خطوة جبارة تلك التي دخلتها السعودية مع إعلان الشروع في إنتاج الغاز بحقلها المكتشف الجديد «الجافورة»، الذي يوصف ب «الحقل العملاق»، اعتبارا لما يتوفر عليه من احتياطي يتجاوز 200 ترليون متر مكعب من الغاز الرطب، الذي سينقل البلاد تلك إلى أن تصبح ثالث قوة منتجة للغاز بالعالم بعد روسياوقطر. لكن الأكثر أهمية، هو توازي ذلك الإعلان الهام، مع الطموح المعلن عنه كي تصبح الرياض ثاني أكبر منتج للأسمدة المستخرجة من الفوسفاط، ضمن مشروعها الطموح الآخر الكبير لمدينة «وعد الشمال» المنتظر إنجاز واحد من أكبر مصانع تحويل الأسمدة بها. وهذا موضوع يعنينا مغربيا بدرجات عالية. فاتورة غياب المغرب العربي لابد من العودة إلى التذكير، بأن من معارك المستقبل المنظور، في أفق 2050، معركة «الأمن الغذائي» بالعالم. وأن من أهم مداخل تلك المعركة تجويد إنتاج الأسمدة المستخرجة من الفوسفاط، الذي لا يتحقق سوى بالتوفر على المعرفة العلمية والتقنية التي يوفرها امتلاك الغاز والفوسفاط كثروات طبيعية. ذلك أن التطور التكنولوجي المتحقق اليوم عالميا، قد أصبح يسمح بإنتاج أنواع من الأسمدة ذات الجودة العالية، والمخاطر البيئية الأقل، من خلال مزج مكونات الغاز مع مكونات الفوسفاط الخام. وأن من يمتلك ذلك «السحر العلمي» (إذا جاز لنا التعبير مجازيا هنا)، سيمتلك واحدة من الطرق السيارة للتنمية والتقدم والصعود ضمن الإقتصاد العالمي. نحن هنا، إذن، أمام حسابات استراتيجية في بناء بعض من اقتصاديات المستقبل. وشاء القدر أن تكون جغرافياتنا العربية في قلب هذه الحسابات الجديدة لمنطق السوق في القرن 21، بفضل امتلاك أراضيها للثروتين الحاسمتين في تحقيق حلم «الأمن الغذائي» التي هي الغاز الطبيعي والفوسفاط. الغاز الطبيعي بعدد من الدول المشرقية والمغاربية (خاصة السعودية، قطر والجزائر) والفوسفاط (المغرب كأكبر ممتلك للإحتياطي العالمي، ثم الطموح السعودي الصاعد رغم احتلاله المرتبة الحادية عشرة عالميا من حيث حجم الإحتياط العالمي). هنا علينا استحضار مخططات تنموية رائدة، ستكون لها الكلمة الحاسمة ضمن تلك الحسابات الإستراتيجية، في المقدمة منها ثلاث جغرافيات كبيرة ووازنة، هي الإستراتيجية الفلاحية للولايات المتحدةالأمريكية (وليس اعتباطا أن السؤال الفلاحي واحد من المعارك الكبرى للرئيس الأمريكي دونالد ترامب)، ثم الإستراتيجية الفلاحية للصين، وأخيرا بعض الطموحات الواعدة بإفريقيا (خاصة بإثيوبيا ونيجيريا). ذلك أن طموح واشنطن الكبير في أفق 2050، هو أن تصبح أراضيها الفلاحية الشاسعة، التي بعضها يساوي مساحة بلدان كاملة بإفريقيا والشرق الأوسط وأروبا، هي المعمل الذي يوفر القمح للسوق العالمية، خاصة بآسيا وأمريكا اللاتينية (سوق هائلة بأكثر من 3 ملايير نسمة وأفواه مفتوحة تطلب التغذية). وأن ذلك الطموح الأمريكي كامن في الوصول إلى إنتاج ثلاث مواسم حصاد للقمح في سنة واحدة ومن ذات الحقل، عبر توظيف تقنيات إنتاج متطورة على مستوى تقنيات الري وأنواع جديدة من الأسمدة، لا يوفرها سوى التقدم العلمي المتحقق اليوم من خلال دمج ثروة الغاز مع ثروة الفوسفاط. مما يعني أن الرهان القادم في كامل القرن 21، لن يكون فقط على قوة البترول (الطاقة الأحفورية)، بل على قوة الفوسفاط وقوة الغاز. وليس اعتباطا أن المجهود الذي تبدله الصين على مستوى تطوير إنتاج الأسمدة قد مكنها أن تصبح رائدة عالمية في هذا المجال خلال السنوات العشر الماضية، لأن الرهان الصيني هو تحقيق الإستقلال الذاتي على المستوى الفلاحي والغذائي، وأكثر من ذلك سعيها إلى منافسة الطموح الأمريكي في جغرافيات عالمية وازنة وواعدة في مقدمتها قارتنا الإفريقية. ضمن هذا التفاعل العالمي، والتسابق بين مختلف القوى العالمية لإعادة ترتيب أوراق المصالح الحيوية ضمن السوق الدولية، تعتبر منطقتنا المغاربية أكبر المناطق الخاسرة فيه للأسف، المضيعة للفرص التاريخية النادرة لتحقيق قفزة جماعية رائدة ضمن منظومة التكتلات الإقتصادية العالمية الجديدة. لأنه علينا تخيل التكامل بين الغاز الجزائري والفوسفاط المغربي، لتطوير إنتاج أسمدة متطورة ومتجاوبة مع الحاجيات العالمية اليوم وغدا، وما سيمنحه لفضائنا المغاربي من أسباب المناعة والقوة والتطور. خاصة مع ما يتوفر عليه فوسفاط المغرب من مواد عضوية جد مهمة (ليس أقلها اليورانيوم)، لكنه هدر للفرص لا يزال متواصلا للأسف، حين نجد الرئاسة الجزائرية الجديدة، لا تتحرج من أن تجعل من مناهضة المغرب في حقوقه القومية والسيادية أفقها الإستراتيجي بكل الفاتورة العبثية لذلك. وأنها تصدر عن رؤية سياسية للأسف متهافتة، لا تجد من تبرير لمطلب فتح الحدود لتيسير توسع السوق المغاربية سوى طلب «اعتذار» من الدولة المغربية عن تصرفات تنسب للجهاز الأمني المغربي ضد السياح الجزائريين بعد الحادث الإرهابي لصيف 1994 بفندق أطلس أسني بمراكش. والحال أن السيد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، لو كان منتصرا فعلا للمستقبل لما طالب بالضبط ب «اعتذار» الدولة المغربية عن ما اعتبره مهانة (منحته أن يصدر عن خطاب عنترية لا يليق أبدا بمسؤول دولة مؤتمن على مصالح بلاده الحيوية ضمن فضائها الإقليمي والجهوي والقاري). لأن سؤال الإعتذار الفعلي هو كبير وهائل على الدولة الجزائرية، أمام تفاصيل الجريمة التي ارتكبتها في نهاية سنة 1975، ضد مواطنين وعائلات مغربية بنسائها وأطفالها ورجالها، مقيمة بالجزائر منذ عقود، وجزء كبير منها تكونت من زيجات مغربية جزائرية، حين تم اجتثاتها من مجالات حياتها بالجزائر وألقي بها على الحدود المغربية بما تضعه فقط عليها من لباس (بعضها بلباس النوم). حيث يكبر السؤال هنا: ما الذي يمكن أن نصف به تلك الجريمة ومن عليه الإعتذار فعليا للآخر؟. إن الفاتورة التي تخسرها منطقتنا المغاربية، للأسف هنا كبيرة بل هائلة. لأنه بدلا من أن نكون فاعلين اقتصاديا ضمن منظومة الإستراتيجيات العالمية الجديدة للفوز بريادة تحقيق «الأمن الغذائي» المتكامل مع «الأمن المائي»، لا يزال «داء العطب» القديم لوهم «الزعامة الإقليمية» بشمال إفريقيا عند جزء من النخبة المؤثرة في القرار السياسي بالجزائر الشقيقة يعرقل ذلك، كونه لا يزال يعتقد أن تحقيق ذلك لن يتم سوى عبر تقويض المغرب وإضعافه وتطويق عمقه الجغرافي الإفريقي بغرب القارة الإفريقية. حلم أفق استراتيجي مغربي سعودي إن توالي خيارات تدبيرية بالسعودية، بالمقابل، ينتصر للتحول المتواتر (والهادئ)، بمنطق الرؤية السياسية الخاصة بالنظام السياسي القائم بها، الذي يختار التغيير من خلال «الإستراتيجية الإقتصادية التنموية» (يعتبر مشروع السعودية 2030 واحدا من عناوينه)، التي ستفضي من وجهة النظر تلك، إلى تحول في الوعي وفي المجتمع، ينتهي إلى بنية تدبيرية مؤسساتية بمنطق السوق العالمي خلال العقود القادمة. إن توالي تلك الخيارات التدبيرية، إنما يدشن لبداية ميلاد «مملكة عربية سعودية» جديدة ومختلفة، تكاد في مكان ما تكرر (وتستفيد من) التجربة التدبيرية الصينية، ذات النظام السياسي الشمولي، التي اعتمدت المنطق السياسي الذي أطلقه زعيمها دان سياو بينغ في نهاية السبعينات القائل ب «دولة واحدة ونظامين»، واحد سياسي شمولي منتصر لخيار مركزية القرار السياسي (الحزب الوحيد)، والآخر منتصر لنظام السوق الليبرالي على مستوى بنية الإنتاج. وتكاد الرياض اليوم، أن تخلص إلى إنتاج ذات الربح الإقتصادي من خلال الرهان على إنتاج طبقة متوسطة سعودية، تخلق أنتلجنسياها الخاصة قيميا. هذه السعودية الجديدة، ضمن فضائها المشرقي، التي تسعى إلى تنويع مصادر ثروتها وبنية إنتاجها الصناعي التحويلي (المتحرر من اقتصاد الريع النفطي)، عبر مشاريع مهيكلة ضخمة من حجم مشروع «الجافورة» ومشروع المدينة الصناعية «وعد الشمال»، ومشروع «مدينة التكنولوجيا» بضواحي جدة، تبقى مطوقة ضمن جوارها الجغرافي بقوى إقليمية مناهضة ومنافسة، تكاد تشكل ثالوثا تقع هي في القلب منه، هي إيران الخمينية وتركيا الأردوغانية ومصر (بقوتها الجغرافية والبشرية)، مع فاعل محوري آخر قوي ومؤثر بمقاييس عالمية هي إسرائيل. إن هذه السعودية الجديدة، الطامحة إلى أن تصبح لاعبا مؤثرا ضمن الإستراتيجية العالمية الجديدة لتطوير أسباب وأشكال التحكم وتوجيه «الأمن الغذائي» بالكرة الأرضية، عبر مشاريعها المفتوحة لتطوير إنتاج الأسمدة من خلال ما تتوفر عليه من ثروة غاز هائلة وثروة أقل من الفوسفاط، يجعلنا ملزمين (بسبب غياب الأمل مرحليا في تحقق ونضج فضائنا المغاربي) بتجسير العلاقة معها برؤية حسابات القرن 21، التي هي رؤية تنتصر لترتيب تنظيم المصالح، بما يحقق قوة عربية وإسلامية جديدة، تتجاوز واقع التوافقات السياسية للقرن 20 نحو التحديات التنموية والإقتصادية للقرن 21. إن قوة الورقة المغربية، ضمن هذا الأفق الطموح لتعاون استراتيجي جديد بين البلدين، آتية من راكمته الرباط من تجربة في مجال تطوير صناعتها الفوسفاطية، الذي مكنها أن تصبح رائدة في العالم في مجال صناعة وإنتاج الأسمدة، تجاوز منذ سنة 2016، التجربة الهائلة للولايات المتحدةالأمريكية والتجربة الصينية. وأنها أكثر من ذلك هي البوابة الفاعلة اليوم في إفريقيا من خلال الدور الذي أصبح لمؤسسته الوطنية (المكتب الشريف للفوسفاط) بجغرافيات صاعدة بقارتنا السوداء مثل ما يسجل من تطوير لمصانع إنتاج متطورة للأسمدة بخبرة مغربية خالصة في كل من نيجيريا وإثيوبيا وبميزانيات ضخمة تتجاوز 5 مليارات دولار. إن الطموح، الذي مفروض أن يحقق تكاملا بين ما عبر عنه مثلا وزير الطاقة السعودي السابق خالد الفالح (الذي عين مؤخرا في مجال آخر حيوي هو وزارة الإستثمار) من سعي بلاده إلى أن تصبح واحدة من البلدان الرائدة في مجال إنتاج الأسمدة من الفوسفاط (محددا السقف في أن تكون ثاني دولة بالعالم)، وبين واقع قوة الحضور المغربي عالميا في ذات المجال، سيسمح بميلاد أفق تعاوني عربي استراتيجي جديد عبر بوابة المساهمة بعلاقة مع استراتيجيات عواصم كبرى وازنة من حجم واشنطن وبكين في مجال الأمن الغذائي العالمي، سيغير من معادلات كاملة بفضاءنا العربي في امتداداته الإفريقية والآسيوية. علما أنه على مستوى الأرقام تقدر احتياطات السعودية من الفوسفاط بحوالي 960 مليون طن مما يجعلها في المرتبة الحادية عشر في العالم. وقد شرع البنك الإسلامي للتنمية منذ 2009 في تطوير تلك الموارد الطبيعية، حيث اضطلعت «شركة التعدين العربية السعودية» بمسؤولية استخراج ومعالجة الفوسفاط ونجحت في إنشاء صناعة أسمدة فوسفاطية، وفي الوقت ذاته توفير دخل وطني خارج القطاع النفطي وإنشاء مراكز جديدة للنشاط الاقتصادي في منطقة الجلاميد وعرعر شمال البلاد، ورأس الخير على الساحل الشرقي. وتصدر الأسمدة الفوسفاطية السعودية حاليًا إلى جميع أنحاء العالم. وتضم صناعة الفوسفاط الجديدة مصنع المناجم ومعالجة الخامات في الجلاميد حيث تنقل رواسب الفوسفاط المستخرجة هناك إلى المنشآت الصناعية في مدينة رأس الخير الصناعية لتجهيزها إلى منتجات وسيطة (أحماض الكبريتيك والفوسفوريك) ومنتجات نهائية (أسمدة الأمونيا وفوسفات ثنائي الأمونيوم) ثم تحمل هذه المنتجات النهائية على السفن في ميناء رأس الخير للتصدير، ولا سيما إلى الأسواق الرئيسية في جنوب آسيا والصين. وتشرف شركة معادن للفوسفاط السعودية على جميع جوانب سلسلة الإنتاج. في المقابل أصبح المغرب رائدا في السوق العالمي لسوق الأسمدة، وهو ما تؤشر عليه واردات الأمونياك، التي ينتظر أن تصل إلى 1.8 مليون طن. وكان تقرير دولي أنجزته المؤسسة البحثية « بي إم إي» (فرع المؤسسة الأميركية «فيتش»)، قد ذهب إلى أن حصة المغرب في السوق العالمي للفوسفاط، سترتفع بشكل مطرد حتى عام 2021. وأشار ذات التقرير إلى أن الصين ستستمر في فقدان حصص في السوق العالمية، حيث سيؤول جزء من ذلك إلى المغرب، الذي بلور منذ أعوام خطة لتثمين الفوسفاط واحتلال مواقع في الأسواق التي يكون فيها الطلب مرتفعا. وتوقعت الجمعية الدولية لصناعة الأسمدة، أن الإنتاج العالمي من الفوسفاط والحامض الفوسفوري، سترتفع على التوالي بنحو 10 و12% في الفترة بين 2016 و2021، خاصة في ظل الاستثمارات التي تنجزها المغرب والسعودية. وتفضي الاستثمارات التي أعلن عنها المغرب واستراتيجية حضوره في السوق الأفريقية، إلى تأمين ارتفاع سليم لحصة المغرب في الصناعة العالمية للفوسفاط. لأن المغرب وضع خطة استثمارية بقيمة 20 مليار دولار في الفترة الممتدة بين 2008 و2025، تهدف بشكل خاص إلى تحويل الفوسفاط في منصات صناعية متخصصة. وتصل مبيعات المغرب من الفوسفاط ومشتقاته ما بين 3.9 مليارات دولار، و 4.4 مليارات دولار في السنة. ويسعى إلى رفع إنتاج الفوسفاط من 30 مليون طن إلى 50 مليون طن سنوياً، وزيادة إنتاج الأسمدة الفوسفاطية من 3.5 ملايين طن إلى 10 ملايين طن سنوياً. حيث حققت مجموعة المكتب الشرف للفوسفاط سنة 2018 ، مثلا، نتيجة صافية بلغت 5.4 مليار درهما، بزيادة بلغت 19 في المائة مقارنة مع سنة 2017، حين حققت 4.6 مليار درهم. وتعتبر هذه المؤسسة الوطنية المغربية رائداً عالمياً في سوق الفوسفاط، وتوفر تشكيلة واسعة من الأسمدة الملائمة لتخصيب التربة، وتتوفر على أكثر من 160 زبوناً في القارات الخمس. أليس مشروعا إذن الحلم بأفق استراتيجي جديد تكاملي (وليس تنافسيا) بين المغرب والسعودية، بسبب غياب أفق مغاربي منتج؟. ذلك أفق أمل ممتد للأجيال الجديدة بالبلدين.