انعقدت بمدينة فاس، يوم الجمعة الماضي، ندوة علمية هامة في موضوع ذي راهنية كبرى متعلق »ب”الحريات الفردية في مغرب اليوم«”، في إطار اهتمام الاتحاد الاشتراكي الدائم بطرح الأسئلة المجتمعية الحارقة في نقاش عمومي سيكون تحضيرا للمؤتمر الوطني الحادي عشر لحزب القوات الشعبية. تميز اللقاء الحاشد بحضور مناضلي الاتحاد من فاس ومن أقاليم الجهة التسعة ومن خارجها، وكذا بحضور مسؤولي الحزب على رأسهم الكاتب الأول إدريس لشكر وفريق وازن من المكتب السياسي وعدد من مسؤولي الأحزاب الوطنية والتقدمية والإطارات الجمعوية والنقابية ومن المهتمين من طلبة ومواطنين. في البداية بسط الكاتب الإقليمي للاتحاد بفاس وعضو المكتب السياسي جواد شفيق في افتتاح الندوة إطارها العام، تبعا لهوية الاتحاد الاشتراكي المتعلقة بمهام التنوير والدفاع عن حرية المواطن وحقوقه، ترسيخا للعمل السياسي النبيل الذي لا يعتمد الولاءات الشخصية وحشد الزبناء باستعمال المركز الدعوي أوالمالي. ومن أجل إعمال متجدد للديموقراطية التشاركية بنفس اشتراكي وليس ليبيرالي. وتبعا لأهمية الموضوع وحساسيته، يضيف عضو المكتب السياسي، وتداخل الحقوقي والتشريعي والديني والتربوي فيه، فإن الدعوة وجهت لإطارات مشهود لها بالكفاءة والممارسة الميدانية للنقاش في موضوع قدسته الشرائع ومجده الفلاسفة والشعراء. وحضر للمساهمة كل من الأساتذة والأستاذات حسب تواردهم على المنصة: صلاح الوديع الآسفي، محمد بوزلافة، فاطنة سرحان، نزهة العلوي، محمد الدكالي، محمد بنعبد القادر، بعد المساهمة الأولى والهامة للأستاذ عبد الرحمان العمراني. العمراني: المغرب قادر على المشكل المطروح اعتبر الأستاذ الجامعي عبد الرحمان العمراني أن موضوع الحريات الفردية يندرج ضمن المشكلات التي لا نطرحها إلا ونحن قادرين على حلها، بثقة وأمل، رغم وجود ممانعة حتى طرحها للنقاش العمومي الذي انطلق، لحاجة مجتمعية ملحة، على اعتبار أن الأمر لا يهم النخبة فقط بل يستأثر باهتمام كل المجتمع نظرا للمواضيع التي تطرح نفسها، مثل العلاقات الرضائية، بعيدا عن نظرية المؤامرة وحملات الكراهية وحروب الكلمات والمصطلحات الإطلاقية التي تصور الأمر كصراع بين ملائكة! وشياطين. وفي إطار الاستقطاب الثنائي، يضيف الأستاذ العمراني، بأن هناك مسافة بين الطرفين عبر التاريخ بحكم طبائع الأشياء قد تتسع أو تضيق تبعا للعلاقة بين حرفية النصوص في علاقتها بالممارسة المجتمعية الميدانية، مما يقتضي الإدراك الواعي لهذه الحقيقة عوض القفز عليها، وهو ما يجعل قبولها في الاقتصاد والمعاملات ورفضها في المجال المرتبط بالمعيش الخصوصي. وقد نبه الأستاذ الجامعي إلى الخطأ الشائع الذي يعتقده البعض من أن هذا النقاش خاص بالمجتمعات المسلمة والحال أن كل المجتمعات عاشته، ومثل لذلك بمواقف اللاهوت الأوروبي في العصور الوسطى التي عرفت النقاشات حول مواضيع التحريم والأحكام القاسية الدينية في موضوع الحريات الفردية وحتى في الجانب الاقتصادي كمسألة الربا. أما ما يتعلق بما أسماه الأستاذ العمراني ب”فوبيا الهوية” التي تعتبر أن أي إصلاح هو تهديد للهوية، ولتفنيد الأمر بين أن الإصلاحات التي عرفها الغرب لم تقض على المسيحية، وتساءل عما إذا كان اعتماد القانون المدني والتجاري وقانون الشغل وغيرها قد أضاع هويتنا الدينية والثقافية، ولم يمنع ذلك من الأخذ بناصية الاجتهاد المنتج كإقرار مدونة الأسرة بالاجماع ولا علاقة بإمبريالية إباحية أو انحلال خلقي. رفيقي: أنا واحد ممن ينادون بالحريات الفردية عبارة جهر بها الأستاذ عبد الوهاب رفيقي (أبو حفص) مؤكدا أن لا علاقة للأمر بالهوية، وأنه بالعودة إلى التاريخ نجد أن الحريات كانت أوسع مما هي عليه الآن، وأن من يدافع عن العقوبات على الحريات الفردية في القانون الجنائي إنما يدافع عن قوانين المستعمر الفرنسي، وفسر أن الصراع القائم بين ما هو عقيدي والحداثة ليس وليد اليوم وإنما هو صراع طبيعي بين نظام تقليدي وآخر حديث، ومثل لذلك برفض بعض الفقهاء سابقا للآلات التكنولوجية. ودعا إلى التوفيق بين “»النص والتاريخ«” من حيث ثبوت الأول وحركية الثاني، لأن الواقع يثبت أن النص متخلف عما تجاوزه المجتمع وبالتالي ضرورة التبييء والملاءمة. إن اعتماد قيم حقوق الإنسان لم يكن ترفا أو عملا نخبويا، يقول المناضل الحقوقي صلاح الوديع الآسفي، الذي أكد أن الموضوع يحتاج إلى جرأة سياسية وإلى الحديث الصريح ولا مجال فيه لسعي من أصحاب الإسلام السياسي لكسب الزبائن، ودعا إلى التخلص من السكيزوفرينيا واعتماد المرجعية الحقوقية التي يجب أن تحكم تصور الحريات الفردية على أساس أن الفرد هو صاحب القرار على نفسه والإقرار بامتلاكه لحياة خاصة دون إجبار مادام لا يؤذي الآخرين، وأشار المناضل الحقوقي إلى أن المجتمع قد تفوق على النخبة التي يمارس جزء منها النفاق والتناقض بين ما يمارس وما يدعي، كما ذكر بضمان دستور 2011 لتلك الحريات بتنصيصه الصريح عليها واعتماد تفوق الاتفاقيات الدولية على التشريع المحلي، بدءا من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948،” حق الفرد في الحياة والحرية…… إلخ”. الوديع: المجتمع يمارس الحرية الفردية دون انتظار رخصة وتساءل صاحب «رواية العريس» عن صلة المجتمع بالحريات الفردية في الحياة الخاصة واستنتج أن المجتمع يمارس دون انتظار رخصة، ومثل لذلك بالاستهلاك الكبير للخمور رغم تزايد الضرائب عليها واعتماد ميزانية الدولة على مواردها وتسجيل 800 حالة إجهاض سري و25 لقيطا في كل يوم، وبالعلاقات الرضائية التي يمارسها الإسلام السياسي التي سجلت عدة حالات منها مؤخرا. ودعا إلى نقاش هادئ في المواضيع المشارة مثل الممارسة في الدائرة الحميمية للأشخاص مادام أن الأمر لا يحدث أذى لطرف خارجي وبين بالغين وبدون عنف، وقد آن الأوان، يضيف المتدخل، لترك صيغة النفاق الاجتماعي. سرحان: يجب على القانون أن يوسع الحريات لا أن يقيدها على القانون أن يوسع الحريات التي ينص عليها الدستور لا أن يقيدها أو يحد منها، ذلك ما أرادت أن توضحه الحقوقية الأستاذة فاطنة سرحان، معرفة الحق بمصلحة ثابتة لمجموعة من الناس يحميها القانون بشكل يجعل الحرية كحقوق يضمنها الدستور وتشرعها القوانين والعهود الدولية، ثم ناقشت مسألة تجريم العلاقات خارج إطار الزواج وعقوبة الخيانة الزوجية أمام ظاهرة تقدم سن الزواج وبلوغه معدل 25 سنة للإناث و32 للذكور وكيفية المعاملة لمن لا يستطيعون الزواج، هل يلجؤون إلى ما لجأ إليه (المرشد والمرشدة) من حل، وقضية الإيقاف الإرادي للحمل أمام رمي الأجنة في المزابل كظاهرة أصبحت مهولة. الدكالي: الحرية تفترض شرطا هو أن نتحدث عنها بحرية بهذا قدم الدكتور محمد الدكالي، أستاذ التعليم العالي لمادة الفلسفة، مما يعني أننا سنختلف، ولكن سنسعى للاتفاق بالضرورة، فالناس في سالف العصور مدارس لا يجمعها جامع، اختلفوا حتى في نحو اللغة العربية، لكن بدون شجار. ومثل بمونتسكيو الذى حدد تلاقي الناس في التربية من طرف الآٌباء والأساتذة والأشياء، وهذه الأخيرة هي التي تقلب الأمور، ومثل على ذلك بالهاتف الذي فعل – يقول الفيلسوف – غزوات لم تفعلها غزوات الماضي والقادم أكثر نجاعة، مؤكدا أن الهوية لا تضيع أبدا كالدين واللغة، فالرأسمالية لم تلغها والتخوفات لا محل لها وقد تتقارب الآراء وتبتعد لكن الجزاء لا يترتب إلا إذا كانت الحرية ثابتة. ومن باب الحرية، يقول أستاذ الفلسفة، هناك الحرية العامة التي يمارسها الإنسان، فالزوجان يمارسان حرية عامة، فهي شرعية عمومية لها ممارسات فردية، وبالتالي فالتشريع يجب أن يكون عادلا لكي يكون قانونا ومثل لذلك بالقول بأن التحرش الجنسي لا يكون إلا إذا اقٍترن بالإرهاق والعنف والتهديد والإغراء الكاذب، وخلص إلى أن على الإنسان أن يسائل نفسه عن ممارسته ومدى مطابقتها لمعتقداته وأن يحكم ضميره في مسألة قذف أطفال في الشارع أو رمي رضع في مزابل وعلاقتها بالإيقاف الإرادي للحمل، وبالتالي ضرورة الاتفاق بين العقلاء بعد النقاش الهادئ بالاحتكام لمنطق العقل. العلوي: حاجة المتزوجين والعزاب للتربية الجنسية استنتاج للأستاذة نزهة العلوي، بعد أن نوهت بقيام المنتدى بمناقشة الحريات الفردية وتساءلت عن أي »مجتمع نريد،« مجتمع القرن 21 أو مجتمع القرن الهجري؟ فإذا كان المغرب قد اختار الديموقراطية ودولة الحق والقانون والمنظومة الحقوقية الكونية، فماذا طبق منها بعد 8 سنوات، وبعد التصديق على العهد الدولي لحرية المعتقد وحرية ممارسة الشؤون الدينية، فلايزال القانون يجرم ما يسمى بزعزعة عقيدة مسلم على سبيل المثال، ولايزال الإجهاض السري والتقليدي يشكل خطرا على جسد وحياة النساء، ومن ثم ضرورة تقنين الإجهاض الآمن، وخاصة الذي يهدد حياة الحامل أو الناتج عن اغتصاب أو زنى المحارم، كما أشارت إلى التناقض الحاصل بين مدونة الأسرة والقانون الجنائي ومسألة إثبات النسب للمولود عن علاقة رضائية بين رشداء، وشرعنة العلاقات الرضائية كمطلب أصبح يطرح بإلحاح. بوزلافة: الحاجة إلى مراجعة شمولية للقانون الجنائي هو ما أكد عليه الدكتور محمد بوزلافة، عميد كلية الحقوق بفاس في مداخلته، مثمنا النقاش الدائر في الموضوع رغم السجالات العنيفة لكنه ندد بما تتخللها أحيانا من تهديدات ولغة عنف، مشيرا إلى أن الأمر يتعلق بقانون وضعي لا علاقة له بالمرجعية الدينية التي تعتمد »القصاص والحدود والتعزير، وهو أداة ووسيلة. وقد لاحظ خبير القانون الجنائي أن هذا الأخير مرقع شكلا ومضمونا، وتعديل بنائه الهندسي بات مطروحا ولغته اتهامية ولابد من الاتفاق على المنطلق، يقول خبير القانون الجنائي، فالحرية الفردية أساسية وجوهرية، هناك تجمد في القوانين وهناك أزمة لمنطومة العقاب، حيث تطرح إشكالية العود وإشكالية الجرائم الجديدة كالإلكترونية وشغب الملاعب،… وأصبح التساؤل يطرح نفسه حول دور القانون الجنائي في إقرار التحولات التي تؤشر إلى أننا نعيش مرحلة انتقالية يجب أن تصل إلى نتائج من النقاش حولها لنصل إلى تشريع يواكب تقدم المجتمع، والبت في مسائل مثل (الإفطار في رمضان علنا، الإعدام، الإجهاض، العنف البدني)، ومثل لمسألة الإفطار العلني في رمضان وعدم وجودها في أية دولة عربية ماعدا المغرب، وهي قضية تجريم لشيء غير مجرم وخلص فقيه القانون الجنائي إلى السؤال حول الهرمية في القانون بحيث لا يمكن القبول بمنظومة جنائية متراجعة عن الوثيقة الدستورية. بنعبد القادر: الحريات من صميم النظام العام هو ما سطر عليه المناضل الحقوقي وزير العدل محمد بن عبد القادر مؤكدا على تجاوز التلكؤ في تنزيل الإصلاح الشامل لمنظومة العدالة تفعيلا لأحكام الدستور في مجال الحريات، مشيرا إلى ما عبر عنه ب »”ضيق صدر المجتمع من الانتظار” وما يعكسه النقاش الذي يستأثر باهتمام كبير، الذي يختزله البعض خطأ في تقابل ما بين محافظين وإباحيين، وهو أمر، يقول الأستاذ محمد بن عبد القادر، فيه تبسيط وكثير من المزايدات، باسطا السؤال الفلسفي التالي: باسم ماذا نمارس أو نمنع حرية؟ في مجالات ثلاثة هي: الحريات والنظام العام والسياسة الجنائية. فمفهوم النظام العام يتغير حسب الزمان والمكان ولا يختزل في المفهوم الديني، فزواج القاصرات شيء عادي في اليمن والاستعباد كان عاديا منذ العصر السعدي، فمنع المتاجرة في البشر الآن لا علاقة له بالدين الذي لا يتغير مع تغيير النظام العام. متسائلا هل السياسة الجنائية تبعا لذلك تتطور بتطور وتغير مفهوم الإنسان من العقاب البدني إلى السجني، إلى الادماجي والإصلاحي؟ ودعا الوزير إلى تجاوز ما أسماه بالغربة القاتلة التي يعيشها القانون الجنائي على روح الدستور وعلى المجتمع، وعليه فالمطروح هو ملاءمته مع الدستور قصد حماية الحريات العامة بالمعاقبة على التعذيب ودعم المجهودات الدولية في محاربة الجريمة المنظمة والإرهاب وإقرار تناسبية القوانين بدل الشعبوية الجنائية المتعطشة للأمن قبل تحسين الأوضاع، وهذه العقيدة الليبيرالية التي تبنتها مجتمعات عدة لم تؤد إلا إلى تضاعف نسب الجريمة بدل اتباع سياسة لحل المشاكل المتعلقة بالهشاشة وتوفير الشغل والإدماج المجالي والاجتماعي لتجاوز تفكك البنيات وانهيار القيم »وابتذال البشر«، فالتشريع يجب أن يتعامل مع هذه الأوضاع مذكرا بما اقتضاه الدستور من فصله الأول من ثوابت تؤطر النظام العام، تتمثل في الدين الإسلامي السمح والوحدة متعددة الروافد، والملكية الدستورية والاختيار الديموقراطي.