ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ كانت مصادفةً أَن أكونْ ذَكَراً … ومصادفةً أَن أَرى قمراً شاحباً مثلَ ليمونة يَتحرَّشُ بالساهرات ولم أَجتهدْ كي أَجدْ شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ سِرِّيةً ! (محمود درويش) كان مصادفة أن ولدنا في أجسادنا. الجسد غلافنا الذي يقدمنا إلى العالم بهويات يحددها المجتمع. كيف يتعامل الكاتب/ة مع هذا المجسم الإجباري الذي وُجد فيه؟ هل ساءل يوما علاقته به؟ هل يمكنه أن يختار التدخل فيه لتجميله أو تحويله؟ ثم إن الكاتب/ة، له قدرة اختيار الجسد الذي يكتبه، فيتحول الأمر إلى نوع من المساكنة داخل هويات جنسية أخرى. هل يتدخل الكاتب/ة في هذا الاختيار؟ وهل يسمح للذات وهي تكتب أن تنزاح لستستقر داخل جسد مختلف عن جنسه؟
لقد ولدت ذكرا بعدما مات لأبوي ذكرين وتركا في القلب ندبتين، فكنت فرحتهم الأولى أو قل فرحة ترتق الجرح القديم، لم افكر في جسدي وانا صغير بقدر ما فكرت في الطبيعة والاطباق الطائرة و مثلث برمودة وكل الأشياء الغريبة التي تسلب اللب فقد حلمت مع القصص الخيالية التي قرأتها بعالم موازي فيه الخير المطلق والنهايات السعيدة والعفاريت والحيوانات المتكلمة لا أذكر أن ألح على جسدي في هذه الفترة بقدر ما ألح عقلي فقط كنت الطفل صاحب الأسئلة المستعصية عن الله والكواكب و كم أرهقت والدي بالأسئلة الوجودية ومن بعدهما معلمي المدرسة الذين وصلوا لدرجة انهم صاروا يعاقبونني على الأسئلة ويطردونني من الحصص، لكن مع مرور السن ألح الجسد وفاض كأسي و كأني اكتشفت الجسد لأول مرة وكأني كنت عقل في الفراغ وخيال بلا جسد، فعرفت الجسد ومكنونه وامكانياته ورغباته وسطوته، ووجدت البنات الذين لعبت معهم في الشارع يتغيرن ويبعدن ويخجلن مني، ما الذي بي يا ربي يخيف هذه الزهرات ويغتال البراءة ويقتضي الفصل بين الجنسين ما معنى الرجولة التي حباني بها الله أو لعنني، أحببت في كوني ذكرا الحرية المتاحة التسكع ليلا نمو العضلات التي تعين على الشجار للدفاع عن الانثى أو الضعفاء ، التجول عدم الحزر الذي فرض على زميلاتي من نزول البحر والصيد والسفر مع الأغراب، وكرهت في هذا الجسد أنه عاقرا لا يستطيع أن يحوي حياة داخله حين كبرت واملت وجدت جسد الرجل كلوح الخشب المصقول شامخ قوي لكنه لا ينبت زرعا لا يتفجر خصوبة كالأرض، بطبع له دور التخصيب لكنه دور تافه غير مرئي يمكن أن يقوم به غيره بلا تمييز يخصه هو الا من خلال الحامض النووي ياللسخافة كل علاقتي بخلق الحياة يمكن اثباتها في المعمل بالمجهر المعقم، لكني لم أكره جسدي بل ازداد تقديري لجسد الأنثى ودورها الحيوي، وازداد احترامي لعقلي أيضا لأنه جزء من هذا الجسد وعلى ان اصقله بالمعارف كما تقوم المرأة بصقل جسدها وتزيينه، وعرفت ان الوعي هو طريقي ، بالطبع لم أهمل الجسد ورغباته فالعقل كي يعمل لابد ان يأكل ويشم الهواء ويسمع الموسيقى وينتشي بالجنس، وصار العقل والجسد يتبادلان السيادة عليك، وعليك أن تنظم الأوقات وتنتخب السيد في المواقف التي لا يسودها الا سيدا واحدا. لكني اصير كاذبا لو قلت أني فهمت آلية أيهما أو كان لي إرادة مطلقة عليهما، لكني تعاملت معهما بمنطق القارب والصياد جسدي هو القارب الذي يطفو على سطح الحياة وأمواجها وعقلي صياد يقرر ان يذهب لكن قد تأتي رياح بما لا يشتهي أو يشتهي سفينه، وقد يحرن المركب كالفرس الحرون فيرفض المضي أو يذهب حيثما شاء ليس بإرادة الصياد الذي عليه ان يترك الامر له والا لاقى ما لا يحمد. أما عن الكتابة فقد أرقني هاجس الجسد كثيرا لكن ليس بشكل ايروتيكي كما نرى في الكتابات الايروتيكية، والتي أحبها لكن لا أجيدها، لكن أرقني فكرة كيف يحس الجسد الآخر أقصد جسد الأنثى بالطبيعة بالقضايا بالله بالسلطة بالأطفال بالحب ولقد كتبت متمثلا مشاعر الرجا مرة وقضاياه وشجونه ومتمثلا بطلات مرة بشجونهم واحاسيسهم كما لو كنت أختبر قدرتي في ثبر أغوار النفس الإنسانية بنوعيها. وهناك قصة أذكرها في ذلك لانها ألحت على ذهني قرابة العشرين سنة تلح الفكرة لكن المعالجة السردية تتابى أن تطاوعني فاتمحص فيها أكثر وهي ببساطة تمثل اسطورة نرسيس في العصر الحديث فما ان قرأت تلك الأسطورة حتى سألت نفسي ماذا لو كان نرسيس لم يعشق صورته كما نظن بل انه حين نظر في الغدير وجد صورته على هيءة أنثى فعشق صورته الانثوية وانفطر حزنا لانه لن يستطيع ملامسة محبوبته ولا تقبيلها ولا التجول معها في الحدائق ولا تزوجها فلا مكان يلتقيان فيه الا سطح الماء لو مد يده لامس برودة الماء ولم يلامس وجهه حبيبته الذي ظن أنه ناعما دافئا حارق الانفاس لكن حين مرت السنوات وصارت الفكرة تمور وتختمر حتى ولدت أسئلة اكثر عمقا عن شعور كلا االجنسين بمعطيات الحياة المادية والمعنوية كما أسلفت ةظلت الأسئلة تتوالد الى ان تمخضت الفكرة عن قصة طويلة نسبيا تحت عنوان نرسيس الجديد. عن عالم استطاع ان يتحول الى انثى بعملية بسيطة لدرجة انه يمكن ان يعود لجسده الرجل مرة أخرى بل اكثر من ذلك يمكن ان ينتقل بين النوعين عشرات المرات وفي كل مرة يدون احاسيسة بالطبيعة والأفكار والقضايا وعلاقته بالله وبالسلطة وبالخوف والطمع والحب والخيانة حتى انه كان يقرا ما كتبه الجنس الاخر منه ويسمع ما سجله ويشاهد ما صوره بالفيديو حتى عشق صورته الانثوية ومن هنا عدنا لنرسيس ومعضلته. وقد صدرت هذه القصة 2016 ضمن مجموعة قصصية بعنوان عسل النون. * محمد رفيع