ينتمي الأستاذ أحمد اليابوري إلى جيل أساتذتي، وقد أتيح لي في ظروف متنوعة أن أشاركه العمل وأحتكَّ به في مؤسسات ثقافية مختلفة، الأمر الذي مكنني من التعرف على بعض مزاياه والتعلم منها. لا أذكر بالذات متى تعرفت عليه بصورة مباشرة، إن معرفتي الأولى به تعود إلى نوعية حضوره في المشهد الثقافي المغربي ومؤسساته، حيث صنع لنفسه بهدوء وثقة، مساراً وطريقة مُحدَّدة بجانب وبمعيَّة طلائع الرعيل الأول من الكتَّاب والمثقفين المغاربة في مغرب ما بعد الاستقلال. وأستحضر اليوم بوضوح تام، أن معرفتي بالرجل تعود إلى علاقاتي المؤسسية به، حيث يمكنني القول، إنني تعرفت عليه في طار أعمال مؤسسية مشتركة. يحضر الأستاذ أحمد اليابوري في ذهني بالمواصفات التي كانت تميز حضوره في فضاء الثقافة المغربية، بكل ما كانت تستوعبه من سجال بين أفق التجديد والتحديث وأنماط التقليد المهيمنة والسائدة. وقد اختار بوعي ودون تردد، الانخراط في أفق التحديث والإبداع، وفي الآثار التي أنجز في حقل الدراسات الأدبية كما في أدواره العديدة في الجامعة المغربية ومؤسسات الثقافة المغربية، خير شاهد على نوعية الحضور المشار إليه، تشهد بذلك الأجيال العديدة من طلبته وزملائه في الجامعة المغربية. تعرفت عليه في إطار أنشطة إتحاد كتاب المغرب ومؤتمراته، في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات. وقد ازداد حضوره قوة في الفترات التي كان يرأس فيها اتحاد كتاب المغرب، أي من سنة 1983 إلى سنة 1989، حيث أتيح لنا التعاون في تدبير بعض ملفات مجلة آفاق، وكذا المساهمة في الإعداد لندوات وأنشطة الاتحاد، سمح لنا كل ما سبق، بنسج خيوط مشتركة من التعاون المنتج. انتبهت أيضاً إلى أن هناك مؤسسة أخرى جمعتنا في الفترة نفسها، أي نهاية السبعينيات، حيث أصبحت زميلاً له في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وأُتِيح لي داخل فضاء الكلية أن ألتقي به، وأن نعمل معاً طيلة أزيد من عشرين سنة. جمعنا أيضاً خلال الفترة نفسها، المجلس القومي للثقافة العربية، فوجدت نفسي ضمن هيئة تحرير مجلة الوحدة التي كان يصدر المجلس المذكور، وكان الأستاذ أحمد يرأس تحريرها. وقد مكنتنا هذه التجربة الجديدة بدورها من الارتباط والتعاون، الأمر الذي أتاح لي مرة أخرى معاينةً أكثر قوةً لطريقة عمله، وأسلوب ترتيبه لسير العمل في المجلة. تعززت علاقتي بالأستاذ في الفترة نفسها، وبشكل يكاد يكون عابراً، وذلك عندما انخرطنا معاً داخل لجنة موسعة، تُعْنَى بالإشراف على نشر مجلة المشروع التي كان يصدرها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. ولم تنقطع لقاءاتنا المؤسسية، ذلك أنه بعد تقاعده في نهاية القرن الماضي، جمعني به أفق مؤسسي جديد، عندما أصبح منسقاً لمجلة المناهل، وكنت عضواً في هيئة تحريرها المصغَّرة صحبة الزملاء محمد مفتاح وعبد الحميد عقار وعبد الأحد السبتي، حيث كنا نشتغل معه ونهيئ ملفات الدورية تحت إشرافه. استحضرت في الفقرات السابقة مجالات لقائي وتعرفي على الأستاذ أحمد اليابوري، واستحضرت أسماء مؤسسات وفضاءات وأمكنة لأستعيد أمامكم نوعية العلاقة التي جمعتني به، وأريد أن أنتقل الآن للحديث عن الصورة الرمزية، التي استقرت في ذهني عنه، بعد سنوات من العمل المشترك، وأشكال عديدة من معاينة نوعيات أدائه المعرفي والتدبيري والمؤسسي، ذلك أنني عندما وافقت على المساهمة في هذا اللقاء، احتفاء بالأستاذ أحمد اليابوري ومعدنه النفيس، تساءلت عن الكلمات التي يمكنني أن أدلي بها في هذه المناسبة، الكلمات التي تتيح لي إمكانية بلورة جوانب من صُوَّر الحضور المكثَّف والوَازِن الذي تمتع وما يزال يتمتع به الرجل. ولأنني أعزه وأحترمه، ولأنني في الوقت نفسه أخاف من الكلمات، فقد خامرني شك في إمكانية العثور على الكلمات المناسبة لبناء الجمل التي أريد تركيبها في مقام مناسب للمقام الذي نستظل بظله اليوم معه وبجانبه. أقول شعرت بصعوبة إيجاد الكلمات القادرة على لَمْلَمَة جوانب من تقديري لنوعية حضوره المؤسسي في مشهدنا الثقافي، فقد استطاع الرجل أن يُركِّب لنفسه في مختلف مجالات العمل التي جمعتنا، صورة متماسكة وحافلة بعطائه الغزير والنافع، وإذا كنت أشهد أنه لا يتكلم كثيراً فإنني أضيف إلى ذلك أنه يتكلم في الوقت المناسب ليعبر عن مواقفه بوضوح، فقد كان مثل أغلب أبناء جيله لا يفكر إلاّ في قضية واحدة، يتعلق الأمر بتوسيع دوائر الثقافة الجديدة، ثقافة العقل والتاريخ، ثقافة الإبداع في مجتمع تُكبِّلُه قيود التقليد المصنوعة من الفولاذ والصُّلْب. شخصت الطابع المؤسسي للعلاقات التي انخرطت فيها بجوار الرجل، بالصورة التي جعلتني أقف على مجالاتِ وأمكنةِ العمل التي مكنتني من أن أكون بجواره والغرض المتوخى من الإشارة إلى ما سبق، هو استرجاع نوعية الحضور الذي كان يتمتع به الرجل في لحظات التفكير والعمل، وفي لحظات بروز إشكالات ومآزق في سياقات العمل، حيث كنت احرص على الانتباه إلى نوعيات ردود فعله وكيفيات بنائه للحلول والمخارج المناسبة، الأمر الذي يتيح لي إلتقاط بعض السمات العامة لشخصيته. أتجه الآن لالتقاط بعض هذه المزايا والسمات، انطلاقاً من حضوره المؤسسي المتنوع بتنوع أشكال حضوره وعطائه. واسمحوا لي فيما تبقى من هذه الكلمة أن أحدثكم عن بعضها، واذا كنت قد وضعت لكلمتي عنوانا يشير الى بعضها فان ذلك يعود إلى تنوع خصاله من جهة، ولإحساسي بأن الرجل من طينة خاصة، فقد كان وما يزال في نظري، وفي كل الأحوال والظروف مثالاً للأنفة وعزة النفس. كان مجال عمل الرجل ينحصر كما قلت سابقاً، في المجال المعرفي والثقافي على وجه الخصوص، ويمكن أن نقرأ في هذا المجال بالذات، جوانب عديدة من علاقته بخيار سياسي مُحدَّد، خيار يرتبط بطبيعة تطور المواقف السياسية الوطنية، حيث لم يكن ممكناً فصل الحضور الثقافي عن الأبعاد السياسية المتصلة به، وحيث يُشكِّل الفضاء السياسي كما تبلورت ملامحه العامة بعد الاستقلال، مجالاً لإعداد المجتمع للانخراط في مسلسل التحوُّل، الذي يُفضي إلى بناء مجتمع جديد وثقافة جديدة، وما يفترض أن يترتب عن ذلك من وعي بمتطلبات التنمية والتقدم. كان الأستاذ أحمد اليابوري وما زال ينخرط في العمل الذي يسمح له بالتأثير قليلاً أو كثيراً في تطوير الثقافة المغربية، بالصورة التي تُمَكِّنُها من الانفتاح المنتج على أسئلة مجتمعها وأسئلة الحاضر الكوني، في مخاضاته وتفاعلاته القائمة، سواء في مجال المعرفة والأدب أو في المجال السياسي العام. يميل الأستاذ اليابوري إلى الاقتصاد في الحديث، ولعله يفضل الحديث الصامت، خاصة عندما يكون أمام من يستطيعون الاستماع إلى صمته وفَكِّ رموز كلماته القليلة والدالة. يمكن أن أقول إن الأستاذ أحمد اليابوري لا ينفعل كثيراً أو بتعبير أصح لا يعبر عن انفعالاته كثيراً، إلا أن الاقتراب منه والعمل معه، والاستئناس بسلوكه يكشف لمن عملوا معه، أنه ينفعل كثيراً، و يمتلك في الان نفسه القدرة على الحد من غضبه بالتزامه الصمت، أو إيجاد المخرج المناسب للقضايا التي يواجهها ويفكر فيها بكثير من التبصر والحكمة. انتبهت له مراراً ونحن نشتغل، سواء في مجلة الوحدة أو في مجلة آفاق أو في المشروع والمناهل، أو في إطار أنشطة الاتحاد، انتبهت إلى سعة صدره وصور تأففه، وقد اقترن خجله في ذهني بأنفته، كما انتبهت إلى طرق بحثه عن المواقف التأليفية الجامعة. وأدركت في لحظات أخرى، صور حزمه وكانت في الأغلب الأعم تتسم بالنعومة وتكون مصحوبة بالابتسام، فوجدت نفسي في قلب لحظات اختلاف المواقف وتباعدها، أمام رجل يبحث عن الحلول الأكثر ملاءمة والأكثر تاريخية، الأمر الذي تعلمت منه كثيراً، وقد أسعدني أن تكون مناسبة هذا اللقاء فرصة ثمينة لأعلن بكثير من المودة والتقدير، اعتزازي الكبير بالتعلم منه والاستفادة من صمته حين ينفعل أو يخجل، حيث ينذر أن تجد من يمنحك الحكمة بصمته ويمنحك المعرفة بحسن تدبيره. فليتقبل مني هذه الكلمات كتعبير صادق عن تقديري له واعتزازي بالتعلم منه. (*) شهادة ألقيت في اللقاء الذي نظمته جمعية قدماء ثانوية النهضة بسلا احتفاء بالأستاذ أحمد اليابوري