في صدى الألوان أو الصمت الذي يتكلم! بين الحينِ والآخر، يستضيفني محمد الفرسيوي في بيته – أو كما يسميه هو «الجحر» – أجدُه هادئاً، بسيطاً في محتوياته… أفرشة مُرتبة بعنايةٍ .. مكتبة فوق السرير.. كتب ومحبقات هنا وهناك.. جهاز تلفاز يربطه بالعالم الخارجي (…) ولوحات تشكيلية تؤثثُ الفضاء، حيثُ تصيرُ الألوانُ الرهانَ الذي يلتقي فيه الفرسيوي/ الفنان بوجوده… منذ حوالي عام، قرأَ علي محمد الفرسيوي إحدى فصول روايته (رحيلٌ في عِشْقِيَاتٍ صامتة)، التي كان قد شرع في كتابتها.. أجدُه اليومَ يقومُ بلمساتٍ فنية -أو كما يسميها خَربشات- على قطع القماش، كأنه يجمدُ من خلالها لحظات الوجود، ويترجمُ أجساد أنثوية تجريدية، حيث حضور المرأة يصيرُ ضرباً من الإغراء والغياب والتجريد العميق.. هذه المرأة التي تدير ظهرها له، وربما للواقع كله، في كافةِ أعماله الأولى، تجسدُ واقعية استعارات الألوان في جمالية بسيطة، أفقاً وعمقاً. بعبارات قليلة، أستطيعُ القولَ أن محمد الفرسيوي يرسمُ جمال المرأة بإيقاعِ الغيابِ والجمالِ والألوان، ويوضبُ هذا كله على طريقِ استعادةِ الموروث الجمالي واسترجاع أناقة الأنثى في الذاكرة؛ ذاكرة «المنديل» و»الفران» و»الشاشية» الجبلية رومانسية الطبيعة .. جبال الريف وسفوحها المترعة بالسواقي والشجر.. المحفوفة بظلال الأشجار .. وبالبساطة والأُلفة وأسرارِ الوادي… هذا الحضور الإشكالي والجمالي للأنثى في أعمال محمد الفرسيوي، يصيرُ بحثاً عن أفقٍ ما، بحثاً عن فعلٍ يُحرر، عن صمتٍ يتكلم، وعن الغوايةِ في مجازِ اللون واستعارات الأشكال.. يبدو هذا الحضور ساطعاً في كل الأعمالِ واللوحاتِ التي تُديرُ فيها المرأة ظهرَها للعالم، وربما له أيضاً!.. لذلك تصبحُ اللوحةُ أحياناً في هذه التجربة بياناً فنياً تشكيلياً، حيثُ يبلغُ التعبير الجمالي أوْجَه في لوحة «أنثى من فلسطين»، مثلاً. في أولِ صيف 2019 .. فاجأني الكاتب والفنان محمد الفرسيوي بأعمال ولوحات نُشرتْ على صفحته الافتراضية، تحضرُ فيها المرأة أو الأنثى كما يسميها وقد استدارتْ له وإلى هذا العالم بوجهها الفَتي البريء وبنظراتها الحادة البعيدة العميقة الغامضة، وذلك فيما يشبه الاستدارة الكلية أو الحضور الجمالي الوازن.. وكأن هذه الأنثى تعودُ من رحلةِ تأملٍ طويلة أو من بطن الغياب السحيق..! عموماً، يسكن محمد الفرسيوي لوحاته بقدر ما تسكنه… ولِمَ لا؟ وقد صارت الخرقة البيضاء وغواية الألوان بمثابة نافذة الروح التي يطل منها على الوجود برمته..!؟ هذا الأمرُ يجعلني أتساءل؛ لماذا يلجأُ الفنان الرسام إلى خلقِ توتر في العلاقة بين الألوانِ وبين الأشياء والموجوداتِ!!؟ هذا السؤال يُطرحُ على تجربة محمد الفرسيوي، وهو العائد إلى التعبير بالريشة والألوان بعد انقطاعٍ عَمرَ طويلاً، منذ زمن الطفولة ومراحل الدراسة المتعاقبة.. وذلك لأن تركيبةَ الألوان التي تطبع لوحاته تتأرجح بين الأصفر والأزرق والأحمر والأخضر تسعى إلى رسمِ الجسد الأنثوي ككينونةً تكسوها هذه الألوان، كما لو كانتْ أزياء شفافة تثوي وراءها تفاصيل الجسد في سياقِ لعبةِ الجمال والإغواء، من بهاءِ الألوان وحدةِ النظرات، ومن تركيبةِ الطبيعة والحياة والرغبةِ في التحررِ والإنعتاق .. إلى جدلية المعيش والتراث، الحزن والألم، والغياب والحضور… كثيراً ما كنتُ أظن- وأنا رفقته في بيته الفني- أن محمد الفرسيوي قد غادر اللوحة لأنها صارت منتهية، لكنه سرعان ما يعود إليها من جديد حين تتواردُ عليه أحاسيس جديدة في رؤيته الفنية والجمالية. ففي أعماله الأخيرة مثلما ذكرتُ، ينتقل إلى الكشف عن الوجه المباشر للمرأة الأنثى، بتفاصيل الهالة الحزينة الصامتة، واضعاً تحريفات أخرى خلف الوجه باللون الرمادي، من خلال استغلالِ فضاء اللوحة ومساحة الرؤية.. وهذا يجعلني أخلصُ إلى أن المبدع والفنان محمد الفرسيوي يأخذُ موضوعاته من التجربة الحسية، من الذاكرة الطازجة، ومن خيالٍ جامحٍ تغمره بساطة الحياة وجمال الأمكنة والأزياء، وكأنما يضفي عليها معنى الوجود والوحدة والصمت والأحلام التي تنتظر، فتبدو هذه الأجسادُ كما لو كانتْ قادمة إلى هذا العالم من عالمٍ آخر، مُثقلةً بالأسئلة، مُترعةً بالتوترِ والأحلامِ تُحرضُ على الجمالِ والبهاء… أمام الفنان محمد الفرسيوي أفقاً واعداً للخلقِ والإبداع… وعمراً طويلاً تؤثثه الألوان، تلك اللوحة التي يبحثُ عنها، وذاك المعرض الذي يحلم به… وسيبقى الفن دوماً «هو الإحساس وقد ضاعفه الوعي» كما قال فيرناندو بيسوا … كما «إن سعادتنا في هذه الحياة، لا تعتمد على غيرنا، بل على مدى قدرتنا على إيقاظها في دواخلنا»، كما يُحاولُ ذلك محمد الفرسيوي بالقلمِ والريشةِ والألوان رُبمَا… ومثلما ذهب إلى ذلك رائد علم النفس سيغموند فرويد، بكل تأكيد… لكن الذي أثارني في هذا الكهف هما لوحتين للفنانين الأخوين خالد ويوسف شقور : اللوحة الأولى : وتضم فتاة مراهقة في عمر الزهور في وضع شبه عار .. وجسد فتي، بنظرة محفوفة بالخجل .. تضع رداءاً جبليا على كتفها الأيسر .. وتمسك قبعة (شاشية) تغطي تضاريس حساسة من جسدها فهناك دقة متناهية في رسم النهدين النافرين بإبراز الحلمة .. معتمدا الظل في تحديد الانحناءات .. إنه من الصعب تجاهل الجمالية الفنية لهذه اللوحة .. بغض النظر عن ما يمكن أن تثيره من فزع وصدمة لحراس الأخلاق العامة في المجتمع .. كما في لوحة «أصل العالم» لغوستاف كوربيه بمتحف اللوفر. اللوحة الثانية : يوسف شقور يرسم منظر طبيعي بمنطقة الأطلس الكبير (أغبالو بأوريكا) .. على ربوة يبدو الفنان محمد الفرسيوي جالسا يطل على النهر المنساب إلى الأسفل بجانبه طاولة وهو مستغرق في انتشاءة .. الظهيرة زمن اللوحة .. فنان يرسم فنانا فيخضع للعبة الضوء والماء .. تأخذ الألوان المساحة التي خلقت من أجلها .. تصبح مهتاجة .. تنشر ظلالها الملونة .. تجتذب العين .. فتضفي البهجة عليها .. لأن مشهد الألوان في اللوحة تحت ضوء خافت ليس هو نفسه تحت أشعة ساطعة.. تفاعل الضوء والألوان في هذا العمل التشكيلي يذكرني بلوحة « انطباع شروق الشمس « 1879 .. إنها تدهشني حقا .. فهي تشيد كينونة أخرى نابعة من الإحساس بالجمال .. تقتات على عذرية الطبيعة .. أكثر من ذلك عمل الفنان يوسف شقور على تشتيت اللون الأخضر الممزوج بالأصفر في فضاء اللوحة .. كي يحصل في النهاية على لون متناغم مشتعل يفوق اشتعال الأشياء في الهواء الطلق .. وهذا مبعث تساؤل .. لماذا يلجأ الفنان إلى خلق توثر في العلاقة بين الألوان والأشياء ؟ ونظري يتيه في عمق الكهف .. تستوقفني لوحة الفنان الموهوب امبارك باليلي .. بتفاصيل المواضيع التي يتناولها .. جسد امرأة في الثلاثينيات ملقى على امتداد اللوحة .. ضريح مهول لمزار « ولي صالح « وقنينة نبيذ فارغة ملقاة على فمها .. وفقيه بجلباب مغربي أبيض .. ودخان وجمر ملتهب .. وفي عمق اللوحة .. سماء بنجوم ساطعة .. يبدو القمر مكتملا يرسل نوره وينشره في باقي فضاء اللوحة .. رغما عن العتمة المتصاعدة من الأسفل . لأول مرة أتجرأ لاقتراح عنوان لهذه اللوحة .. « الزمن الحزين في ليلة مقمرة «. حيث دأب باليلي الفنان الموهوب بالفطرة على وصف كل أعماله الإبداعية « بالزواقة « بدلالتها المتافيزيقية.