يراقب المغاربة، على امتداد الخريطة الوطنية، بقلق كبير تطورات الوضع الوبائي المحلي. إذ ما فتئت وتيرة الإصابات تتصاعد على نحو مخيف ومتسارع، حيث وصلت إلى حدود مساء اول أمس الاثنين إلى 1120 إصابة. ويعزى السبب، بحسب ما أدلى به رئيس مديرية الأوبئة، محمد اليوبي، إلى أن الفيروس نجح في تشكيل بؤر داخل بيوت والتجمعات الأسرية والعائلية، حيث سجل إصابة أسر بأكملها في العديد من المدن، كما وقع في مدينة ورزازات والريش والناظور، وأيضا الدارالبيضاء وبوجدور.
تؤكد الأرقام المعلن عنها بخصوص تطورات الوضع الوبائي، أننا انتقلنا، أولا، من بؤر الوافدين إلى المخالطين، ثم إلى مخالطي المخالطين، والآن أصبحنا أمام البؤر العائلية، والخوف كل الخوف أن ننتقل، في أسوأ سيناريو على الإطلاق، إلى البؤر السكنية وبؤر الأحياء والمناطق والمدن. فقد بلغ عدد المصابين بالفيروس القاتل بإقليم ورزازات 10 أشخاص من عائلة واحدة، إذ إن الجميع انتقلت إليهم العدوى داخل منزل العائلة، وفق إفادة مصدر مسؤول. أما بمدينة الريش، فقد كشفت التحاليل المخبرية أن عدد المصابين بالمدينة ذاتها يبلغ 12 حالة من عائلة واحدة، وأن جميع المصابين خالطوا المصابة الأولى التي توفي زوجها قبل أيام. وسجّل المستشفى الإقليمي بالنّاظور أكثر من سبع حالات للإصابة بفيروس “كورونا” من عائلةً واحدة بجماعة بوعرك. وذكر مصدر داخل مستشفى الحسني، أن النتائج المخبرية التي توصلت بها إدارة المستشفى إلى حدّ الآن، توزعت على ثلاثٍ إيجابية لمصابين من عائلة واحدة، وأخرى سلبية لخمس ممرضات يشتغلن في مصحة بالناظور، وشخص من المخالطين. تؤكد الحالات المعلن عنها، بما لا يدع أي مجال للشك، أن الاستهتار بالحجر الصحي، حتى داخل المنازل، قد يقود إلى كارثة وطنية يصعب الخروج منها إلا ببذل المزيد من الأرواح، على غرار ما وقع في إيطاليا وإسبانيا، والعديد من الدول التي تتفوق علينا في الإمكانات الطبية. إن الحماية، يقول مصدر طبي، نبدأ من جدران البيت، وإلا سيجد كل واحد منا نفسه، أو عزيزا لديه، ممددا في غرفة الإنعاش، موصولا بأجهزة تنفس اصطناعية يصارع من حياة قد تستمر وقد تنتهي. إن المطلوب هو الانضباط لإجراءات الحجر الصحي حتى داخل البيت، والابتعاد عن الممارسات الاعتيادية التي كانت قبل تفشي الفيروس. لقد بعث رئيس مديرية الأوبئة إشارات غير مطمئنة، ووضع يده على الجرح على نحو مباشر؛ فالاختلاط قد يعني تحويل الأسرة إلى بؤرة للوباء. ذلك أن إجراءات التتبع الطبي للمخالطين الذين يصل عددهم اليوم إلى أكثر من 8 آلاف مخالط، كشفت إصابة 230 حالة. ترسيمة العادات إن ما يقع في المغرب وفي الأطراف الأربعة للأرض يثير الآن أسئلة متصاعدة ومضطربة حول تداعيات وباء كورونا على حياة الناس والعلاقات بين أفراد الأسرة وانعكاسات ذلك على التكوين المجتمعي بصفة عامة. ففي المغرب، يقول المهدي عربشان (36 سنة- باحث في علم الاجتماع): “بالنسبة إلى انتقال بؤرة الوباء إلى الأسرة، أعتقد أن هذا كان منتظرا ومتوقعا، بحكم التركيبة اليومية لما يفعله المغاربة في منازلهم. يأكلون من طبق واحد، بمسحون أيديهم بمنديل واحد، أضف إلى ذلك كثرة التقبيل والعناق بين الأبناء والآباء…. ولا ينبغي أن تنسى أن هناك أسرا عديدة تعيش في شقق من 50 مترا مربعا، أي في ما يسمى السكن الاقتصادي. ولنكن صرحاء، صحيح أن الدولة طالبت المغاربة بالالتزام بضوابط الحجر الصحي وعدم الخروج من المنازل، لكنها لم تقم بالتحسيس حول الحجر الصحي بين قاطني الشقق”. ويرى عبد المولى الألمعي (40 سنة- إطار جمعوي) أن “أغلبية المواطنين لا يحترمون الحجر الصحي داخل المنازل حسب ما هو معمول به، لأنهم ما زالوا يجهلون حقيقة هذا الوباء. والجاهل عدو لنفسه، كما يقال. ولا يمكن محاربة الجهل بين ليلة و وضحاها. بل ينبغي استمرار التحسيس بحقيقة ما يجري، ولا بد من انخراط وسائل الإعلام بشكل مكثف في حملة التحسيس، وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون والمنصات الإلكترونية”. أما أيمن الرابحي (23 سنة- طالب جامعي)، فيقول: “من الطبيعي أن ينتشر الفيروس بين أفراد العائلة، وخاصة إن كانوا يقطنون منزلا واحدا أو شقة واحدة، لأن الفيروس يمكن نقله عبر أي شيء حتى عبر الهواء؛ فهو يبقى معلق لفترة 3 ساعات، ويمكنه اختراق الأنف والعينين والأذنين والفم. المشكل يقع خارج المنزل في الشارع والأسواق والبنوك والإدارات والمصحات. أما العائلة فيمكن احتواؤها وفحصها وعزلها. والحل يبقى هو تكثيف الاختبارات السريعة” . ويذهب محسن العريفي (30 سنة موظف) أن كورونا، رغم الرجة التي أحدثها في بينة العلاقات الاجتماعية، قإنه لم ينجح في القضاء على بعض العادات السيئة بالنظر إلى إجراءات الحجر الصحي، مثل “تقرقيب الناب” والتجمع فوق الأسطح و”القصارة داخل الشقق”، والسمر الليلي الجماعي، ولعب الورق، وأشياء أخرى كثيرة تعتبر قاتلة في زمن كورونا “. إيطاليا وإسبانيا وإذا كانت الأسرة تستمد مرجعتيها في حياة الأفراد، من المنظومة الثقافية التي تعتمد التضامن العائلي، فإن الأمر ليس حكرا على المغرب فقط، إذ يشير تقرير علمي نشرته صحيفة “كوريرا دي لاسيرا” الإيطالية في عددها يوم 25 مارس الماضي، إلى أن من أسباب ارتفاع أعداد الوفيات بسبب فيروس كورونا في إسبانيا وإيطاليا (8,6 %) مقارنة بألمانيا (0,3 %) وحتى قياسا للمعدل العالمي (4 %)، ليس فقط التفاوت في أداء المنظومات الصحية، ومدى استجابة المواطنين لنداءات الحكومة بضرورة إتباع الإرشادات التي من شأنها الحد من تفشي الفيروس وهذا مؤكد أيضًا، بل أعداد المسنين في الدولة ونظام رعايتهم وطبيعة العلاقات الاجتماعية بين فراد الأسرة الواحدة وطبيعة عادات الأفراد الاجتماعية. ففي إيطاليا وإسبانيا تعيش نسبة كبيرة من المسنين مع عائلاتهم في منزل واحد وتعتمد عليهم في رعاية الأطفال ومرافقتهم إلى المدارس أو الأماكن العامة، الأمر الذي زاد من معدلات الاختلاط بين الأجيال الشابة والناشئة مما أدى في النهاية إلى رفع حالات الإصابة والوفيات نتيجة تعرضهم للعدوى من الأبناء أو من الأحفاد. فهل معنى ذلك أن المغرب، ومعه الدول العربية، مرشح أكثر من غيره لمواجهة البؤر العائلية للقضاء على الوباء؟ إنه لمن المعروف أن البنية الديموغرافية للدول العربية تختلف عن الغربية فمثلًا في بلدان شمال أفريقيا ذات الكثافة السكانية (المغرب: 40 مليون نسمة، مصر: 100 مليون نسمة، الجزائر: 43 مليون نسمة،، تونس قرابة 12 مليون نسمة) تتسم بنيتها الديمغرافية بهيمنة الشباب، بخلاف المجتمعات الأوروبية، ويفترض أن يقلل هذا من نسبة مخاطر الوفيات بفيروس كورونا المسجلة في بلدان أوروبية. كما تختلف قيمة الأسرة في المجتمعات العربية عن المجتمعات الغربية، حيث يتجاوز وضع الأسرة كونها نواة لكيان المجتمع، لتلعب وظيفة التآزر والتكافل والتكامل كأساس للنظام الاجتماعي والاقتصادي. وهذا ما يجعل من التزام الحجر الصحي بين أفراد الأسرة الواحدة، في البيوت معادلة صعبة جدا. ذلك أن أن النظم الاجتماعية والدينية في البلدان العربية، تقول الدكتورة هالة فودة، تقوم على الترابط الواسع بين أفراد الأسرة الواحدة، بأجيالها الثلاثة أحيانا، الأجداد والأبناء والأحفاد، وفي ظل وجود نسبة ضئيلة من المسنين الذين يستفيدون من أنظمة الرعاية الاجتماعية ومحدودية أعداد دور الرعاية للمسنين في الدول العربية، فان أوضاعهم تظل مرتبطة بأسرهم، وهو ترابط لا تمليه فقط ميكانيزمات النظام الاجتماعي، بل تعززه منظومة قيم ثقافية ودينية.
العزل الاجتماعي
وتتابع الدكتورة خالة فودة: “من غير المرجح أن تؤدي إجراءات العزل الاجتماعي المتبعة في كثير من الدول العربية إلى نتائج ذات دلالة قوية فيما يتعلق بانتشار فيروس كورونا، خصوصا في الأحياء السكنية الفقيرة التي تتسم بكثافة سكانية عالية، وتكمن المعضلة الكبيرة هنا في ضعف التغطية الصحية لكبار السن والمواطنين بصفه عامة في العديد من الدول العربية ذات الدخل المنخفض”. إن مسؤولي قطاعات الصحة في البلدان العربية يراهنون على تكثيف وسائل الوقاية من الفيروس، من أجل الإبقاء على معدل غير مرتفع من المصابين يتلاءم مع قدرات المنظومة الصحية، فيما يعرف بمخطط "تسطيح المنحنى"، كسبيل لتفادي سيناريو مشابه لإيطاليا أو إسبانيا، لكن هل سينجح المغاربة في قهر عاداتهم داخل البيوت، وهل بالفعل لدينا وحدات وبنيات سكنية تسمح بالتطبيق الحرفي لإجراءات الوقاية داخل المنازل؟