الفنان التشكيلي المغربي محمد سعود لا يحتاج إلى تقديم،له حضور وازن،إسمه مدرج في العديد من الموسوعات العالمية،كما أن لوحاته وضعت على أكثر من مائتي كتاب من دور النشر في المغرب وفي العديد من الدول الأجنبية. لقد حققت أعماله انتشارا واسعا،بصمت على الساحة الفنية، ونالت إعجاب العديد من النقاد والأدباء بفضل أسلوبها الذي يقوم على الربط بين التجسيد والتجريد، وثراء اللون بمنحه أبعادا دلالية وبصرية،هذا الربط يمكن أن نستشفه في لوحته راقصة الباليه المبتهجة وهي لوحة يمتزج فيها الرمل بالأكريليك ليجعل من القماش فضاء تنسجم فيه المادتان،ويصبح له قابلية لاحتضان زخم من الألوان المتنوعة،أبى الفنان محمد سعود إلا ان تحضر بكثافة وتصنع كتلة قوية في هذا العمل بالذات، وتأخذ حيزا مهما بين مساحاته،تساوي بين الخلفية والأمامية دون أن تفرض سلطتها على المحور الرئيسي وتطمسه،وقد تم توزيعها بإتزان لتجسد الحركات الفنية لراقصة تنتصب بطريقة عمودية،تتخذ شكلا مستقيما في الوسط،لا يفقد توازنه،يبقى طبعا ثابتا في مكانه رغم انه يبدو في حركة تجعله يتغير باستمرارولا يحتفظ بشكله الأصلي، يظهر للمتلقي وكأنه يخرج من أعماق ألوان صارخة،تخلق دينامية لاتنتهي بتوهجها، ولتعميق هذا التوهج شكلها الفنان بالرمل لتبدو أكثر نتوءا وكأنه يزاوج بين النحت والرسم ويجعل هذه المادة في صلب العملية الابداعية لأن الرمل أكثر حركة وانسيابا كالراقصة تماما. إن هذا الفنان الحداثي المتشبع بقيم الفن تنظيرا وممارسة،يرسم اللحظة الراهنة، يرصد ويراقب كل صغيرة وكبيرة،وينتبه للجزئيات التي تملأ الفراغات، وتفرض وجودها بايحاءاتها المختلفة،سيما وأنه حرص على عملية الإدماج التي تجعل الرسومات تنصهر داخل ألوان تم توظيفها وفق أبعادها الدلالية،ومن منظور فيزيائي من خلال توزيع النور والظل لكي لا تكون اللوحة سطحية،خالية من أي بعد جمالي،وهو المعروف عنه أنه ينطلق من تراثنا الثقافي الذي يولي أهمية كبرى للون،يستمده من البيوت والقصور القديمة المزينة بالفسيفساء والمقرنصات ،ونقوش على الجص والخشب. رغم هيمنة التجريد على هذه اللوحة،فهي لا تقطع صلتها بالعالم وخاصة الإنسان الذي أخذ مكانا مهما،واستحوذ على العناصر الاخرى من خلال راقصة تبدو منهمكة في حركات رشيقة كطائر البجعة،المعروف بريشه الخفيف والمكسو بألوان مختلفة ومتجانسة،تثير متعة بصرية وتصنع البهجة، ينفث ريشه الابيض على جسد الراقصة ليصبغه بالرقة،ويبسط جناحيه ملامسا ثوبها الاحمر القاني ليزيح عنه الصبغة الدموية المشينة،مانحا إياها ألق الحياة،ويلهمها في لحظة انتشاء رقصة تلقائية على إيقاع شلال يهبط من الأعلى الى الاسفل ويرش بقوة انفجاره الجوانب كلها،دون إغفال تكسير رتابة الألوان الحارة للحد من هيمنتها على اللوحة،مع توزيعها بطريقة تخلق الا نسجام داخل فضاء يحتضن نجمة لا تأبه بما يحيط بها،سيما وأنها ترقص لذاتها،وليس لغيرها، اعتزازا بأنوثتها،ولاتبالي بنظرات جمهور تستحضره في مخيلتها دون أثر له في اللوحة،قد يبدو هذا الخيال على شكل أطياف بعيدة داخل فضاء صغير في منأى عن الركح، ولذلك لا تبدو هيأتها واضحة للعيان، فهي تعبر بجسدها عما يخالجها من شعور في لحظة يغيب فيها اليأس،والانكسار ويحظر فيها التفاؤل والأمل، والاستمتاع ببهجة الحياة، مما يفسر حضور لون أصفر منحصر فقط في زاويتين صغيرتين،منفصلتين عن بعضهما،لكن يخرج قويا من عمق الحواشي ليطمس الظلمةبفعل إشعاعه المستوحى من الشمس. فهذه اللوحة بمعطياتها المتجددة تكشف عن تجربة ثرية وعميقة للفنان،جعلته يقوم بترويض الألوان بسهولة داخل فضاء لوحة تمزج بين التجريد والتشخيص، تظهر غير منكمشة على ذاتها بشكل تصرف النظر،بل هي عبارة عن وضعية تخاطب الرؤية الذهنية والبصرية ،وتدعو للانخراط في رحلة عبرأجواء لونية أسقطت في مساحات معينةومناسبة،أرادها المبدع أن تكون متباين لتخرج العنصر الرئيسي من العتمة،هي نابعة طبعا من عالمنا ولكنها تأخذ صبغة الأحلام بفعل ألوانها المشكلة بحس فنيي احترافي،تدفع بالمتلقي أن يخلق حوارا ممتدا لاحدود له مع لوحة تنضح بإفرازات لونية، ترسم بريقا يمتد مع الأفق، ويصنع الدهشة البصرية بفعل الصدمات الجمالية،وتدعوه لإعادة تشكيل ذلك الشلال المتدفق من بين الألوان بحثا عن مبدع ينزوي في ركن من أركانها،حاضر بتلقائيته التي تذهب بعيدا في الإتقان الفني والعمق الأنساني،وتغوص في كينونته.