هكذا تفاعلتْ الأستاذةُ والفنانةُ التشكيليةُ فوزية جعايدي مع اللوحة التي يظهرُ فيها الفنان إدريس فايز على الصورة المُصاحبةِ لهذا المقالة، فتقول؛ ” يَشُدني في هذه اللوحةِ، نَبْضُ الأملِ وكأنه البحرُ في أَوْجِ ظلماتِ الليل، وقَدِ اِتخذَ لوناً أُرْجوانياً، وهو يرسو على الشاطئ، والوسطُ بُنيٌ كلهيبِ العشقِ العميقِ… نَبْضُ الأملِ كاللمعانِ هو الأصفرُ له حركة نَبْضِ القلبِ ووَمْضِ الحياة المستمرة…”. وفي أعمالٍ أخرى مما اطلعتُ عليها، ومما يسمحُ لي به حَيزُ المقالةِ أو “فَصْل المقال”، تتبدى الأُنثى أو ملامحُ الإنسانِ عموماً أو ما يدل عليهما في نَثْرِ الحياةِ المعاصرة وحضارةِ التسليعِ السائدة، مُثقلةً ومُثقلاً، ب”ثُنائيةِ الألم والأمل” كأنهما أحياناً الشعور بالذنبِ أو العجزِ أو الدهشةِ الغامضة، وفي أحيان كثيرة كأنهما الرغبةً الجامحةُ في الانطلاقِ والتحررِ للقبضِ على جمرةِ الأمل وإكسيرِ الحب والحياة بين الذراعيْن أو في مَكْمَنِ الصدرِ ودِفْءِ الكينونة… وفي غمرةِ بَهاءِ الألوان وطقسِ هذا البهاءِ المُلون، مِنْ “ألوان الخريف” المُتمازجةِ مع ألوانِ ربيعٍ مقبل أو “خريفية الألوان” المسكونةِ بالربيع المُلونِ والكامن، إلى الرمادي والألوانِ المُتكلمةِ صمتاً وهدوءً يتحرك، ينحتُ إدريس بايز عناوينَ واعدةً لتجربته الفنية والإبداعية، ويواصلُ العطاءَ والحلمَ بحياةٍ تُزَينها الألوانُ تجريداً، وتَلْبَسُها الآمالُ مِنَ التشكيلِ إلى المُشَكلِ جمالاً… هذا هو إدريس، فنانٌ كل النهارِ في عمله والحياةِ اليومية… وفنانٌ في بعضِ الليلِ صحبةَ الألوانِ وأمامَ صمتِ الخرقةِ الخرساء. إدريس بايز ذو الأصولِ الممتدةِ إلى أعماقِ تضاريسِ الأطلسِ المغربي، والوجودِ الراسخِ في فضاءاتِ عاصمةِ المملكة وذاكرتها، حين يأخذه سحرُ التشكيلِ وطقوسه الخلاقة للأملِ وللجمالِ والتعبيرِ بهما ألواناً وحركاتٍ مُبدعة، إنما يربطُ الليلَ بالنهارِ ليصرَ حركةَ يومٍ مُكتمل، يَصِلُ جغرافيةَ الأصلِ وشموخَ الجبالِ وبساطةَ الناسِ بيومياتٍ مدينةٍ تتمددُ على البحرِ وفي حياةٍ مُثقلِةٍ برتابةِ الإدارةِ والعملِ والزحامِ والعلاقاتِ الاجتماعية المُتشابكةِ وعبق المدينة القديمة… وبين الجغرافيتيْن والزمنيْن، بل بين العالميْن وتشكيليةِ هذا الانتماءِ الثري، يَصِلُ إدريس النهارَ بالليلِ مُبدعاً وإبداعاً، مِنْ عمله كإطارٍ بالقرض الفلاحي بالرباط، إلى مرسمه البسيطِ الأنيقِ، حيثُ التجريدُ وحده يُكسرُ رتابةَ اليومي، الأشكالَ الجاهزةَ والصورَ النمطيةَ أيضاً. مِنْ فن المعمارِ أو العمارةِ أو العُمرانِ عموماً، حيثُ الخطوطُ والأجسامُ والقياساتُ الدقيقةُ وهندسةُ الفضاءات العامة وغيرها، إلى فن التعبيرِ الجمالي تجريداً، بالألوانِ والانحناءاتِ والضياءِ والوجوهِ الثاويةِ وراءَ عوالمَ آسرة. ولعلني أقول؛ إن الفنان إدريس بايز جاء للعمرانِ وهندسته وإلى هذا التخصصِ العلمي العريقِ في ثقافتنا وتجربتنا المغربيةِ الغنيةِ في هذا المجال، مِنْ ذاكرةِ تَعَلقٍ مُبَكرٍ بفن الرسمِ والتشكيلِ وسحرِ الألوان وثقافةِ البصرِ أو العينِ الإنسانيةِ الذواقةِ للجمالِ والمسكونةِ بدهشةِ الأشياءِ والوجودِ والعالم. لذلك، ولعله اًيضاً من أجلِ أنْ يتواصلَ الضياءُ الطبيعي ساطعاً ولامعاً في الوجودِ الجمعي للمبدعِ قبل كينونةِ ووجوده الفردي… تلتقطُ العينُ هذه الموقف الجمالي، ومعها حركةَ الضياء المُشكلِ من حبكةِ الألوان على اللوحات، كتوليفاتٍ فنيةٍ بصريةٍ كثيراً ما تُعطي الانطباعَ بما قد يُضاهي التجريدِ الواقعي، إنْ جازَ هذا التعبير. في لوحاتِ إدريس فايز التي تنتظرُ العرضَ قريباً، حوالي 30 لوحة، تلتقطُ العينُ ألواناً أصليةً وأخرى مُشَكلَةً أو تكميليةً تعانقتْ، لمساتٍ تُعانقُ كمياءَ العتمةِ والضياء، خطوطاً ونقطاً باحثةً عن الانسجامِ والتناغمِ والجمال، وفراغاتٍ تتكلمُ أو تُصِر على البوحِ والتعبيرِ. يقولُ إدريس عن تجربته مع الألوانِ وتشكيلها عملاً فنياً: “لم أُفكرْ يوماً في عرضِ أعمالي على الناسِ أو الجمهورِ المهتم بفن التشكيل، لأني كنتُ أرسمُ أو أشكلُ لنفسي، أهربُ من رتابةِ الحياةِ ومن الهندسةِ المعماريةِ كل يومٍ، لأشكلَ عوالمي وذاتي كل مرةٍ وفي اللوحةِ تحديداً، لأعبر بالفن عما يُلْقي بي في طقسٍ آخرَ، يَنْفَلِتُ من كل هذه الإكراهاتِ والالتزاماتِ التي لا بد منها… وببساطةٍ أرتمي في أحضانِ الألوان لأتشكلَ من جديد ولأكونَ أنا… أصدقائي مَنْ حَرضَني ويُحَرضُني على عرضِ تجربتي، لذلك سأعرضُ قريباً، والكلمةُ، كل الكلمةِ، تبقى للنقادِ والمهتمين والمُتتبعين وكل الناس… وأتمنى أنْ تكون تجربتي مجرد إضافةٍ بسيطةٍ ونقطةً صغيرةً في بحرِ التراكمِ التشكيلي المغربي والإنساني”. يُقال: “كل طفلٍ فنان، المشكلةُ هي كيف تظل فناناً عندما تكبر” !؟… ويُنسبُ لآينشتاين قوله: “أجملُ إحساسٍ هو الغموض، إنه مصدرُ الفن والعلوم”… أما فان غوخ فكان قد قال: “ليس على الفنان أن يرسم ما يراه، بل ما سوف يُرى…” لا شك أن إدريس فايز في تجربته هذه، أو على الأقل في هذه اللوحاتِ التي يستعد لعرضها قريباً، قد نجحَ في أنْ يرعى الطفل/ الفنان في داخله وأعماقه، وفي أنْ يتجاوزَ المشكلةَ التي هي كيف يظل الإنسان فناناً عندما يكبر… ومن المؤكد أيضاً، أنه يرسمُ ما سوف يُرَى، لا ما يراه في الواقعِ المادي والحياةِ المكررة في المعيش اليومي، بحثاً عن سر سحرِ الألوان وكمياءِ الأملِ والحياةِ في الوجود، في إحساسٍ مُرْهَفٍ بجماليةِ الإبداعِ السالكِ إلى تشكيلِ “متعة الغموض” ألواناً وأشكالاً متناغمة، وإلى تَوْليدِ “دهشة العين” حين تصيرُ اللوحةُ بُؤرةً للخلقِ والجمال. وإن لهذه التجربةِ ما بعدها… تشكيلياتُ إدريس بايز قريباً… بقلم // محمد الفرسيوي