لانتخابات اليونان ؛ برامجها وشعاراتها وحملتها الانتخابية ونتائجها؛ لها أكثر من درس على أكثر من صعيد . لقد شدت انتباه العالم لرهاناتها من جهة وللوضعية الاقتصادية والاجتماعية لهذا البلد الاوروبي الذي وجد نفسه في نهاية العقد الماضي مثقلا بديون لا يتحملها ظهره الاقتصادي، ولايطيقها قلبه المالي. وحتى عمليات «الأمصال» التي تم ضخها في جسده المنهك لم تسعفه وصفاتها على العلاج من أمراض التضخم والمديونية، وإنقاذ بلد أفلاطون وأرسطو من الإفلاس. أبرز دروس انتخابات اليونان المبكرة أنها حملت إلى رئاسة الحكومة زعيم حزب جديد هو الحزب اليساري الراديكالي الذي رفع شعارا مركزيا : لا لسياسة التقشف التي استهدفت الشعب اليوناني في الاربع سنوات الأخيرة، وقلصت بشكل كبير قدرته الشرائية من خلال سياسة أجور سلبت الموظفين نسبا من غلافها، وزجت بالآلاف بالبطالة التي بلغت رقما قياسيا في تاريخ اليونان، إذ تجاوزت 25 بالمائة من السكان النشيطين. لقد استقطب البرنامج الانتخابي لهذا الحزب، الشارع اليوناني وشهدت الحملة الانتخابية تجمعات ضخمة أبرزت أنه سيتبوأ نتائج الاستحقاق الانتخابي . وبالفعل كانت المفاجأة كبرى مساء أول أمس حيث حصد الحزب نصف مقاعد البرلمان البالغ عددها ال300. وجاء زعيمه أليكسيس تسيبراس إلى باحة جامعة أثينا مزهوا بهذا الانتصار ليعلن أن اليونان تكتب تاريخا جديدا، وأن سياسة التقشف تمت الإطاحة بها ولم تعد سوى ذكرى في الماضي. إنه درس بليغ إذن تقدمه اليونان بأن سياسة التقشف لن تجدي في إخراج البلدان من أزماتها، بل إنها لن تزيد الأوضاع الاجتماعية إلا تفاقما وقد تقرب لهيب النار من برميل البارود، وتجعل آفاق المستقبل مظلمة حالكة. قد تفرز سياسة التقشف أرقاما في ظاهرها إيجابية لكن في عمقها لا قيمة لها سوى استعمالها كتمويه وبروباغندا لتغطية الفشل وإفلاس السياسة المتبعة، ودس الرأس في الرمال خوفا من مواجهة الحقيقة. وهنا نستحضر سياسات التقشف التي تنهجها الحكومة المغربية الحالية التي يترأسها الامين العام لحزب العدالة والتنمية التي أصبح همها الوحيد هو اتخاذ الإجراءات التقشفية في شتى المجالات، والتغني بأرقام كمية تعتقد أنها حصاد للدورة الإنتاجية وإفراز للدينامية الاقتصادية . الدرس اليوناني يؤكد أن هناك اختيارا آخر يتطلب جرأة وتعبئة . ليست هي الجرأة التي ينطق بها رئيس الحكومة السيد عبد الإله بنكيران الذي لا يدع مناسبة إلا ويذكرنا بأن همه هو إلغاء الدعم ونقص الاعتمادات ، ورفض الرفع من القدرة الشرائية للمغاربة ... إن سياسة التقشف التي عرفتها اليونان خاصة منذ 2010 أدت إلى أن تصل ديون هذا الأرخبيل الواسع بالبحر المتوسط إلى أكثر من 350 مليار أورو وهو ما يمثل 175 بالمائة من الناتج الداخلي الخام، وأن يصبح رهينة لترويكا الاتحاد الاوربي والبنك الأوروبي وصندوق النقد الدولي التي أصبحت تتحكم في قراراته وتملي سياساتها عليه. ولأن هذا الثالوث لن يعير اهتماما للجانب الاجتماعي، ولا لمعيشة اليونانيين بقدر ما يهمه الإجراءات التقنية التي لن توفر ماء ولا غذاء أو سكنا للناس. «الشعب كتب التاريخ وترك التقشف وراءه» . هكذا خاطب زعيم الحزب اليساري الراديكالي اليونانيين مساء أول أمس ، مؤكدا أن فوزه ونسبة التصويت على حزبه تفرضان عليه التزاما سياسيا وأخلاقيا في أن ينفذ برنامجه الانتخابي الذي من بين أولوياته التخلص من الديون، سواء عن طريق التفاوض مع الاتحاد الاوروبي أو إلغائها من جانب واحد حتى ولو كلفه ذلك الخروج من منطقة الأورو. والذين يعرفون ألكسيس تسيبراس البالغ من العمر أربعين سنة، يؤكدون أن وعوده تتطابق مع أفعاله وخطابه مع سياساته، وشعاراته مع إجراءاته. إنها فرصة لليونان في أن يقدم دروسا للقارة العجوز وللعديد من الحكومات داخلها وخارجها في أن هناك خيارات أخرى غير ما تمليه المؤسسات المالية . وأن حبل «التقشف» لن يكون بمقدوره جر قاطرة النمو ولا تحقيق الرخاء للشعوب.