغة الصناعية التقنية في تطوير التعليم لأنه من الخطأ تصور النظام التعليمي على انه معادل لنظام المصانع الذي يتصف بوثاقة الصلة بين مكوناته. ان التربية ونعني بها التعليم والتكوين كأداء وعلم ترفده معارف نظرية وتطبيقية من علوم شتى، كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم التواصل والعلوم الطبيعية والحيوية ونحوها.. وتوظف هذه المعارف في التعامل الفعلي مع ممارسات تربوية كثيرة تشير اليها مصطلحات مثل التعليم – التعلم – التكوين – التأهيل – المناهج – البرامج – المقررات – الديداكتيك – التقويم – الامتحانات… وأي رهان لإنجاح اي مشروع إصلاح تربوي لابد ان يكون أولا رهانا سياسيا ومجتمعيا لتحقيق الإنصاف على المستوى المجالي والمجتمعي والتربوي (وعلى أساس النوع، والقضاء على التفاوتات بمختلف أنواعها وإقامة مجتمع إدماجي وتضامني) – الرؤية الاستراتيجية للإصلاح. وتحقيقا لمبدأي الإنصاف وتكافؤ الفرص لابد من محاربة ومقاومة كل مظاهر التمييز التربوي، وإذا كان من الصعب القضاء المبرم على هذه الظاهرة على المدى القصير فلابد على الأقل من التقليل من حدة الظاهرة وذلك من خلال: – متابعة تطبيق مبدأ تعميم التعليم وزيادة مدة التعليم الإلزامي. – اتخاذ الإجراءات الجادة والعملية وبدل مجهودات حثيثة من اجل القضاء على الأمية في صفوف النساء والكبار بمشاركة ومساهمة كل القطاعات الحكومية وغير الحكومية، وخاصة في العالم القروي. – زيادة فرص التلاميذ في النجاح والاستمرار في الدراسة. – تقوية جهود التنمية المستدامة من قبيل محاربة الفقر والهشاشة والمرض والأمية ووضع مخططات تنموية خاصة بالعالم القروي بجميع مستوياتها وأنواعها. – تحقيق المساواة الاقتصادية والاجتماعية وضمان المساواة والعدالة للجميع مع محاربة النظرة الدونية للمرأة. – مساهمة القطاع الخاص والجمعيات في دعم تعليم الفقراء والفتيات وأبناء القرى والبوادي وهوامش المدن. – زيادة مستوى الإنفاق على التعليم والاستمرار في مجانية التعليم والتكوين. – تقديم حوافز مادية ومعنوية للمدرسين في المناطق النائية لتشجيعهم على البقاء والاستقرار في تلك المناطق. إن على المدرسة أن لا تهادن الفقر وأن تتصدى لمحاربته وتضيق الخناق عليه (فالفقراء منسيون بوجه عام في السياسات التعليمية حيث نسبة كبيرة من الأطفال الذين ينتمون إلى أسر فقيرة يعانون الأمية، وهناك نسبة لا يستهان بها من أبناء الفقراء ما إن تلتحق بالمدرسة حتى ترسب أو تترسب، أما أولئك الذين تمكنوا من الاستمرار في مسارهم الدراسي بنجاح فهم لا يمثلون الأغلبية). إن التمييز التربوي، هو صورة عن تمييز اقتصادي واجتماعي، أثاره ضارة تنعكس سلباً على التربية. وفي المقابل، فالمجتمع الذي تنتشر فيه العدالة الاجتماعية والاقتصادية، غالبا ما يحرص على تكافؤ الفرص التربوية والتعليمية بين أفراده. * الدشيرة الجهادية