ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ كانت مصادفةً أَن أكونْ ذَكَراً … ومصادفةً أَن أَرى قمراً شاحباً مثلَ ليمونة يَتحرَّشُ بالساهرات ولم أَجتهدْ كي أَجدْ شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ سِرِّيةً ! (محمود درويش) كان مصادفة أن ولدنا في أجسادنا. الجسد غلافنا الذي يقدمنا إلى العالم بهويات يحددها المجتمع. كيف يتعامل الكاتب/ة مع هذا المجسم الإجباري الذي وُجد فيه؟ هل ساءل يوما علاقته به؟ هل يمكنه أن يختار التدخل فيه لتجميله أو تحويله؟ ثم إن الكاتب/ة، له قدرة اختيار الجسد الذي يكتبه، فيتحول الأمر إلى نوع من المساكنة داخل هويات جنسية أخرى. هل يتدخل الكاتب/ة في هذا الاختيار؟ وهل يسمح للذات وهي تكتب أن تنزاح لستستقر داخل جسد مختلف عن جنسه؟ الجسَدُ، وعاء الرُّوح. ولا ينتبه الواحد منّا إليه إلّا بعد مغادرته أحوال الطفولة، عندها نُرسل أقدامنا خلف فكرة البلوغ الذي يشرع بتشكيل هُويّة هذا الجسد الذي أحسَبهُ مسيَّرًا في كل ما يملك من صفات خَلْقيّة، وما من أحد استطاع أن يكون ما هو عليه من وسامة أو قبح، على الرّغم من تدخُّلات مبضع التجميل الذي أزاح الحقيقة عن موضعها، وأتلف الجمال المُكتسَب، يقول "دافيد لو بروتون" في كتابه (أنثروبولوجيا الجسد): "الجسد ينتمي إلى الأرومة التي تحدّد هُوية الإنسان، وبدون الجسد الذي يعطيه وجهًا، لن يكون الإنسان على ما هو عليه". لذا علينا أن نميّز بين الإنسان وجسده، لأنَّ مكوّنات العمق الإنساني هي ذاتها التي تمنح القوام للطبيعة والكون، بحكم النسيج الواحد الذي يحملانه؛ لكن بدوافع وألوان مختلفة. وعلاقة الإنسان بجسده تبدأ عندما يكشفُ هذا الجسد عن تفاصيله ونتوءاته التي تجعل صاحبه يبدو مختلفًا عن مجموعته الذكريّة أو الأنثويّة التي يحتكُّ بها، سواء في المنزل، أو المدرسة، أو الشارع. والاختلاف لا يكون إلّا بالرّضا عن كل ما نملكه، فالطول الفارع مزية يفخر بها صاحبها، تمامًا كما يفخر القصير بقامته. وقد ابتدأتُ فهم لغة جسدي عند الحُلم وخشونة الصوت، وشعرتُ بأنه صار عندي ما أخفيه، وهذه أوَّل معرفتي بسرّانيّة الأشياء، وأعتقد بأنَّ الجسد هو المعلّم الأوَّل للإنسان، وهو قادر على جرِّه إلى مربَّع الطاعة بفرض أجندة أعضائه التي تنمو وتكبر على عينه؛ ولا سبيل سوى اللِّحاق بها ومجاراتها كيفما تشكّلت. لم يحترم الإنسان فكرة الجسد كثيرًا، وبالغ في استهلاكه والتجارة به منذ أول دم على خدِّ الأرض، وما زالت الرغبة الجنسيّة والمال والسلطة؛ الدافع وراء امتهان الجسد الذي رسم بدايته على شكل الرقّ الذي فرضه منطق القوّة التي يملكها السيّد، وانتهى بتأجير هذا الجسد لإشهار زجاجة عطر رخيصة لكن باتِّفاق المالك والمملوك. وتختلف العبودية من حيث اللباس الذي كان سالفًا مجرَّد وزرة من قماش، ليصير اليوم أناقة بماركات عالميّة. واستطاع المال إلغاء عقدة الذنب عند أتباعه ومريديه، ولو أنهم نظروا إلى أنفسهم جيدًا لأدركوا أنَّ العبوديّة فكرة استملاك بوجه واحد لا تتغيَّر وجهته وإنْ مُنح العبد حرّية التنقل واللباس، فالخيط ما زال معقود بإصبع صاحب النُّفوذ. ولا أريد لأحد أنْ يعتقدَ بأنَّني مخالف لحريّة الفرد؛ لكنَّني أسلّط الضوء على أولئك المحبوسين داخل رغباتهم بعد أن اغتُصبت طفولتهم وما عادوا يملكون بوصلة العودة. وربَّما يجيبنا الزَّواج القسريّ عن السؤال: هل انتهت العبوديّة؟ تختلف كتابة الجسد الأنثويّ عن الذكريّ باختلاف الكاتب وثقافته. يشير الفيلسوف الفرنسيّ "بول ريكور" إلى أنَّ مفهوم الجسد في الكتابة يأخذنا إلى مفهوم الأنويّة في العالم الذي يتأطّر بإشكاليّة الذات، وهذا لا يختلف كثيرًا مع ما قدّمه السيميائي الروسيّ "جوليان غريماس" من أنَّ العالم لا يتحوّل إلى معنىً إلا بالجسد الذي يشكِّل شرط تكوُّن اللغة. من أجل هذا استُعمل الجسد بكامل إثارته في صنوف الأدب والثقافة كأداة محرِّكة لغريزة العين، سواء في الشِّعر أو اللّوحة أو السينما التي لم يدرك متابعها ماهيّة الكاتب، لأنَّ الكاتب الرجل؛ قدّم الأنثى والذكر على حدٍّ سواء، وكذلك فعلت الأنثى الكاتبة. يبقى الجسد فكرة الحضور الطازجة، فيما تعلقُ الرُّوح داخل فكرة الخفاء والاختباء إلى أن يُوارى حاملها، كما وتبقى سجيّة الكاتب رهن الجمال؛ لأنه السحر الوحيد القادر على تحريك بوصلتَيْ القلب والعقل، وعلينا تقبُّل أجسادنا كما ألفناها، فقد شبَّت معنا، واعتدنا على حضورها في مرايا صباحاتنا، والقبول بها؛ يعني القبول بالحقيقة الأنيقة. محمد خضير شاعر عربي – الأردن