لقي مفهوم الدولة إلى جانب مفاهيمَ أخرى أهمية كبيرة، منذ أن ظهر كمفهوم ناتج عن تطورات الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية للشعوب والحضارات، قديمة كانت أو حديثةً. في هذا الصدد يندرج كتاب "مفهوم الدولة" للمفكر المغربي: عبد الله العروي، الصادر عن المركز الثقافي العربي، في طبعته العاشرة، سنة 2014؛ إذ يعد هذا المؤلَّف من الكتب المهمة التي ألفت حول مفهوم الدولة في العالم العربي الإسلامي حديثا، حيث إن صاحبه حاول وضع الإصبع والقبض على مفهوم الدولة، باعتباره مفهوما زئبقيا ومتفرعا، يحتوي مفاهيمَ فرعية أخرى تشكل جسده. عموما، قد تناول الباحث هذا المفهوم بالدرس والتحليل، انطلاقا من مناقشة الدراسات والنظريات والمذاهب الغربية التي تناولت هذا المفهوم؛ إذ تركز اهتمامه على النظرية الليبرالية، والنظرية الهيغلية المثالية، فالماركسية وصولا إلى الوجودية. ولعل ما يميز هذه النقطة أن المؤلف لم يتعامل مع هذه النظريات والمذاهب الغربية بالوصف والتشخيص وحسب، وإنما حاول مناقشتها على مستوى التصور وعلى مستوى الواقع، ومن ثمة، نقدها ومحاولة الخروج باستنتاجات واضحة بينة، ومحاولة تبين نظرة كلّ مذهب للدولة. فهناك من يرى في الدولة أداة وآلية لخدمة الفرد في حياته الدنيوية، وهناك من يرى فيها غاية لتهذيب سلوك الفرد وجعله إنسانا، وهناك من يربطها بالمجال الاقتصادي، وهناك من يرى فيها جهاز قمع وردع للطبيعة الحيوانية في الإنسان، إلى جانب وجهات نظرية أخرى للدولة، تناولها المؤلف كلها بالدرس والتحليل والنقد. على أن تحليل المؤلف لمفهوم الدولة تركز حول جهاز مفاهيمي: الطوبى، العقلانية والعقلنة، المثالية، الواقعية، الاشتراكية، الوجودية، الفيبرية…إلخ، والمتأمل في هذه المفاهيم سيتوصل إلى أن المؤلف انطلق من الجذور الغربية القديمة لمفهوم الدولة، إلى أن يصل إلى ما يوجد عليه المفهوم في الوضع الحالي. ثم بعد ذلك حاول مناقشة مكونات جهاز الدولة (الجيش، الاقتصاد، التعليم، البيروقراطية…إلخ)، ومن ثم إلى هدف الدولة. لقد قام المؤلف بتحليل الدولة كمفهوم، وكجهاز، وكهدف. إن ما يعد جديرا بالاهتمام في هذه الدراسة أن المؤلف، نهج فعل الحفر في التراث عن جذور المفاهيم وكيف تتطور، سواء في الغرب أو في العالم العربي الإسلامي. هذا، إلى جانب دراسة المؤلف لمفهوم الدولة في العالم العربي الإسلامي، منطلقا في ذلك من آراء ابن خلدون في هذا الصدد، لاعتبارات عديدة، من بينها: أن ابن خلدون يعد رائد علم العمران البشري، البدوي والحضري، كما أنه قد نظر في مفهوم الحكم وأشكاله؛ إذ قسّم الحكم إلى حكم طبيعي، وحكم سياسي شرعي، وحكم سياسي عقلي. ومن خلال آراء ابن خلدون، ناقش المؤلف هذه الأنواع، واصفا ومحللا، وناقدا، ليرصد بعد ذلك نظرة الفقيه والمؤرخ والفيلسوف إلى الحكم: الحكم الدهري، الشرعي (الخلافة)، السياسي العقلي. كما أن هذه المناقشة أطرها جهاز مفاهمي: الطوبى، السلطنة…إلخ. على أن ثمة إشكاليةً كبيرةً، حاول المؤلف الإحاطة بأهم جوانبها في شموليتها، وهي علاقة الوجدان الفردي بالدولة؟ الحرية بالدولة؟ الشرع بالدولة؟ السلطان بالشرع؟ وغيرها من التساؤلات الكثيرة. ونافل القول، إن الكتاب تضمن مجموعة القضايا والإشكالات التي يطرحها مفهوم الدولة، على المستوى الفلسفي، والواقع الاجتماعي والسياسي، والثقافي والديني. لم يكن المؤلف بعيدا عن هموم الأمة العربية الإسلامية، وعن بيئته ومجتمعه اللذين عاش فيهما، لذلك، نجد في الكتاب إسهابا في مناقشة مفهوم الدولة في العالم العربي الإسلامي. على أن المؤلف، كعادته، لم يبق حبيسا عند مستوى وصف وتشخيص الواقع كما هو، ولم يظل حبيس الحنين إلى الماضي، كما هي الحال عند الفقهاء في طوبى الخلافة، وإنما أسهم في دراسته تنظيرا من حيثُ طموحُه وتطلّعُه الدائمان إلى تأصيل نظرية الدولة في المجتمعات العربية الإسلامية، وتطبيقا من حيثُ تطبيقُه لعدة مفاهيم غربية لتحليل مفهوم الدولة في العالم العربي الإسلامي، واللجوء إلى المقارنة بين العالمين، العربي الإسلامي ونظيره الغربي، في أحيان كثيرة، كمقارنته بين ابن خلدون وماكس فيبر، وبين ابن خلدون وميكيافلي، مع مراعاة خصوصيات كل واحد منهما؛ الدينية، والفكرية، والمرجعيات والواقع اللذين ينطلق منهما كلّ من المفكرين أثناء تنظيره لمفهوم الدولة. على أن المفكر في عالم وبيئة مّا، لا ينبغي أن يكون بعيدا عن البيئة التي ترعرع فيها المفهوم، فكما أن المستشرق الغريب عن العالم العربي، مثلا، لا يحق له أن ينظر في العقل العربي ومكوّناته، حسب رأي الجابري، فإن المفكر المغربي، عبد الله العروي، لم يكن بعيدا عن بيئته، كما أشرنا سلفا، بقدر ما كان يتحدث عن مفهوم الدولة، قديما وحديثا، عن العالم العربي الإسلامي من داخل المغرب العربي، وهذا، يبدو جليا عند قراءتنا للفصول الأخيرة من الكتاب. هذا شيء ضروري تستدعيه الحاجة المجتماعية الراهنة والملحة. فبعد رحلة المفكر الطويلة والعميقة حول تحليل مفهوم الدولة وجهازه وهدفه، يتساءل عن إمكانية وجود نظرية دولة في العالم العربي الإسلامي؟ ونحن بدورنا نتساءل: هل كان المؤلف يضع ترسانةً ولبنةً أوليتين لتأسيس نظرية دولة للمجتمعات العربية الإسلامية عامة، وللمجتمع المغربي على وجه الخصوص؟ أم أن دراسته هذه، رغم أهميتها الفكرية، لا تعدو أن تقف عند الحديث عن الكائن واستشراف الممكن؟ هل المؤلف يطلعنا على واقع الدولة، قديما وحديثا، في المجتمعات العربية الإسلامية وغير الإسلامية، ويخبرنا عما يجب أن يكون مستقبلا، أم أنه يسعى إلى فضّ بكرة البحث في مفهوم الدولة، تنظيرا وتطبيقا؟ هل التنظير لنظرية دولة في العالم العربي، يوجبُ الاغترافَ من المفاهيم والمذاهب والنظريات الغربية، أم انه ينبغي له أن ينطلق من واقع المفكر والباحث في العالم العربي؟ على أن هناك معضلةً ختم بها المؤلف دراسته، وهي كيفية الجمع بين الدولة والحرية الفردية والعقلانية في علاقتها، المفاهيم الثلاثة، بالفرد العربي، إلى جانب نظرة الفرد العربي إلى الدولة، في القديم وفي العصر الحديث؟ هل استطاعت الدولة الحديثة، بعدما عرفته من تنظيمات وتطورات داخلية وخارجية، في جهازها، أن تلبي للفرد العربي جميعَ حاجاته الدنيوية والأخروية؟ وختاما، ينبغي التنبيه إلى أن هذا التعليقَ المجحفَ، لم يحط إحاطة شاملةً بكل القضايا والإشكالات اللتين ناقشهما المؤلف في كتابه هذا، وإنما هي محاولة، من بين محاولات عدة، للتعريف بالكتاب وحسب، إلى جانب محاولة عرض بعض قضاياه من جوانبها المختلفة.