يواجه القائمون على تدبير المؤسسات التعليمية في جميع المستويات عند كل دخول مدرسي جديد، مجموعة من الأسئلة والإكراهات،الشيء الذي يفرض البحث عن القضايا ذات الأولوية والمشاكل المستعجلة، غير أن الدخول المدرسي الحالي 2021/2020 يكتسي طابعا استثنائيا يحمل كثيرا من التحديات الجديدة التي لم يسبق أن عرفها النظام التعليمي منذ عقود، لا على المستوى الدولي أو الإقليمي أو الوطني، غير أن خصوصيات كل مؤسسة تعليمية، بموقعها الجغرافي وبواقعها الاجتماعي وبإمكانياتها البشرية والتربوية، تجعل الأسئلة والمشاكل تختلف من مدرسة إلى أخرى . فما هي أهم التحديات التي تواجه النسق التربوي خلال هذه السنة، وكيف يمكن ترتيبها ؟ وما هي شروط ضمان حد أدنى لنجاح الدخول المدرسي؟ هناك عدة مشاكل تتطلب تعبئة جماعية وإعداد خطة عمل وتوفير الموارد المادية والبشرية اللازمة بالإضافة إلى تعبئة المجتمع الأسري والمدني لضمان فرص التعاون والتنسيق، غير أن هذه السنة تنضاف إليها آثار الجائحة التي فرضت على الجميع إعادة بناء التصور البيداغوجي والوسائل التعليمية الرقمية لمواجهة تحديات جديدة بالغة التأثير على نفسية التلاميذ والكبار وظروف تنظيم العمل بشكل عام . تقييم تجربة الدراسة خلال الموسم الدراسي الفارط خلال أزمة الجائحة تتشابه ظروف التعليم في سياق الجائحة مع ظروف التعليم في حالة الطوارئ حيث تتغير ظروف التدريس والحالة النفسية للمتعلمين والمدرسين على حد سواء، مما يخلق واقعا جديدا يتعين التعامل معه بمقاربة جديدة حيث فرض التعليم عن بعد استعمال التكنولوجيات الرقمية في بناء التعلّمات والحرص على إجراءات التباعد الجسدي للحفاظ على السلامة الصحية بشكل عام، غير أن لا أحد يمكن أن ينكر النتائج السلبية على المستوى الكيفي والكمي للمردودية الداخلية لكل مؤسسة على حدة وفق إمكانياتها الذاتية وخاصة على مستوى التعليم الأولي، الذي لا يزال في طريقه إلى التعميم والتعليم الابتدائي وإلى حد ما الإعدادي وبشكل متفاوت بالنسبة للثانوي والعالي، ويمكن تلخيص بعض الملاحظات التي أفرزتها تجربة التدريس عن بعد في ما يلي : أهمية دور المدرس ودرجة معارفه الرقمية والبيداغوجية في القدرة عن العمل عن بعد وتحقيق نتائج ملموسة. تفاقم الفجوة المعرفية ونتائج التعلّمات بين المدينة والعالم القروي مما عمق إشكالية الإنصاف وتكافؤ الفرص والمساواة التي كانت موجودة من قبل وزادت فجوتها أكثر . تراجع جودة التعليم في العديد من المستويات بسبب انعدام مخطط قبلي لمواجهة الطوارئ وتوقف التكوين بشكل كبير في المناطق النائية لعدم وجود الانترنيت. تأثير مستوى الفقر والأمية على الآباء في الانخراط في عملية تتبع وتأطير تعلّمات أطفالهم في المنازل مما يطرح إشكالية المصاحبة للعديد من التلاميذ ويعمق مشكلة الإنصاف . ضعف استعداد المتعلمين للتكوين الذاتي بسبب تراكم عادات التعليم بالتلقين والحفظ وانعدام الإمكانيات للتعلم وتراجع عادات القراءة . تحديد الأولويات: تعتبر حماية صحة المتعلمين والعاملين في المؤسسة من أولوية الأولويات بدونها لا يمكن للمؤسسة تحقيق أهدافها التعليمية والتربوية ، الشيء الذي يتطلب ويستلزم اتخاذ مجموعة من الإجراءات التنظيمية والمادية والوقائية لإعادة توزيع التلاميذ بشكل يتفادى الاكتظاظ والتقارب الجسدي، وقد كان قرار الوزارة تفويج التلاميذ قرارا صائبا وحكيما . يلي ذلك مشروع التشخيص التربوي الذي ورد في مقرر تنظيم السنة الدراسية، وهذا العمل يجب أن يحتل الحيز الأهم من الزمن الدراسي في الشهور الأولى حتى يتمكن كل مدرس من معرفة درجة المكتسبات المعرفية الناقصة والكفايات الضرورية للتعامل مع الوحدات الدراسية الجديدة بحكم ارتباط المفاهيم بعضها ببعض لاستكمال المنهاج الدراسي، وبدون شك، لا يمكن تحقيق أهداف المدرسة إلا باتخاذ قرار جريء بتقديم المواد ذات الأهمية القصوى، والتي لها ارتباطات مع باقي الحصص الدراسية كالرياضيات بالنسبة لشعبة العلوم على سبيل المثال واللغات في درجة ثانية، وذلك حسب خصوصيات كل شعبة دراسية أوسلك تعليمي، وهذا الاختيار لا يزال يتطلب المزيد من التفكير والتدقيق وأعتقد أن هذا التوجه يستدعي من الوزارة الوصية منح مزيد من الصلاحيات والمرونة للأكاديميات والمؤسسات حتى يتمكنوا من إنجاز مهامهم البيداغوجية في أحسن الظروف ووفق نتائج التشخيص الفردي. وفي إطار الحديث عن هذا الموضوع فلا بد من التذكير أن النموذج التربوي السائد في مؤسساتنا التعليمية لم يكن يولي الأهمية الكافية للتشخيص الفردي بسبب ظاهرة الاكتظاظ وعدم الاعتماد على البيداغوجية الفارقية بشكل عام، ومع التحولات التي فرضتها ظروف كورونا، خاصة مسألة التباعد الجسدي، فإنه يتعين على المدرسين استغلال الفرصة السانحة وسن سياسة جديدة لتدبير القسم بروح تعتني بكل تلميذ وتلميذة على حدة، باعتبار «أن كل تلميذ مهم»كمبدأ تربوي» جوهري ولا يمكن تجاوزه لإعطاء دلالة للشعار المدرسي الذي يدعو إلى تدعيم مدرسة مواطنة ودامجة ولا يمكن تحقيق ذلك بدون تغيير الممارسات التي تقصي العديد من التلاميذ بحكم عدم قدرتهم على استيعاب المنهاج الدراسي . وبناء على ما سبق يمكن تلخيص أولويات الدخول المدرسي الحالي في أربعة محاور ذات أولوية وهي: حماية صحة التلاميذ وموظفي المؤسسة، وهي فرصة ثمينة لتطوير التربية الصحية والبيئية. الاستجابة لحاجات التعلم les besoins d'apprentissage لدى التلاميذ والعمل على تقليص الفوارق التربوية بينهم. العمل على إدماج جميع الفئات الهشة والتلاميذ الذين يحتاجون إلى عناية خاصة . متابعة تنفيذ التربية على المواطنة وحقوق الإنسان لتطوير حس المسؤولية المشتركة والتضامن، وذلك لخلق أجواء متجددة تمنح مساحة أكبر لمشاركة التلاميذ للتعبير عن اهتماماتهم في الحياة المدرسية . ملاحظات لابد منها : يقدم لنا تقرير البنك الدولي للتنمية لسنة 2018 (تحت عنوان: التعلّم لتحقيق الدور المنتظر من التربية)، والذي خصص للتربية بشكل كامل، ملاحظات جوهرية حول كثير من المغالطات الشائعة ومعطيات صادمة حول واقع التعلم في العالم ليخلص إلى عرض مجموعة من الاقتراحات والتوجيهات لتصحيح الاختلالات التي عطلت تحقيق نتائج التعليم للجميع في كثير من الدول التي لم تجعل من التعلّم الهدف الأسمى في سياستها التعليمية . إن الالتحاق بالمدرسة لا يعني التعلّم علما أنه في السابق تم تضخيم الحديث عن نسب التمدرس دون التركيز عن حقيقة التعلّم . الالتحاق بالمدرسة دون تعلّم لا يمثل فرصة ضائعة فحسب، بل يشكل أيضا ظلما عظيما . لا شيء حتمي حول تدني مستوى التعلّم في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، ولتوضيح أسباب المشكلة يقدم التقرير الأبعاد الثلاثة لأزمة التعلّم: البعد الأول هو ضعف مخرجات التعلم: كشفت التقويمات الدولية عن الفرق الشاسع في نتائج التعلّمات بين الدول وبين الطبقات الفقيرة والغنية، وتكشف الأرقام حقائق صادمة يمكن الرجوع إليها في التقرير، وعلى سبيل المثال نجد أن 25 في المائة من الأطفال في المستوى الثاني ابتدائي عاجزون عن إنجاز تمارين بسيطة في القراءة والرياضيات (صفحة 25 ) . البعد الثاني هي الأسباب المباشرة (أطفال يصلون إلى المدرسة غير مهيئين للتعلّم (سوء التغذية، المرض، انخفاض انخراط الآباء في مساعدة أطفالهم يؤدي إلى تقويض عملية التعلّم).افتقار المعلمين إلى المهارات والدافع إلى التدريس. عدم الاستفادة من الكتب والوسائل المتوفرة من أدوات تكنولوجية ورقمية، سوء الإدارة والحكامة وضعف الاستقلالية وضعف المشاركة المجتمعية . البعد الثالث هو الأسباب الداخلية للنظام منها ما هو فني ومنها ما هو سياسي، حيث انعدام التوافق الداخلي بين الأطراف الرئيسية وتضارب المصالح والأطراف الفاعلة، التي لديها مصالح تختلف عن الاهتمام بالتعلّم، وهي تتقاطع بين المنافع المادية والحفاظ على المناصب وإرضاء أطراف دون أخرى وتعارض الاهتمامات والمصالح مع أهداف التعلّم، إلى غير ذلك من قضايا تجعل التعلّم في آخر سلم الاهتمامات، كل هذه الأبعاد تؤدي في آخر المطاف إلى وضع لا يحقق التعلّم للجميع والمثال السابق يكشف أن ثغرات التعلم تأخذ مكانها منذ بداية المشوار التعليمي . ثلاثة تدابير تتعلق بالسياسات للتصدي لهذه الأزمة حسب توصيات البنك الدولي : لتحسين عملية التعلم يجب على الدولة أن تقوم بتقييم مستوى التعلّم لجعله هدفا مهما وأساسيا في التدبير التربوي والإداري، والعمل بناء على نتائج التشخيص لجعل المدارس تعمل لصالح المتعلمين، والتنسيق والتكامل بين الأطراف الفاعلة لجعل النظام يعمل لخدمة التعلّم والتلاميذ بالدرجة الأولى. التدبير الأول: تقييم مستوى التعلم وجعله هدفا مهما هناك أوجه الشبه بين عمل الطبيب ومهمة المعلم، ذلك أن الطبيب عندما يحيدعن التشخيص الدقيق والشمولي يفقد الوصفة الطبية التي تؤدي الى العلاج، وهذا هو المشكل الكبير الذي تعاني منه مدرستنا المغربية كباقي كثير من مدارس دول الجنوب، لأن عملية التقييم هي في حد ذاتها مشروع ليس بالهين ويرتبط ارتباطا وثيقا بالأهداف المنتظرة من المدرسة لتأهيل المتعلمين وتمكينهم من الخروج من دائرة الفقر وامتلاك الكفايات للاندماج في المجتمع والمشاركة فيه بفعالية وإيجابية، ناهيك عن البعد الكوني في تطوير القيم الكونية والإنسانية. ويؤكد التقرير أن البلدان تحتاج إلى تطبيق مجموعة من تقييمات الطلاب المصممة جيدا لمساعدة المعلمين في توجيه الطلاب، وتحسين إدارة النظام وتركيز اهتمام المجتمع على التعلم . التدبير الثاني: جعل المدارس تعمل لصالح المتعلمين بالاعتماد على الأدلة المدارس الممتازة هي التي تبني علاقات قوية بين التدريس والتعلم أي بين جميع الفرقاء، ويوصي البنك الدولي بالعمل على تطوير المجالات الآتية : تهيئة المتعلمين(مساندة الأطفال المحرومين من خلال المنح لاستمرارهم في الدراسة ) تزويد المعلمين بالمهارات والحوافز: تدريب المعلمين المتكرر وخاصة في استعمال التكنولوجيات الرقمية وحل المشكلات. تركيز الإدارة على التدريس والتعلم . التدبير الثالث: التوفيق بين الأطراف الفاعلة لجعل النظام بأكمله يعمل لخدمة عملية التعلم. إذا لم تتظافر جهود جميع الفاعلين في إنجاح عملية التعلم، سواء على المستوى الإجرائي أو السياسي، فلن تتحقق أي نتائج، فحين تركز الأطراف الفاعلة على أهداف غير التعلم مثل المكاسب السياسية أو النقابية أو الشخصية أو تفتقر للقدرة على التنفيذ فلن يكون هناك نجاح لأي مشروع جديد، وذلك ما عايشناه مع تجربة الميثاق الوطني وبعده البرنامج الاستعجالي بسبب اختلالات متعددة. ومن ثم فإن «حشد جميع الأطراف الذين لهم مصلحة في عملية التعلم معا عنصر بالغ الأهمية في إنجاح النظام برمته». ويقدم التقرير مجموعة من التجارب الناجحة في العديد من الدول مثل الهند وماليزيا والشيلي وغيرها من الدول التي تعاملت بجدية كبيرة وبنفس طويل للوصول إلى تحقيق النتائج النوعية اعتمادا على ثلاثه مستويات : -نشر المعلومات والمؤشرات لإضفاء أهمية سياسية على عملية التعلم. -بناء تحالفات لتوجيه الحوافز السياسية نحو تعميم التعلم. -استخدام مناهج مبتكرة ومعدلة للكشف عن المناهج التي هي أكثر فعالية. ويدعو تقرير البنك الدولي إلى ضخ مزيد من الاستثمارات في مجال التعليم ، لاسيما رفع عدد التلاميذ لإتمام دراستهم في المرحلتين الابتدائية والثانوية والانتقال إلى التعليم العالي مع العمل على الانفاق بصورة رشيدة وأكثر فعالية ومحاربة الفساد بمختلف أشكاله . إن تقديم تعليم بشكل جيد يؤدي إلى علاج مجموعة من العلل المجتمعية: فهو يعزز فرص العمل ومستويات الدخل والصحة والحد من الفقر وتمكين المواطنين من التكيف مع الفرص الجديدة كما أنه يقوم بدفع عجلة النمو الاقتصادي على المدى البعيد وتدعيم الابتكار وتدعيم المؤسسات وتعزيز التماسك الاجتماعي، وبذلك لن يكون هناك حل لمختلف المعضلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بدون تعلم جيد للجميع . مقاربة وزارة التربية الوطنية للدخول المدرسي الجديد: المرونة هي الحل إن الفكرة الشائعة عند الألمان في الظروف الحالية للجائحة هي «عند كل أزمة تكون هناك فرص جديدة»، وبهذه الروح الإيجابية يتعين علينا مواجهة الجائحة للبحث عن مقاربات جديدة والسير قدما لضمان تحقيق التعلمات المفقودة . فهل حان الوقت لكي تعيد وزارة التربية الوطنية بناء ذاتها ونسقها التربوي ؟ لم يشهد أي دخول مدرسي سابق تعثرا مثلما هو هذه السنة، نظرا لعدم توافق الفاعلين على التوجه الذي يتعين اختياره، فبين التدريس الحضوري والتدريس عن بعد، ضاع الاختيار وتنامت أصوات الاحتجاجات والرفض لبعض الإجراءات في صفوف كثير من الفاعلين : مدبرين، مدرسين، تلاميذ، آباء، وبين بلاغ وبلاغ يصدر بلاغ توضيحي لكن دون استقرار المناخ العام، في حين تكشف لنا وسائل الإعلام عن انطلاق الدراسة في كثير من الدول حضوريا وباعتماد إجراءات صحية في غاية الصرامة، بل أكثر من ذلك أصبحت الجائحة فرصة جديدة لاختيار منهاج تربوي عملي يعطي للمشاركة والتربية الصحية دلالة ميدانية رائعة في الممارسة ورفع تحدي مواجهة الجهل والرغبة في الارتقاء بالتعلمات وجودتها . إن أهم عائق في تطور منهاجنا التعليمي، وهو صلابة البنيات الإدارية وتراكم سنين من التقليد مما أبان عن بعض مظاهر الشيخوخة لدى النسق التربوي، الذي عجز عن الدخول في نادي الدول الصاعدة، بل حتى جامعاتنا فقدت مكانتها في التصنيف العالمي، مما يستدعي إعادة النظر في الاختيارات قبل فوات الأوان. أما بالنسبة للدخول المدرسي فلن يكون هناك حل دون اعتماد مرونة في البرنامج الدراسي والاقتصار على تدريس المواد الأساسية كالرياضيات واللغات حضوريا وتدريس المواد الثانوية عن بعد، وهذا التوجه سيجعل مدارسنا تنفك من قيد ثقل أنهك عقول التلاميذ خلال عقود بدون فائدة ملموسة على الأرض، فالمرونة هي الحل لأي استراتيجية لإعادة فتح المدارس بحذر والاستعداد لإغلاقها مرة أخرى عند تجدد تفشي الفيروس، وهذا ليس بالأمر السهل في نظام غارق في التقاليد . فهل في مقدور الفاعلين الرئيسيين الاتفاق على إعمال مبدأ «جميعا من أجل التعلم « لصياغة «عقد جديد للمدرسة» لإنجاح السنة الدراسية رغم كل التحديات ؟