أولى الاستشراقُ اليهودي عنايةً خاصة بالقصص القرآني، وهذه المقالة تسلِّط الضوء على هذه القضية في كتاب (مصادر يهودية بالقرآن) لمؤلفه شالوم زاوي، من خلال عرض رؤيته وفرضياته حول قصص القرآن، ونقدها من خلال قراءة تحليلية نقدية لتناوله لثلاثة نماذج من القصص. اهتمَّ المستشرقون بشكلٍ عامٍّ ببحث علاقة القرآن الكريم بكلٍّ من اليهودية والنصرانية، وهو البحث الذي قام وتأسّس على نظرية أو منهج (التأثير والتأثر) القائل باقتباس القرآن من العهدَيْن القديم والجديد، وقد أخذ هذا البحث الاستشراقي عدّة أوجه؛ فمنه مَن ركَّز على قصص القرآن الكريم عامّة، ومنه من ركَّز على قصص شخصيات بعينها في القرآن لا سيما الرسل والأنبياء، ومنه من ركَّز على لغة (لفظ) وأسلوب القرآن الكريم كذلك. بالنسبة لقصص القرآن تحديدًا ومقارنته بقصص كتب اليهود والنصارى المقدّسة في كتابات المستشرقين، فقد بدأ هذا الاتجاه الاستشراقي في القرن ال19 الميلادي بظهور بعض الدراسات المرتبطة بأهل الكتاب في القرآن الكريم؛ مثل دراسة سيمون فايل عن التوراة في القرآن (شتوتجارت 1835م) ومجموعة مقالات هيرشفيلد حول الدراسات اليهودية- الإسلامية التي نُشرت في مجلة الفصول اليهودية 1910-1911م. ولا تزال الدراسات الاستشراقية المعبرة عن هذا الاتجاه مستمرة إلى يومنا الحالّ. تعدُّ هذه الدراسات السابقة الذِّكر، البداية الأولى لنشأة الدراسات التي تُطابق بين القصص في القرآن وبين القصص في الكتاب المقدّس، ولم تكن الترجمات الأجنبية لمعاني القرآن الكريم أو الكتابات الاستشراقية سابقة الذِّكر السبب الوحيد لنشأة هذا الاتجاه أو النمط من الدراسات الاستشراقية، بل أسهم في نشأته وتطوره أيضًا تطوّر المناهج المرتبطة بالدراسات اللغوية؛ إذ بدأ ظهور الدراسات اللغوية المقارنة وتطوّر عنها (علم اللغة المقارن) الذي بلغ ازدهاره أوائل القرن العشرين، وما أعقب ذلك من تطبيق مناهج علم اللغة المستحدثة على النصوص الدينية المقدّسة، أما السبب الأخير فكان تطوّر الاهتمام بنقد الكتاب المقدّس الذي ازدهر في القرن ال19 وتأثّر بالدراسات الإسلامية وتطورها في الغرب. يمثل كتاب المستشرق اليهودي الألماني الشهير Abraham Geiger أبراهام جايجر[6] الذي حمل عنوان: ماذا أخذ محمد من اليهوديّة؟ ?Was hat Mohammed aus dem Judenthume aufgenommen -أول كتاب استشراقي في العصر الحديث يبحث المطابقة بين القصص القرآني وقصص العهد القديم، وقد أثَّر هذا الكتاب بشكل بالغ في معظم الكتابات الاستشراقية عامة واليهودية خاصة التي أعقبته، والتي بحثت التشابه بين الإسلام واليهودية من جانب وبين الإسلام والنصرانية من جانب آخر، ثم قام المستشرق الألماني هاينرش شباير (H.Spyer) بتقديم عمل مؤلف جامع يتناول قصص الكتاب المقدّس في القرآن الكريم، وواصل المستشرق اليهودي الأمريكي Abraham Katsh أبراهام كاتش هذا العمل في كتابه: Judaism In Islam اليهودية في الإسلام. ظهرت كذلك بعض الدراسات الاستشراقية التي تتناول شخصيات من الكتاب المقدّس من وجهة نظر قرآنية، والتي وَقَف وراء ظهورها عدة عوامل، وهي: 1. ظهور مدرسة تاريخ الأديان في أعقاب الأبحاث التي قام بها عالم الأديان يوليوس ڤلهاوزن[10]، والتي توصلت إلى أن قصص التوراة هي مجموعة وثائق قديمة تنتمي لمجموعات أدبية متناثرة بين آداب شعوب الشرق الأدنى القديم، وهو ما ترك انطباعًا (شكيًّا) لدى كثير من الباحثين حول مصادر قصص التوراة، ما دفعهم للتوجه لدراسة حياة تلك الشخصيات الواردة بهذه القصص من خلال قصصهم بالقرآن الكريم. 2. ظهور دراسات مقارنة بين قصص القرآن وقصص الكتاب المقدّس، أدّت إلى البحث عن صور تلك الشخصيات بعيدًا عن أسلوب ومنهج المقارنات والموازنات الاستشراقية، والبحث عما هو مشترك حول هذه الشخصيات في الكتب الدينية عمومًا ومن ضمنها القرآن الكريم. 3. ظهور العديد من الكتابات الاستشراقية حول حياة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- حاولَت المطابقة بين قصص القرآن وقصص العهدين القديم والجديد، والتي حاولت التخلص من الآراء الكنسيّة حول قصص القرآن والبحث عن حقيقتها الإسلامية. يُلحظ من خلال ما سبق، أن الاتجاه الاستشراقي الذي يبحث في قصص القرآن الكريم، قد نشأ في كنف الاستشراق اليهودي، وليس أدلّ على ذلك من أن أبرز الكتب الاستشراقية المعبرة عن هذا الاتجاه تعود لواحد من أشهر المستشرقين اليهود وهو أبراهام جايجر، والذي حمل عنوان: ماذا أخذ محمد من اليهوديّة؟ ?Was hat Mohammed aus dem Judenthume aufgenommen وهو من الكتب التي اعتمدت عليها معظم الكتابات الاستشراقية المنتمية للمدرسة اليهودية في الاستشراق بمراحلها الثلاث المتعاقبة: (اليهودية، الصهيونية، الإسرائيلية) ، وكان من أبرز هذه الكتابات كتاب المستشرق اليهودي الأمريكي أبراهام كاتش الذي حمل عنوان: Judaism in Islam, Biblical and Talmudic Background of the Koran and its Commentaries اليهودية في الإسلام، الخلفيات التلمودية والكتابية في القرآن وتعليقاته، الصادر في الولاياتالمتحدةالأمريكية عام 1951م. كما يمكن وصف هذا الاتجاه الاستشراقي حول قصص القرآن، لا سيما تناول المدرسة اليهودية في الاستشراق له، بأنه اتجاه قديم/ جديد في آنٍ؛ فرغم أنه ظهر تقريبًا في أواخر القرن ال19م، إلّا أنه بدأ يعود للظهور بقوة في العصر الحديث في عدد من كتابات المستشرقين الإسرائيليين المعاصرين، ومن أبرز أمثلتهم كتابات المستشرق الإسرائيلي البارز Uri Rubin أوري روبين (1944-…)[13]، أستاذ الدراسات القرآنية الشرفي بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة تل أبيب، سواء في كتبه أو أبحاثه أو حتى مقالاته في بعض الموسوعات الإسرائيلية، مثل مقاله بعنوان: (أبراهام) في الموسوعة العبرية العامة التي صدرت في القدسالمحتلة عام 1948م[14]. كما أعلن أيضًا على صفحته بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة تل أبيب المنتمي إليه -أنه يعمل حاليًا على مشروع ما سمَّاه ب(بحث المواد التوراتية وقصص الأنبياء في اليهودية المتأصِّلة في القرآن)، ومن المرتقب أن يرى النور قريبًا. يتضح أن عودة هذا الاتجاه الاستشراقي بقوة إلى الكتابات الاستشراقية الإسرائيلية المعاصرة، هو ظهور توجه موضوعي إلى حدٍّ ما في عدد من الكتابات الاستشراقية الإسرائيلية المعاصرة حول القرآن الكريم، والتي اصطبغت بصفة (الأكاديمية) وابتعدت قليلًا عن الاتجاه (اللاهوتي/ الجدلي) الاستشراقي الذي يهدف بالأساس إلى إثبات انتحال القرآن لمواد توراتية، وكان يقف وراءه في بداية ظهوره عدد من حاخامات ورجال الدين اليهود ومن أبرزهم الحاخام اليهودي أبراهام جايجر. أمّا في وقتنا الحالي، فيلحظ أن عددًا كبيرًا من المستشرقين الإسرائيليين هم أساتذة في جامعات إسرائيلية ولهم مشاركات علمية في جامعات أوروبية وأمريكية حول الدراسات القرآنية، وبالتالي يحاولون الوقوف على الاتجاهات الاستشراقية الحديثة في دراسة النصّ القرآني واتباعها، ومن أبرزها اتجاه (التحليل الفيلولوجي) الذي يبحث في لغة القرآن وأسلوبه الأدبي، وسبق أن أظهر نتائج موضوعية أثبتت خصوصية نصّ القرآن وتفرّده وعدم مشابهته لنصوص عربية أخرى، ويبدو أن الدافع وراء ذلك كان عودة اهتمام الاستشراق الإسرائيلي مرة أخرى بترجمة النصّ القرآني إلى العبرية لا سيما بعد أحداث 11 سبتمبر، وما أحدثته من فضول عالمي عامّة واستشراقي خاصّة لمعرفة الكتاب المقدّس للمسلمين والوقوف على حقيقة ما جاء فيه لا سيما حول الآيات التي تتعرّض للجهاد ولأهل الكتاب، وهو ما تبدَّى في إصدار جامعة تل أبيب عام 2005 لترجمة عبرية حديثة لمعاني القرآن الكريم، قام بها البروفيسور أوري روبين، وهي الترجمة التي مثَّلت الحدث العلمي الاستشراقي الإسرائيلي الأبرز في العصر الحديث.