نظم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المنتدى الثاني من المنتديات الاشتراكية حول الحريات الفردية بفاس، وقد عرف مشاركة أسماء وازنة بمساهمات متميزة ننشرها على صفحات جريدتنا. اليوم مع صلاح الوديع يستأثر موضوع الحريات الفردية باهتمام الرأي العام والفاعلين المدنيين والحقوقيين والسياسيين بشكل غير مسبوق. لكن، وبرغم احتداد النقاش في بعض اللحظات – واتخاذه طابعا سجاليا، فإنه يبدو غير منتج للانسجام المطلوب مع التحولات داخل المجتمع مما ترصده العين المجردة ومما لا يزال في حاجة إلى بحث وتقص معرفي وسوسيولوجي. وقبل أن نقف على الدواعي الملحة لاعتماد قانون جنائي يقر الحريات الفردية والوقوف على تفوق المجتمع على النخبة في مقاربتها العملية وعلى نفاق أغلب مكونات الطبقة السياسية في الموضوع، يجدر بنا أن نحدد مرجعيتنا في هذا النقاش الهام: إنه الدستور المعتمد سنة 2011 وكذلك المرجعية الحقوقية الكونية التي تعتمدها المرجعية الدستورية منذ سنة 1992. المرجعية المعيارية بين دستور 2011 والإعلان العالمي لحقوق الإنسان * تؤكد (المملكة المغربية) تشبثها بحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالميا * تلتزم بما يلي: o (…) حماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والنهوض بهما، والإسهام في تطويرهما؛ مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق، وعدم قابليتها للتجزيء، o جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة. o عدد من الحقوق والحريات المثبتة في متن الدستور: الحق في الحياة (الفصل 20)، الحق في السلامة الشخصية وحماية الممتلكات (21)، السلامة الجسدية (22)، حماية الحياة الخاصة (الفصل 24) حرية الفكر والرأي والتعبير، الإبداع والنشر والعرض في مجالات الإبداع الأدبي والفني والبحث العلمي والتقني مضمونة (25)…الخ إلى حدود الفصل 35. وقد يبدو من نافل القول التذكير بكل الحقوق والحريات المثبتة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان باعتباره يشكل المرجعية المعيارية الكونية الأولى، وهي الحقوق التي سيتم التفصيل فيها من خلال العهود والاتفاقيات اللاحقة. لكن هذا التذكير – حتى وإن كان مفصلا فهو ضروري – لكونه يساعد على رفع عدد من الالتباسات بالنسبة للنقاش الدائر بين ظهرانينا منذ مدة والذي ارتبط أكثر من اللازم بالعلاقات بين الجنسين أو ما يطلق عليه عادة العلاقات الحميمية الرضائية … فبعد أن يؤكد الإعلان في المادة الأولى بأن الناس قد ولدوا أحرارا ومتساويين في الكرامة والحقوق، يؤكد في المادة الثالثة حق الفرد في الحياة والحرية والأمان على شخصه، وتؤكد المادة الرابعة على عدم جواز استرقاق أحد أو استعباده وتحظر المادة الخامسة تعرض الأفراد للتعذيب والمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللإنسانية أو الحاطة بالكرامة وتؤكد المادة السادسة على حق كل فرد بأن يُعترف له بالشخصية القانونية في حين تسطر المادة السابعة على المساواة أمام القانون والمادة الثامنة على حق الأفراد في اللجوء إلى المحاكم الوطنية الخاصة من أجل طلب الإنصاف وتمنع المادة التاسعة اعتقال أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفا. أما المادة الحادية عشرة فتؤكد على قرينة البراءة وعلى الحق في الاستفادة من محاكمة منصفة وعلنية وعلى منع العقاب بناء على قانون بأثر رجعي. فيما تفصل المادة 12 في عدم جواز تعرض أي فرد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو في شؤون أسرته أو مسكنه أو مراسلاته أو لحملات تستهدف شرفه وسمعته. أما المادة 13 فتُقِرُّ لكل فرد بحقه في التمتع بحرية التنقل وفي اختيار محل إقامته داخل حدود الدولة، بل وحتى مغادرة أي بلد بما في ذلك بلده والعودة إليه، والتماس ملجأ في بلد آخر التماسا للخلاص من الاضطهاد (المادة 14) والتمتع بجنسية ما وتغييرها (المادة 15) والحق في التزوج بدون إكراه وتأسيس أسرة متى أدرك سن البلوغ (المادة 16) وحق التملك فرديا أو بالاشتراك مع الغير (المادة 17). أما المادة 18 فتفصل في حق كل فرد في التمتع بحرية الفكر والوجدان والدين والتعبد وإقامة الشعائر فيما تسطر المادة 19 على حق كل شخص في التمتع بحرية الرأي والتعبير، أو في المادة 22 التي تنص على الحق في الضمان الاجتماعي والعمل والأجر المتساوي (المادة 23) بل وأوقات الفراغ (المادة 24) ومستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهة (المادة 25) والتعليم المجاني (المادة 26) والاستمتاع بالفنون (المادة 27)… إن بعض هذه الحقوق والحريات لا تمارس بطبيعتها إلا بالاشتراك مع أفراد آخرين مثل الاشتراك في الاجتماعات والجمعيات السلمية (المادة 20)، أو الحق في المشاركة في إدارة الشؤون العامة للبلد أو حق المشاركة في الاقتراع العام (المادة 21)، لكنها تظل في الأصل مرتبطة بالشخص الفرد في حد ذاته، قبل انفتاحها على الجماعة. ولا شك أن السياق العالمي عقب الحرب العالمية الثانية كان محددا وحاضرا بقوة لدى لجنة صياغة “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”. لقد أدت هذه الأخيرة إلى حالات قصوى من الدمار العمراني والاجتماعي والبيئي والإنساني، بل والنفسي في كل البلدان التي مستها وحتى في البلدان التي ظلت في منأى عنها. لقد بدا أن الحروب بكل أشكالها – التقليدية أو الأهلية – تفضي إلى سحق الأفراد والجماعات وتبديد مواثيق التعايش والتساكن والمساس بالحقوق وعلى رأسها وفي مقدمتها الحق في الحياة والحق في عدم التعرض للاضطهاد والأذى الجسدي المادي والمعنوي، وكلها تؤدي في أقصى تعبيراتها إلى نفي وجود الآدمي في كل أشكاله، إن هذا الهول – وما ترتب عنه من إنهاء حياة 60 مليون شخصا خلال المعارك الطاحنة – قد كان حاضرا بالتأكيد في اعتبارات اللجنة التي ترأسها رونيه كاسان وهو يقول في نهاية أشغالها مقدما إلى العالم الإعلان العالمي الأول لحقوق الإنسان الذي اعتمدته الجمعية العامة بالتصفيق ودون اعتراض في 10 دجنبر 1948: “إن إعلاننا هذا يمثل الاحتجاجَ اللازم والأقصى للبشرية في وجه كل الفظاعات وكل أشكال الاضطهاد الذي ذهب ضحيتهُ الملايين من البشر على امتداد الأزمان وعلى وجه الخصوص خلال الحربين العالميتين والفترة الفاصلة بينهما”. أسوق ذلك كي أذكِّر بأن اعتماد قيم ومعايير حقوق الإنسان لم يكن ترفا فكريا عرضيا أو استجابة لفئات اجتماعية ذات متطلبات هامشية أو عملا ناتجا عن اشتغال لجنة خبراء مغلقة عن تأثيرات التاريخ. بل إنه شكل لحظة تاريخية وسياسية وفكرية، بل وحتى وجدانية قل نظيرها من لدن بشرية عادت من حافة الدمار المحقق، أسوقه كذلك لكي لا تغيب عن المتمعن في الموضوع الروح التي أسست لإعلان حقوق الإنسان العالمي باعتباره حصيلةً لنضال وتضحيات ضاربة في التاريخ شاركت فيه كل شعوب وحضارات الأرض على مر العصور. واضعة في المقام الأول كما مر بنا الحقوق والحريات المتعلقة بالأفراد قبل الجماعات، بل وباعتبارها مؤسسة لكل الحقوق والحريات المتفرعة عنها. وليس صدفة في النص المؤسس أن تقرن الحريات الفردية بالحريات الجماعية التي هي روافع المشاركة في تدبير الشأن العام بالنسبة لجميع الأفراد والتي هي شرط تحقيق الديمقراطية السياسية . فالحريات الفردية هي ما يكفل المناخ الخاص لانبثاق وتشكل الفرد ومساهمته الفعلية والفاعلة في المجال العام. ومن دونها لا يمكن أن نتصور حضور كاملا حقيقيا في الفضاء العام للأفراد كمواطنين. فليس هناك فرد وقرار مواطني بدون مواطن حر. إن الدعوة إلى احترام حقوق وحريات الإنسان الفردية أساسي من عدة أوجه: كونه يشرعنُ ويشكلُ أساس انبثاق الفرد صاحب القرار السيادي على نفسه في إطار التعاقد الاجتماعي كونه يرفض في الأصل مبدأ الوصاية على الأفراد في التمييز بين الخير والشر بالنسبة لحياتهم وطريقة عيشهم كونه يقر للأفراد بحقهم في امتلاك حياة خاصة دون تدخل أو وصاية أو إجبار ما دامت حياتهم الخاصة لا تؤذي أفرادا آخرين كونه يضمر احترام الإرادة الحرة للفرد والثقة في قدرته على اختيار الخير لذاته كفرد، كونه يضمر الثقة في الفرد كي يحترم القانون المؤطر للمجتمع أي المنظم لعلاقات الأفراد فيما بينهم كونه يحصر مجال القانون في تنظيم العلاقات بين الأفراد – كما فيما بينهم وبين الدولة التي تمثلهم – بما يمنع الظلم والاعتداء على الحقوق من أي طرف كان، ولا بد من التوضيح أن القول بمراجعة القانون الجنائي بما لا يقيد الحريات الفردية في المجال الخاص، لا يعني بالبداهة أن كل شخص سيكون مطالبا بممارسة تلك الحريات، يعني فقط أن الحكم عليها بالقبول أو الرفض بالاستحسان أو الإدانة يجب أن يبقى حصرا على قناعة الأفراد، يمتثلون له طوعا ولا يجبَرون عليه ولا يجبِرون أحدا عليه. المجتمع متقدم عمليا على النخبة إن الحريات الفردية موضوع جد حساس اليوم. وقد يتبادر إلى الأذهان أنها لا تمت لواقع بلادنا بصلة. ورب قائل بأن المجتمع محافظ بطبعه وهو يرفض ممارسة عدد من الحريات الحميمية … ونحن نرى كيف أنه يمارسها دون أن يعلنها وإلا فما هو سر استهلاك كل كمية المشروبات الروحية بين ظهرانينا مع اعتماد كل الحكومات بلا استثناء على عائداتها الضريبية بل وتستزيد منها (بما فيها الاسلام السياسي) مع أنها ممنوعة قانونا على المغاربة المسلمين، وما هو سر 800 حالة إجهاض يوميا ومن أين يأتي 25 صبيا يعثر عليهم يوميا بإزاء القمامات وهل يمكن الاحتفاظ في هذا الشأن بالضبط بقانون لا يطبق إلا هامشيا – لحسن الحظ – لأننا لو طبقناه فسوف يكون علينا حبس مليون ونصف المليون مغربي ومغربية في كل سنة بتهمة الإجهاض أو المشاركة فيه… حالات الإجهاض أصبحت ممارسة روتينية، والعلاقات الرضائية بين البالغين أصبحت تمارس بقبول عام. إن الاعتبارات الإيديولوجية هي الغالبة للأسف في هذا النقاش إضافة إلى التموقع الانتخابي والخوف من فقدان حضورها في التنافس الانتخابي هو ما يجعل النخبة السياسية عموما تضحي بمصالح المجتمع من أجل مصلحتها الخاصة. في نقد تصرف نخبتنا تجاه الحريات الفردية أو السكيزوفرينيا المعممة والاستعمال السياسي: مع أن القانون يحظر العديد من الممارسات والسلوكات لحد الساعة، فإن ما سردناه قبل قليل يعرفه الجميع ويدركه كل واحد منا إما بالتجربة الشخصية أو بالمخالطة أو بتواتر المعطيات والحالات أو بتقاسم الأخبار من كل المصادر. وإذ لست في مجال التحريض على القيام بما ذكرته بالنسبة لكل من يسمعني أو لا يسمعني، فإنني بالمقابل لست في مجال التحريض على معاقبته. إنه يجب أن يبقى ضمن الدائرة الحميمية للأشخاص مادام لا يحدث الأذى بطرف خارجي. إذ أن مجال تدخل القانون على يد الدولة يجب أن يلغي من حسابه بتاتا حياة الناس الخاصة ويتركها لضمائرهم لا غير. مع استثناء يتعلق بإباحة التوقيف الإرادي للحمل الذي يجب أن يخضع لتقدير طبي تؤطره المقتضيات الواردة في المعاهدات الحقوقية الدولية التي تتوسع في تعريف الصحة الجسدية والنفسية والوضعية الاجتماعية للأم التي تُقدم على الإيقاف الإرادي للحمل. إننا نشهد العديد من الحالات التي يجرمها القانون القائم اليوم بل ونتعايش معها ونجد لها المبررات بيننا في المجتمع ونتصرف إزاءها باعتبارها تلزم أصحابها ولا تضيرنا في شيء ومع ذلك لا نجرؤ على إعلانها. إن نخبتنا – عوض أن تعيد النقاش إلى نصابه وتقر بأهميته وحيويته تلجأ إلى التلفيق وتدعو المجتمع إلى التحايل وأنصاف الحلول. ففي مجال العلاقات الرضائية مثلا هناك تطور حاصل تحت أعيننا يحدث كل يوم داخل المجتمع على سبيل المثال لا الحصر، إما بمرجعية حداثية حقوقية أو بمفهوم “زوجتك نفسي” المعروف كمبرر ديني. ونخبتنا عوض أن تعمل إعادة النقاش إلى نصابه وإحداث الانسجام بين القانون والحياة تلجأ إلى “الحل الوسط” السهل وتدعو الناس إلى أن يمارسوا حياتهم في منازلهم كما يريدون – يعني في الخفاء – من دون أن يقدم المشرع بشجاعة على سن قانون جديد، بل مع الاحتفاظ بالقانون القائم وبمقتضياته التي تجرم وتعاقب الأفعال التي يدعون الناس إلى إتيانها في منازلهم. وهذا يعكس عدة مؤشرات ذات دلالة: أن هؤلاء مقتنعون في قرارة أنفسهم بألا سبيل إلى منع الممارسات إياها نهائيا أن هؤلاء يدخلون في روع الناس بأن رفع التجريم عن العلاقات الرضائية يعني دعوة كل الأفراد إلى ممارستها بل وإلزامهم بها، وهذا عين الخطأ، أن هؤلاء يفضلون صيغة النفاق الاجتماعي على المسؤولية المواطنة بمنطق “لا يهمني ما يقع بل يهمني ألا يقع بمعرفتي”، أن الأصل في ممارسة الحقوق والحريات ليس هو مطابقة القانون بالضرورة بل هو التحايل عليه، إن المرجع في تنظيم المجتمع ليس هو القانون والمؤسسات، بل هو موازين القوى والمصلحة الآنية المفتقرة للأفق المجتمعي المنسجم. وفي الواقع إذا كان بإمكان هذه الاعتبارات أن تكون مبررة لدى غير المختصين بإدارة الشأن العام، فإنها لا تُقبل بالنسبة لمن هم في مواقع المسؤولية والتشريع ورسم معالم السياسات العمومية. على سبيل الخلاصة إن هناك عجزا بيِّنا عن استيعاب القانون والتشريع لتحولات المجتمع على هذا المستوى وهو ما يعكس عجز الطبقة السياسية المتواجدة في الفضاء التشريعي (البرلمان) في معظمها عن تغيير وتطوير القانون الذي ينظمه بل وطلاق المؤسسة التشريعية عن واقع المجتمع وتحولاته. الطلاق قائم كذلك بين أصحاب القرار التشريعي (المنتسبين إلى الأحزاب) وبين كل فضاءات سبر تطورات المجتمع من فضاءات جامعية وندوات وتكوينات نجدها موجودة بوفرة في بلدان أخرى، وهو مل يؤدي إلى اغترابها تماما عن واقع المجتمع… إن قناعتنا تذهب إلى أن دور القانون يجب أن يكون منحصرا في منع التظالم بين الناس أو ظلم الدولة (التي هي الممثل الأسمى للإرادة الجماعية) لا الوصاية على ضمائرهم وأجسادهم، وليس في هذا الأمر ترف متخصصين بالقانون أو محض تفلسف قانوني بقدر ما هو إطار ضروري لترسيخ تشكيل وبناء المواطن الحر والمسئول القادر فعلا على المشاركة في الحياة العامة للبلاد، الحر من كل وصاية، القادر على التمييز بين الخير والشر لذاته وللآخرين، لا يردعه – عند الضرورة – على الترامي على حقوقهم إلا القانون ولا يوجهه في أموره الخاصة إلا ضميره. يجب القطع نهائيا مع فكرة تنظيم القانون للفضاء الخاص للناس وللتمييز بين الحلال والحرام في أفعالهم في هذا الفضاء والمعاقبة عليه، لأن هذا التمييز لا يهم الحياة في المجتمع بل يهم الأفراد بحسب إيمانهم. فالاحتفاظ بهذا الامتياز للقانون الجنائي فيه اعتداء صارخ على حقوق الأفراد. إن المفروض هو أن التزام المؤمن بمقاييس الحلال والحرام لنفسه في حياته الخاصة وهذا حقه المشروع، لا يؤهله لإلزام الآخرين بها بأي شكل من الأشكال، باعتباره ليس وصيا على إيمانهم بالمرة ولا هم أوصياء على إيمانه بالمطلق. وحتى لو افترضنا جدلا أن هذه المفاهيم (الحلال والحرام) المستقاة من الشريعة يجب أن تحكم إعادة النظر في القانون الجنائي المصاغ بمنطق وضعي سنة 1962 فإن هذا القول مردود عليه لأن هؤلاء – انسجاما مع طرحهم – يجب أن يتبنَّوا لا إبقاء القانون الجنائي على ما هو عليه بل إبطاله وتعويضه بالمقتضيات الشرعية المعروفة. لترفع الدولة بما فيها من مشرعين ومن مكلفين بإنفاذ القانون يدها عن الفضاءات الخاصة. وإلا فسنستمر في وضع نصبح معه أشبه بدولة شمولية في ميدان الحريات الفردية. مقتطف من المذكرة التي ساهمت بها حركة “ضمير ” في النقاش الوطني حول النموذج التنموي المأمول تحت عنوان: “تحصين القوانين الزجرية من الاعتبارات ذات الذريعة الأخلاقيّة” والمغربُ اليوم في حاجة ملحّة إلى تحقيق قفزة نوعية جديدة في مجالِ تكْييفِ قانونه الوضْعيّ المطبق على الأحوال الشخصية للمواطنين. ويستندُ المبدأُ الذي ينْبغي أنْ يُوَجّه عملية التّكييف هذه إلى ضرورَة إقامَة فصْل واضح وفاصل نهائيّ بين ما ينتمي إلى القانون وما ينتمي إلى مبادئ الأخلاق العامّة، بين ما هو مستهجَن ومرفوض لأنّه يمس بالنظام العام وبين ما يخرُجُ من دائرة مراقبة الدّولة لأنّه ينتمي إلى الحياة الخاصّة للمواطنين. إنّ التعددية الدينية والإيتيقيّة والأخلاقية صارت علامة مميّزة قوية للمجتمع المغربي. ذلك أنّ الأقلّيّات في المغرب باتتْ تتواجد أكثر فأكثر، وبالتالي فإنّ المسألة اليوم ككلّ هِي جعل القانون الوضْعيّ يعترف بحقّ هذه الأقلّيّات في الوجود وفي التعبير وفي العيْش مع جماعتها داخل المجتمع، أيْ يعترف لجماعاتها، بكلّ بساطة، في الحقّ أنْ تعيشَ في انسجامٍ مع ذاتها. وعَنْ هذه الخيارات السيادية المتعلقة بحريّة الضمير والتعبّد تتولّد سُلوكات فردية مختلفة. ولا بدّ من التّأكيد على الدّوْر الذي تلعبه إمارة المؤمنين في التعايش السلمي بين هذه المعتقدات الدينية المختلفة. غيْر أنّ القانون الوضْعي، مع ذلك، ينبغي ألا يقتصر تدخّله في هذه الخيارات على المعالجَة الحصريّة لتطبيع السلوكات في المُجتمع، وبشكل أكثر تحديداً في الفضاء العموميّ. ومنْ ثَمّ، يجب أنْ ينظم القانون الوضعيّ العيش الجيد والمُشترك لجميع المغاربة، تبعًا لما يقومون به في المجتمع لا لِمَا هُم عليه أو ما يفكّرون فيه. وهذا هو السّبب الّذي يجعلنا نقترح، في إطار تغيير النموذج التنموي، إطلاق ورْشٍ كبيرٍ لإصلاح القوانين الماسّة بالحرّيّات،وذلك بهدف التّنصيص في القانون على حرّية الضّمير والمُعتقد، والأمر نفسه بالنسبة لمُختلف التّعْبيرات الدينية للمغاربة، والتّسريع بإلغاء تجريم العلاقات الحرّة والرضائيّة بين البالغين الراشدين، فضلاً عن الإنهاء الإرادِيّ للحمْل. ويجب أن تكون عملية إلغاء التجريم المُقترحة مصحوبة بشرطيْن أساسيين: ينبغي ممارسة هذه الحرية المتعلقة بالسّلوكات الفرديّة في إطار خاصّ أو في إطار متخصّص معدّ لهذا الغرض (مستشفى،عيادة،مطعم…)، كما ينبغي أن يعكس هذا التمرين اختيارًا شخصيًا بعيدًا عن أيّ هدف تبشيريّ. ندوة فاس – 17 يناير 2020