كانت المفاهيم ولا تزال محطّ نقاش بين أهل الحكمة وأهل الشريعة، قبل أن تتعدى هذين التيارين إلى العلم الحديث بمجاليه الطبيعي والإنساني- الاجتماعي. ومن بين هذه المفاهيم التي لقيت اهتماما كبيرا؛ المفاهيم المجردة: العدالة، الحرية، الكرامة، الديموقراطية…إلخ؛ إذ تعد الحرية أكثر المفاهيم ارتباطا بالإنسان كفرد، وفي علاقته بالجماعة أو المجتمع اللذين ينتمي إليهما، حيث ألفت حولها مؤلفات عديدة، قديمة وحديثة، فلسفية ودينية. في هذا السياق يندرج مؤلف» مفهوم الحرية» للروائي والمفكر المغربي: عبد الله العروي، الذي حاول، من خلال مؤلفه هذا، مناقشة مجموعة من القضايا التي تدور حول مفهوم الحرية والتحرر، والمفاهيم التي تندرج تحت لوائها. على أن هناك أمرا ينبغي توضيحه قبل بسط القول في مؤلف العروي، وهو أن عملية الحفر في التراث، ومن ثم في المفاهيم، قد أخذت تنتشر في جل الأبحاث الحديثة التي تهتم بمفهوم من المفاهيم، وهذه العملية، أقصد الحفر، لم تكن وقفا على الباحثين والفلاسفة الغربيين وحدهم، وإنما نجد لها مثيلا واضحا ومجسدا في أبحاثنا العربية، قديمة كانت أو حديثة. ومن ثم، نشير إلى أن المفكر المغربي قام بالحفر في مفهوم الحرية في تراثنا الديني بشتى مجالاته وفروعه، وفي الأبحاث الاجتماعية والاقتصادية والفلسفية داخل العالم العربي، فضلا عن الانفتاح على مختلِف النظريات الفلسفية الغربية حول هذا المفهوم. لعل من أهم القضايا التي هدف المؤلف إلى مناقشتها، هي علاقة المفكرين العرب بمفهوم الحرية أولا، والحرية كشعار، وككلمة مجسدة في أرض الواقع ثانيا. فالمؤلف لم يسر في تجاه المستشرقين، حتى وإن اتفق معهم في بعض الأسئلة، إلا أنه لا يتفق معهم في النتائج والخلاصات التي توصلوا إليها حول الحرية في العالم العربي. أضف إلى ذلك، أن الأسئلة التي ينبغي طرحها في هذا السياق هي كالتالي: – هل عرف المفكرون العرب، القدماء والمحدثون، مفهوم الحرية، أم أنهم جسدوها ككلمة دون أن يتمثلوها كمفهوم؟ ما تجليات مفهوم الحرية في التراث الديني العربي الإسلامي؟ هل اكتشف المفكرون العرب المحدثون بالحفر في التراث الديني والأدبي مفهوم الحرية، أم أنهم علقوا آمالهم على الأبحاث والنتائج الغربية؟ أين يتجلى اهتمام الغربيين بالحرية؟ ما نظريات الحرية؟ وهل يمكننا الحديث عن نظرية للحرية في العالم العربي؟ كيف ساعد تطور العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية الإنسانية على تلقي، ومحاولة بلورة، المفكرين العرب لمفهوم الحرية؟ على أن هذه الأسئلة هي قليل من الأسئلة الكثيرة التي يمكن أن تطرح في هذا الصدد، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل عن المكانة الكبيرة التي اكتسحها مفهوم الحرية داخل العلوم القديمة والعلم الحديث. من خلال قراءتنا للكتاب، يمكن أن نلخص قضاياه في ثلاث نقاط أساس: 1- بحث المؤلف مفهوم الحرية تحت عنوان: الحرية الطوباوية، ما يجعلنا نتساءل: هل الحرية منعدمة في التراث الديني العربي الإسلامي، لتغدو حلما سرابا وحسب، أم أنهم عرفوا الحرية ومارسوها، ككلمة مجسدة فقط؟ إن الحديث عن الحرية كمفهوم طوباوي، لا يعني أن العرب لم يعرفوا مفهوم الحرية، وإنما نجد المؤلف يبحث عن دلالات المفهوم، اللغوية والاصطلاحية، داخل الساحة الدينية؛ إذ بحث الحرية في الفقه الإسلامي أولا، ثم في الأخلاق ثانيا. لعل هذا الحفر في الفقه، يقودنا إلى الحديث عن الحرية في الإسلام، وكيف أن الإسلام يمثل الحرية نفسها، وهذه الأخيرة هي الإسلام. فالدعوة الإسلامية لم تكن خالية من شعار الحرية والتحرر، وإنما جاء الإسلام ليحرر الإنسانية من عبادة الأصنام والأوثان، لتكون العبادة لله وحده، إذ انه هو القمين الوحيد لجعل الإنسان حرا. أما الحرية في الأخلاق، فإنها مرتبطة، أيما ارتباط، بقانون أكبر من الفرد، رغم أن هذا الأخير قد أسهم في تشكيله، إلا أن حريته تكاد ترتبط بمدى الأخلاق التي يتمتع بها في ظل وجوده داخل الجماعة كتنظيم، وهذا ما يمثله مفهوم الدولة، وكيف تنظر إلى الفرد. 2- إن البحث عن الحرية في الفكر العربي، يمكن أن يتسع ليكتسي مجالاتٍ متعددةً، ومن ثم، يأتي البحث عن الحرية في مرادفاتها: في البداوة؛ من خلال ما يتمتع به البدوي من قوة وحرية غير مرتبطة بجهاز تنظيمي. في العشيرة، على اعتبار أن هذه الأخيرة تضمن للفرد الحرية والحماية من الدولة. وفي التقوى، وهذه ذات بعد ديني وجداني، وأخيرا في التصوف؛ إذ إن هذا الأخير يطلعنا على تجليات الاهتمام بالفرد داخل العالم الإسلامي، فكلما وجد الفرد أن حريته مرتبطة بما هو خارجي عنه (الدولة)، فرّ هاربا بذاته نحو اعتناق حرية خالصة مرتبطة بالملكوت الأعلى. تبعا لذلك، يمكن القول إن اتساع الدولة ونموها، ينتج عنه تضييق في حرية الفرد. 3- عرفت الحرية نقاشا كبيرا بين الحرية الليبرالية والفلسفة: الهيغلية، والماركسية الجدلية والوجودية. إذ بين المؤلف الاختلافات بين هذه التيارات الفلسفية، والتناقضات التي يفرزها مفهوم الحرية عند تطبيقه، ومن ثم، الدعوة إلى نظرية جذرية للحرية، ليخلص المؤلف إلى أن الحرية مفهوم زئبقي كلما تم التنظير له إلا واختفى تطبيقا، والعكس صحيح، من جهة، ومن جهة أخرى، بين كيف تعلقت آمال المفكرين العرب المحدثين على تأسيس نظرية للحرية. ومن ثم، أشار المؤلف الى أن دعوة المفكرين العرب للحرية، ولنظرية في الحرية، لم تكن انبهارا بما حققته الفلسفات والأبحاث الغربية في هذا المجال، وإنما هي حاجة الفرد العربي إلى الحرية كشعار أولا، ثم بعد ذلك كهدف منشود أعمق وأوسع، من خلال محاولة تأصيل نظرية لها. كما أن البحث في مفهوم الحرية في العالم العربي، يقود إلى البحث عن تمظهراته داخل علم الاقتصاد، وعلم الاجتماع وعلم السياسة، وعلم النفس، من أجل البحث عن الفرد الحر داخل هذه المجالات الاجتماعية الإنسانية، وبخاصة، إذا استحضرنا أن تطورها مرتبط بتحرر الفرد؛ كمنتج، وكمشارك فعال بآرائه في الشأن العام، وكشخصية تنموية تهدف إلى الرقي والتغيير في دائرة مجتمعها في علاقته بالمجتمعات الأخرى، وفي دولتها في علاقتها بباقي دول العالم. خلاصة القول إن مفهوم الحرية عرف اهتماما كبيرا من حيث دراستُه داخل المجال الاجتماعي، وداخل المجال الفلسفي، وكذا، من داخل بحث الحرية كوجدان داخلي للفرد، يتوصل إليه الفرد ذاته، وكحق خارجي يضمنه جهاز تنظيمي: دولة، أو جماعة، أو أسرة، أو عشيرة، أو حزب، أو مؤسسة من المؤسسات التي تربط حرية الفرد بمصالحها العامة. ومن ثم، فإن المؤلف لم يقف عند مستوى وصف وتشخيص المشكلة فحسب، بل إنه أسهم تنظيرا في مفهوم الحرية داخل العالم العربي، ولم يقف عند الحاضر وكفى، وإنما تحدث عما ينبغي أن يكون مستقبلا، منفيا عن العالم العربي الآراء المغرية المغلوطة حول انعدام الحرية فيه. تبعا لذلك، نسوق نظرتنا للحرية في التالي: لو عمق المؤلف الحديث عن المجالات التي يجد ويحقق فيها الفرد حريته داخل العالم العربي؛ على اعتبار أن الفرد يربط حريته بقوته، وما مدى تحكمه في الأشخاص الآخرين، أقاربه أو أصدقائه، أو أشخاص يقعون تحت سلطته، لوجد أنه يصنع حريته ويمارسها داخل المجالات التي تقع تحت يده ومُلْكِهِ. فالزوج مثلا، يجد حريته ويجسدها حينما يمارس السلطة داخل أسرته، والحاكم يجد حريته حينما يخضع الجميع لأوامره. يبدو لنا أن الحديث عن الحرية في المجال السياسي، من داخل العالم العربي، لا يمكن فصله عن السياسة كمجال لتصارع الأيديولوجيات والآراء المتضاربة حول كرسي الرئاسة أو الحكم.ومن ثم، فلئن نحن أردنا الحديث عن حرية الفرد داخل المجال السياسي، ينبغي علينا، بداية وقبل كلّ شيء، أن نحرر مجال السياسة من المجال الديني، وهذا الأخير من السياسة، بل ينبغي علينا أن نفكك مركب السياسة الدينية، وأن ندرسها دراسةً متريثةً، لنضع الإصبع على تقاطعات السياسي مع الديني، ومن ثم نموقع الفرد وحريته بينهما، فما دام الدين وسيلة في يد السياسة، فإننا لا يمكن أن نتحدث عن تحرر الفرد سياسيا واجتماعيا هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يمكن القول إن حرية الفرد داخل مجتمعه مرتبطة بتحرره، أولا، من شبح الأجداد ومن القوانين والمنظومة الفكرية التقليدية، لذلك، فلا حرية بدون الثورة على الأسس التقليدية في مجال الدين، والفكر والثقافة. إن حرية الفرد مرتبطة بمدى وعيه بهذا المفهوم فكريا قبل أن يكون ممارسة، وإذا لم تهتم الأجهزة التنظيمية بترسيخ الحرية في مجالاتها، فإنه لا يمكن للفرد أن يتحرر، سواء أكان التحرر من ربقة الماضي أم من تبعية الآخر والخضوع له.