جان دوست أديب متعدد الفنون، روائي وقاص وشاعر وباحث ومترجم ومذيع ومحرر للأخبار؛ كتب باللغة العربية والكردية. كردي سوري وُلد في (كوباني) في الحدود السورية- التركية 1965، هاجر إلى ألمانيا ويحمل جنسيتها في مقاطعة شمال الراين.نال جائزته الأدبية الأولى عن قصة (حلم محترق) الكردية في سوريا عام 1993 التي عُرضت كمسرحية في تركيا. وعُرضت قصته الكردية (حفنة تراب) عن الاغتراب الجغرافي كفيلم سينمائي. وبجانب حصاده لكثير من الجوائز الأدبية ونيل منجزاته الأدبية والبحثية للتقدير؛ فقد اهتم بشكل خاص بثقافته الكردية سواء في الكتابة الأدبية بلغته الأم، أو بالترجمة من اللغة الكردية إلى اللغة العربية مُعبِّرَاً عن أبناء جلدته، وحاملاً لقضاياهم على عاتقه، وفي سنِّ قلمه. والمقدمة إذ تضيق أمام الترجمة لسيرة أديب قدير بحجم جان دوست؛ فإزجاء الأسئلة قد يكون كفيلاً بطرح بعض جوانبها المشرقة. فإلى حوارنا.. ما هو سر اهتمامك بالكتابة باللغة الكردية بالنظر إلى أن التلقِّي عبرها محدود قياساً باللغة العربية، هل هو مبدأ تحمله وترى في تحقيقه ثماراً ما. جان دوست: أردد دائماً أنني أود الانتصار لهذه اللغة المظلومة. رأيت كيف يقمعها الآخرون ذوو النزعات القومية المتطرفة من حكام المنطقة تركاً وعرباً وفرساً. حوربت اللغة الكردية كإحدى قلاع الهوية الكردية بشتى الوسائل. منعت، حظرت في كل مكان حتى صار الكردي يخاف التكلم بها ويلجأ إلى الصمت. في تركيا أصبح الكردي يخجل من لغته بسبب الإهانات المستمرة التي كان يلقاها من القومية الحاكمة بحق لغته. صور له الإعلام والتربية الشينة أن لغته لغة متوحشة، لا يمكن كتابة شيء بها، وأنها عبارة عن لغة مركبة من عدة لغات وأن مفرداتها لا تتعدى مئتي مفردة. إلى آخر هذه الأسطوانة الفاشية التي كان الغرض من بثها تنفير الكردي من لغته وقد نجحت الدعاية التركية نجاحاً كبيراً على مدى سبعين عاماً من الحرب الشرسة ضد اللغة الكردية. بالرغم من كل شيء فقد أحببت هذه اللغة وتنشقت عبيرها منذ لحظة ولادتي ولم يكن أمامي سوى الكتابة بها رداً لجميل أبي وأمي اللذين أورثاني هذا الكنز. لا أكتب بها تعصباً. فلو كنت شركسياً لكتبت بالشركسية مثلاً. بل هي هبة ربانية، ميراث يعبق بشذى أبي وأمي ومحاوراتهما. إنها شعلة جميلة حملتها وما زلت أحملها في كفي ولا آبه إن أحرقتني أم لا، يهمني ضوؤها قبل كل شيء. ورثتها من أبويَّ وسأورثها بناتي من بعدي. نشرت رواية (كوباني.. الفاجعة والربع) باللغة الكردية في تركيا 2017، ثم ترجمتها إلى اللغة العربية ونشرتها في 2017. الرواية عن مدينتك الشمالية، مسقط رأسك، على وقع داعش نوستاليجيا المؤلف، حدِّثنا عن هذا المخاض الملحمي. جان دوست: كل مرة أتحدث فيها عن روايتي أشعر بغصة في الحلق. أكاد أبكي. أتذكر الأيام القاسية التي قضيتها في كتابة الرواية وقبل ذلك في جمع المادة الروائية من شهادات الناس عن النزوح والحرب ثم المجزرة الرهيبة. كانت كوباني حلماً جميلاً، عزاءً لي في هذه الغربة التي امتدت عمراً. لكن الحلم تبخر على وقع الحرب. لم يبق شيء من تلك الأماكن الحميمة التي كنت أحن إليها وأعزي نفسي بالعودة إليها حتى ولو في أرذل العمر. رأيت بعيني كيف أن حلمي ينهار، وعالمي الجميل يتبدد على وقع القذائف الهائلة التي كانت تدمر بيوتاً وحارات بأكملها في لحظة واحدة. حين كنت أشاهد في الشاشات القذائف تسقط، كنت أعرف بدقة أين تسقط.. رأيت التفجير الذي طال حارتي المسالمة الجميلة، عش ذكرياتي ومسقط قلبي، عرفت أن بيتي وبيوت أهلي تدمرت. كنت أقف عاجزاً أنظر إلى كل ذلك مثل من ينظر إلى طفله يُذبح أمام عينيه وهو يرسف في القيود. لذلك كتبت الرواية، حاولت أن أنفخ الروح في المدينة التي دمروها، حاولت أن أعيد ترميم كل جدار انهار وكل بيت تصدعت حيطانه. عالجت نفسي المدمرة بالكتابة. شعرت مع كل جملة وكل سطر أكتبه أنني أضع حملاً أحمله على ظهري حتى تخففت. كتابة رواية كوباني أنقذتني من الجنون أو الانتحار. ترجمت كتاب ملا محمود بايزيدي (رسالة في عادات الأكراد وتقاليدهم) من اللغة الكردية إلى اللغة العربية. وذكرت في المقدمة أن القرن التاسع عشر هو قرن (الكردولوجيا) نسبة إلى غزارة الأبحاث والدراسات التي تناولت الآداب واللغة والتاريخ الكردي، بفعل المستشرقين الروس والمبشرين الطليان. نطلب بقعة ضوء منك على ثقافة الأكراد بين الإقصاء والظهور، وبين التهميش والحضور. جان دوست: اهتم العرب بمن حولهم من الشعوب فدرسوا عاداتهم وتقاليدهم واطلعوا على أنماط حياتهم الاجتماعية واهتموا بتاريخهم وثقافته. بطبيعة الحال أنا أتكلم عن بداية عهد الدولة الإسلامية حين توسعت حدودها وضمت شعوباً كثيرة كان لا بد من الاحتكاك بها والتعرف عليها. لكن الاهتمام بعلم دراسة الشعوب أو علم النياسة والأناسة خفت لدى العرب إلى أن غاب كلياً. هذا لم يمنع من بروز حالات فردية أخذت على عاتقها التعرف على آداب وثقافات الجيران كما فعل الدبلوماسي الفلسطيني ضياء الدين باشا الخالدي الذي ألف أول قاموس كردي عربي بعد احتكاكه المباشر بالكرد ومعرفة لغتهم وثقافتهم. للأسف انقطع الخيط فلم يعد العرب يهتمون بثقافة الكرد إلا لأسباب أمنية. فمن المفارقات أن دوائر الاستخبارات حاولت تعريف الشعب الكردي بعد بروز النزعات القومية. وجاءت تقارير الاستخبارات القومية العربية مليئة بالتزوير والبهتان كما في كتاب ضابط الأمن السياسي السوري الملازم أول محمد طلب هلال رئيس الشعبة السياسية بالحسكة «دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية، الاجتماعية، السياسية». للأسف الشديد بنت الدولة القومية السورية في عهد البعث تصوراتها عن الكرد بناء على ما ورد في هذه الدراسة المحشوة بالمغالطات والتي تنكر وجود شعب اسمه الشعب الكردي. بالمقابل اهتم المستشرقون بالتعرف على الكرد عن كثب وكثرت البعثات الاستكشافية الميدانية التي قام بها مستشرقون كبار بالإضافة إلى دراسات أكاديمية قيمة. ولا يخفى أن هناك دوافع استعمارية وراء الاهتمام الغربي بشعوب الشرق، لكن مع ذلك نتجت عن حركة الاستشراق مواد مهمة جداً لصالح شعوب المنطقة. برزت قضية الكرد عند العالم والشاعر الأديب الكردي الكبير أحمد خاني صاحب ملحمة (مم وزين)، والذي عاصر فترة صراع الإمبراطوريتين الفارسية الصفوية، والعثمانية، في مناطق الكرد.. قمت بترجمة (مم وزين) وهذا يقودنا إلى الحديث عن إيثار أحمد خاني للكتابة بالكردية رغم تمكُّنِه من اللغات العربية والفارسية والتركية. وهنا نسأل هل هي فلسفة كتابية مهتمة بالنقش الحضاري ومتأثرة بالقضية الكردية في آنٍ واحدٍ منذ قرون؟ جان دوست: أحمد خاني كان واضحاً جداً في طرح فكرته. قالها دون مواربة في مقدمة ملحمته الشعرية مم وزين. قال إنه سيكتب بالكردية ويعاف الفارسية وغيرها من اللغات. أكد أنه سيجلو الصدأ عن نحاسه ويهجر الذهب والفضة. لكنه استدرك أن هذا النحاس لن يتحول إلى عملة رائجة ما لم يكن عليها ختم ملك أو سلطان. فهم أحمد خاني أهمية اللغة في إرساء قواعد شخصية مستقلة للكرد فكتب كل مؤلفاته بالكردية. كانت خطوته جبارة حتى أنه سعى إلى ما أسميه (تكريد الإسلام) أي شرح الدين الإسلامي والعقيدة والتفسير باللغة الكردية. نعلم أهمية الدين في حياة الكرد، ولو قيض لهذا المشروع الرائد أن ينجح لقفزت اللغة الكردية قفزة كبيرة إلى الأمام. برزت الدعوة إلى الاهتمام باللغة الكردية بالموازاة مع الدعوة إلى تحرر الكرد من ربقة الصفويين والعثمانيين. أي أن دعوة الخاني كانت شاملة لجانبها الثقافي والسياسي فلم يهمل هذا ولا ذاك.