هي سنة مرت على رحيل المعلمة الكبيرة والهامة العلمية الكبيرة الفقيد سي محمد جسوس، ليترك الكثير من العمل المنجز ميدانيا وسياسيا وثقافيا وجمعويا قائما، وهو ما يذكرنا بما قدمه لبلاده ولقناعاته ولحزبه ولمناضليه وطلبته. كل الشهادات التي تقال في حقه تبدو أقل بكثير من الظل الذي يتبعه وهو يسير في طريق العلم والمعرفة والنضال، فقد قام محمد جسوس إلى جانب العمل الجماعي والسياسي والتعليمي والبحث، بجهود جبارة في بلورة ميثاق التربية والتكوين. فالأستاذ جسوس يعتبر بمثابة علامة فارقة في تاريخ السوسيولوجيا المغربية، وذلك بالنظر إلى الدور المتميز الذي لعبه منذ نهاية ستينيات القرن الماضي في تكوين أجيال عديدة من السوسيولوجيين، وبصفة خاصة في انفتاح الجامعة المغربية الناشئة على مقاربات نظرية وممارسات ميدانية جديدة، سمحت بتأسيس خطاب سوسيولوجي متميز بعقلانيته ونزعته النقدية من جهة، وبحرصه على التقيد بالاشتغال في حدود العلم ووفق ضوابط ومقتضيات كانت بدورها في طور التأسيس، ساهم محمد جسوس بحظ وافر في تقعيدها وترسيخها. وقد حصل الأستاذ محمد جسوس الذي ولد بفاس سنة 1938، على شهادة الميتريز في علم الاجتماع من جامعة لافال بكندا سنة 1960، كما حصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة برنستون بالولايات المتحدة سنة 1968، والتحق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية كأستاذ لعلم الاجتماع سنة 1969 ، وعين كأستاذ مدى الحياة لعلم الاجتماع بجامعة محمد الخامس سنة 2004. ومن بين أعمال الباحث جسوس هناك: رهانات الفكر السوسيولوجي بالمغرب، طروحات حول المسألة الاجتماعية، طروحات حول الثقافة والتربية والتعليم، فضلا عن عمل قيد النشر حول طبيعة ومآل المجتمع المغربي المعاصر. وقد جمع جسوس، بشهادة معارفه ومجايليه وطلبته وأصدقائه، بين الصرامة الأخلاقية وبين واقعية العمل الإنساني. جمع بين حرارة الميدان وطلاوة الأفكار. وفي مساره العلمي، جاء إلى بلاده لكي يمتحن أقصى ما وصلت إليه البشرية من علوم اجتماع. ربما يكون المجتمع من اختراعه هو الرائد في ميدان السوسيولوجيا، كما كان مفهوم الإنسان من اختراع القرن 19. لهذا، كان من الأوائل الذين انتبهوا إلى الظاهرة الإسلاموية، ليس فقط في سياق الثورة الإيرانية سنة 1978، كما فعل فوكو في فرنسا، بل لأنه أولا كان قد تشرب من ماكس فيبر مقاربة مغايرة للفكرة الماركسية لدى اليسار العربي والمغربي على وجه الخصوص. لقد كان جسوس يدرك دور الدين في صناعة الدولة المغربية - منذ المؤتمر الاستثنائي - ودوره في بناء الشخصية الوطنية، وكان يعرف بفعل التاريخ وعلم الاجتماع، قدرة «الطرقية الجديدة» على استعماله في التحجير على الفكر وتسويغ الاستبداد الثقافي وإعادة إنتاج المنظومات المتلاشية، من خلال الاستعمال السياسوي للدين. جسوس من الأوائل الذين نبهونا إلى ضرورة دخول المتن الديني، حتى لا يملأه ...الفراغ! ومن الأوائل الذين نزعوا عن الثقافة عمائم التعالم ومسحات التخشب، لكي تسيح في مياه الحياة العادية للناس، أو تتكون في أمثالهم الشعبية والقصص الخرافية التي تقيم المعنى. جسوس هو النموذج الأخلاقي للعالم وللسياسي .. الدي تخافه السلطة، لأنه يعرف ميكانيكا التسلط، يفكك الطاقم الايديولوجي الذي تغص به المجتمعات. وحسنا فعل عدد من الباحثين عندما أصدروا كتابا تكريميا تحت عنوان :«محمد جسوس، مسار عالم اجتماع». وهو كتاب يشتمل على أشغال الجلسة التكريمية للدكتور محمد جسوس ضمن فعاليات المنتدى الوطني الأول للفكر السوسيولوجي بمدينة تطوان في 17 دجنبر 2009، الذي نظمته «جمعية أصدقاء السوسيولوجيا بتطوان». الكتاب عبارة عن كلمات وشهادات ودراسات تناولتْ بالتحليل والرّصْد للمسار الفكري والعملي والتدريسي للأستاذ جسوس. حيث تمّ التركيز على كوْن الاشتغال على بدايات الفكر السوسيولوجي بالمغرب، الذي يعتبر محمد جسوس من دعائمه، ليس ترفا فكريا، أو محاولة خفية لتمجيد الذات وتقديس الماضي، كما أنها ليست مراوغة لتجاوز الحاضر وتفادي الاصطدام معه ومع إشكالاته العصية، إن البحث هنا هو ضرورة ملحة بل وإجبارية، وفوق ذلك هو رسالة شرف علمي، عالقة على كل باحث سوسيولوجي. ومن هنا تأتي إعادة الاعتبار لمحمد جسوس، ولدوره الريادي، ذلك أنه نموذج للمثقف المضطلع بشروط وأسباب الأزمة وعمق الاختلالات التي تعيشها الأنساق والهياكل والمؤسسات ونموذجا للسوسيولجي المدرك لحدود مشروعه العلمي ودوره في حقل الاشتغال والتخصص. فالأستاذ محمد جسوس، وفق هذا السياق، علامة على تحوّل جذري في علاقتنا بالفكر السوسيولوجي عامة، وللأشخاص الممثلين له بصفة خاصة.