ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    بوريطة: المقاربات الملكية وراء مبادرات رائدة في مجال تعزيز حقوق الإنسان    ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فيلم الجوكر.. كيف أصبح «المجرم» بطل المدينة الجديد؟
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 20 - 10 - 2019

يُطِلِّ علينا المخرج تود فيليبس في فيلمه الأخير بوجه جديد لم نألفه للجوكر، فذلك الرجل الغامض الذي ينبثق من اللا مكان بوجهه المشوّه وضحكته السيكوباتية ورغبته التي لا يُعادلها شيء في نشر الفوضى والدمار كان ولا بد شخصا عاديا في يوم من الأيام، وكما روى لباتمان مرارا، دفعه «يوم واحد سيئ» للجريمة والجنون. في فيلم «الجوكر»، يمتد ذلك اليوم الواحد ليصير حياة بأكملها، في واحد من تغييرات كثيرة أجراها فيليبس على القصة المألوفة لملك الفوضى المتوّج. على عكس زملائه على الجانب الآخر من المعسكر، لا يمتلك الجوكر أصولا واضحة. لا نعرف بالضبط ما السر وراء الندوب التي تُغطّي وجهه، ولا مَن كان قبل أن يرتدي سترة المهرج وينطلق مروّعا سكان المدينة.
ترك فراغ الخلفية هذا مساحة واسعة وحرية كبيرة أمام المؤلفين عبر الوسائط المختلفة، بين القصص المصورة والسينما، لإعادة اختراع الجوكر وماضيه. تبقى الخطوط العريضة للشخصية ثابتة بالشكل الكافي الذي يحول دون تفككها عند انتقالها بين مؤلف وآخر في حقب زمنية مختلفة، لكن التفاصيل يُعاد صياغتها من جديد في كل مرة، ما جعل هذا شخصية الجوكر أقرب شيء لنغمة لها صدى فريد يترك الحرية أمام مَن يعزفها للارتجال، ويصوغ كل زمن فيها إيقاعه الخاص.
يحاول المؤلف جرانت موريسون في رواية «مصحة أرخام العقلية» (Arkham Asylum) التي كتبها أواخر الثمانينيات أن يخلق تفسيرا نفسيا من داخل الحدث لتعدد واختلاف خلفيات الجوكر، فيكتب على لسان الطبيبة النفسية المسؤولة عن حالته في حوارها مع باتمان: «ربما نقف الآن بصدد نوع خارق من الذكاء، نوع جديد من الإدراك الإنساني الفائق أكثر ملاءمة للعيش في مدينة نهايات القرن العشرين. فعلى عكسي وعكسك، لا يبدو أن الجوكر يمتلك أي نوع من التحكم في المعلومات التي يلتقطها من العالم الخارجي، ومن ثم لا يستطيع التأقلم مع فوضى حواسه سوى عبر السير في اتجاه التيار. ولهذا، يجد نفسه بعض الأيام مهرجا عابثا، وأياما أخرى قاتلا سيكوباتيا. فالجوكر بلا شخصية محددة، يُعيد اختراع ذاته في كل يوم ويرى نفسه ملكا للتمرد والعالم مسرح العبث الخاص به».[1]
في تلك السيولة الشديدة للهوية، يصير الجوكر في تمثّلاته العديدة انعكاسا صريحا ونتاجا واضحا للزمن والمجتمع الذي يسكنهما. إلى هذا المعنى ذهب الناقد دان بروكس في تحليله للنسخ السينمائية من الجوكر، جوكر عام 1989 الذي أداه جاك نيكلسون، وجوكر عام 2008 الذي لعب دوره هيث ليدجر: «كل جوكر يُجسِّد عنصر الفوضى الذي يخشاه جمهوره. منذ ثلاثين عاما، في عصر الخوف من توحش إجرام المراهقين والقُصَّر، قاد جاك نيكلسون أتباعه من سكان المدينة إلى متحف جوثام الفني وأمرهم برش الطلاء ورسم الجرافيتي على كلاسيكيات فنية. وفي آخر عام من حكم جورج بوش، كان جوكر هيث ليدجر إرهابيا دفع باتمان لتشييد دولة قائمة على مراقبة مواطنيها».[2] في هذا العام، يُطِلُّ علينا جوكر آخر مختلف كثيرا عن كل من سبقوه، لكنه يظل مثلهم جميعا في نقطة واحدة على الأقل: إنه انعكاس لزمانه ومجتمعه ومدينته.
آرثر فليك: من الحلم بالأضواء إلى اللجوء للجريمة
منذ المشاهد الافتتاحية لفيلم «الجوكر» وحتى نهايته، نرى مدينة جوثام في أكثر تجلياتها كابوسية. تلك المدينة الشهيرة في عالم قصص دي سي المصوّرة حيث يكافح باتمان الجريمة لا تجد مَن يُخلِّصها الآن. ففي زمن القصة هنا لا يزال باتمان طفلا مدللا اسمه «بروس واين» يعيش في قصر واسع مع أبويه، بينما تغرق المدينة في ظلال الفقر والقبح عزلاء أمام أشباح الفوضى.
جوثام المخرج تود فيليبس التي لا يقطع سماءها شارة الوطواط ولا تمتلك فريقا من أبطال وأشرار خارقين هي أقرب شيء لواقعنا، وذلك التماثل الكبير بينها وبين الكثير من مُدُننا اليوم يجعلها أكثر بعثا على الرعب من جوثام المليئة بالخوارق في قصص مؤلفين آخرين. جوثام هنا هي إعادة انبعاث لنيويورك السبعينيات التي هام في شوارعها ترافيس بيكل في تحفة مارتن سكورسيزي: «سائق التاكسي» (Taxi Driver)، تلك التي تزدحم أزقتها «بالحثالة والعاهرات والكلاب، بالقذارة والخراء».
بطل القصة هذه المرة ليس سائقا يطوف الليل وحيدا في صندوق معدني يفصله عمّا حوله ويعطيه رفاهية التأمل من بعيد، بطل القصة يقف في أول مشهد مزروعا على جانب الطريق في قلب الحثالة والقذارة بين الجرذان. إنه آرثر فليك، آرثر الذي يبتعد في أول مشهد عن تجهّم ترافيس بيكل وتغطي وجهه ابتسامة عريضة؛ وكيف لا؟ فآرثر مهرج يحلم بأن يصير «كوميديان». وآرثر ليس أول نسخة من الجوكر يكون لها الحلم ذاته.
يُشاركه ذلك الحلم الجوكر الذي جاء على صفحات قصة «المزحة القاتلة» (Killing Joke) المصوّرة لآلان مور -واحدة من أهم قصص نشأة الجوكر وأبعدها تأثيرا في صناع السينما-، لكن بينما جاءت مهنة الجوكر القديمة كمهرج وهوايته لتأدية الفقرات الكوميدية في قصص نشأة الجوكر عادة لتضع تأسيسا لما نراه في شخصية الجوكر المجرم من نزعة سخرية مدمرة، تؤدي هذه المهنة وتلك الهواية وظائف أخرى في فيلم فيليبس.
لا يمتلك آرثر أي حس دعابة حقيقي، ونكاته لا تُضْحِك أحدا، كما من الواضح أن إصابته بمرض «التأثير البصلي الكاذب» (Pseudobulbar affect) الذي يجعله ينفجر في نوبات ضحك هيستيرية دون أي مقدمات سيجعل من المستحيل عليه الوقوف و الأداء على خشبة المسرح. لكن يبدو آرثر معميا تماما عن رؤية هذا، بل يرى نفسه موهوبا في حاجة فقط إلى أن يجد الفرصة؛ وعندما يحدث هذا، سيصير نجما لامعا تصطف أمامه الجماهير ويظهر على شاشات التلفاز جنبا إلى جنب مع مذيعه الفكاهي المفضل موراي فرانكلين، في ذلك الخط نجد تأثرا واضحا بفيلم سكورسيزي «ملك الكوميديا» (The King of Comedy).
آرثر في كل هذا هو صنيعة ثقافة مهووسة بالشهرة والأضواء، وترى فيمن يحظى بهما مَثَلا أعلى. آرثر موهوم تماما، لكن الحفاظ على هذا الوهم له أهمية وجودية بالنسبة إليه حتى يُبقي على الحد الأدنى من المعنى والهدف في حياة كل ما فيها بائس. ومن ثم يتشبّث بوهمه ذاك، باحثا فيه عن الخلاص من إحساسه بالدونية وانعدام الأهمية. يحلم أنه سيجد يوما ما فرصته ويأتي دوره للوقوف تحت رقعة الضوء حيث سيصير صوته مسموعا، الحلم الذي يتبدد لاحقا ولا يجد آرثر عندها من بديل أفضل من استعارة صوت طلقات الرصاص الذي لن يستطيع أحد أن يصم أذنيه أمامه.
في تتابع من التتابعات القليلة التي يغمرها ضوء ساطع في الفيلم، نرى آرثر يتخيل نفسه يتشارك خشبة المسرح مع مَثَله الأعلى موراي فرانكلين. إنها واحدة من المرات القليلة التي نرى فيها آرثر على مدار الفيلم سعيدا بحق؛ وسط هتاف الجماهير وأصوات تصفيقها، ينحني فرانكلين ويهمس لآرثر: «كنت لأفعل أي شيء في حياتي لأحظى بابن مثلك»، ما يدلنا على عُقدة أخرى تتحكم في شخصية فليك: البحث عن الأب الغائب.
لا يعرف آرثر مَن أبوه، عاش حياته بأكملها مع أمه لا يعرف الرجل الذي أنجبه، حتى كنيته مأخوذة عن كنيتها، بيني فليك. في المشهد السابق، يتجلى ذلك الفراغ العميق الذي تركه غياب الأب في روح آرثر؛ فراغ يحاول ملئه وتعويضه بشخصيات يرى فيها مَثَلا أعلى له على غرار موراي فرانكلين. لكن في منتصف الفيلم تقريبا، يكتشف آرثر، أو يظن أنه يكتشف، مَن أبوه الحقيقي.
الجوكر: بطل جديد للمدينة
منذ بداية الفيلم نلحظ ترديا عاما يضرب في كل مؤسسات الدولة، ينعكس أكثر ما ينعكس فوق مبانيها ومنشآتها. كل شيء غارق في الفوضى والقمامة، الجدران متصدعة والإضاءة مهتزة معظم الوقت. الشرطة تظهر ضعيفة، الجموع الغاضبة قادرة على افتراس أفرادها، والأمان الاجتماعي لسكان جوثام غير موجود، الفقراء يعيشون في أبنية وضيعة ويعملون في مهن وضيعة وعندما يمرضون لا يجدون رعاية صحية لائقة.
يعيش آرثر هذا الواقع ويعرف ألّا خلاص حقيقي منه، أما والدته، بيني، فلها رأي آخر. تجلس بيني العجوز أمام شاشة التلفاز معظم ساعات اليوم، وتتهلل أساريرها عندما يظهر الملياردير ورجل الأعمال توماس واين. تُصِرُّ بيني أن توماس «لو عرف الحالة المزرية التي نعيش فيها فسينقذنا». فتوماس فوق امتلاكه وإدارته لثروة هائلة، قد رشّح نفسه أيضا ليصير عمدة مدينة جوثام. تكتب بيني رسائل طويلة تستنجد به، لكنها، كما هو متوقع، لا تجد أي رد أبدا. تذهب للنوم في إحدى الليالي وتوصي ابنها أن يضع رسالتها لواين في صندوق البريد. يشعر آرثر بفضول شديد حيال الرسالة ويفض المظروف ليقرأها، وهنا تكمن المفاجأة: توماس واين هو أبوه الحقيقي. وأي محب لأفلام الأبطال الخارقين سيعرف مَن ابن توماس واين الثاني.
في تنويعة فيليبس على قصة الجوكر هنا التي يجعله فيها ابنا غير شرعي لتوماس واين وأخا غير شقيق لبروس واين، يضع فيليبس تفسيره الخاص لأسباب الكراهية الشديدة التي يُكِّنُها الجوكر لباتمان؛ لكن فوق هذا، يبرز عبر ذلك الخط ثيمة مهمة من ثيمات الفيلم ومحرك أساسي لأحداثه: الفجوة الطبقية.
حالة مجتمع مدينة جوثام كحال الأخوين -مع افتراض أن رواية بيني صحيحة- آرثر وبروس؛ أحدهما يعيش حياة وضيعة بعيدا عن أب لا يعترف أصلا بوجوده، والآخر يعيش مدللا في قصر فاره له بوابات منيعة تحول دون اقتراب آرثر وأمثاله. المسؤول عن تلك الفجوة هنا، في حالة آرثر وبروس كحالة خاصة وحالة سكان مدينة جوثام بشكل عام، هو توماس واين، وكثيرون على شاكلته. فتوماس هو مثال لرأسمالية العصر الحديث وسياساتها النيوليبرالية، حيث تجتمع السلطة المطلقة ورؤوس الأموال غير المحدودة في يدي شخص واحد -أو حفنة قليلة من الأشخاص- ما يعطي المتحكم فيهما إمكانيات وصلاحيات غير محدودة، يتضاءل بجانبها أي دور حقيقي وفعّال للدولة، بحيث يصير ذلك الشخص هو الواضع الحقيقي للقوانين غير المكتوبة لكيف ستُدار الأمور على أرض الواقع، قوانين تهدف فقط لخدمة مصالحه الشخصية وليذهب الآخرون للجحيم.
نحن لا نرى كل تلك التفاصيل عن توماس من خلال الأحداث، لكننا نرى ما يكفي تماما لنستنتجها؛ نرى ذلك في تهالك مؤسسات الدولة من جهة، والنفوذ المتزايد لتوماس من جهة أخرى، فرجل الأعمال يودّ أن يصير عمدة، ليجمع بشكل رسمي بين المال والسلطة. وفي مجتمع يتحكم قمة هرمه الاجتماعي في كل شيء، ليس من المستغرب أن نرى طبقاته الأقل حظا تعيش حياة ليست كالحياة بينما أثرياؤه يتمتعون برفاهية منقطعة النظير.
في مجتمع كهذا، يوجد مئات الآلاف من آرثر فليك، عاجزين عن إيجاد وظيفة لائقة، مُذلّين ومهانين بشكل مستمر، لا يُكِنُّ لهم كل مَن هو فوقهم أي نوع من أنواع الاحترام. ففليك يتعرض للضرب في أول المشاهد من مجموعة من المراهقين الموسرين، ويتكرر الأمر مرة أخرى في المترو لكن هذه المرة على يد شباب يعمل لدى توماس واين، ويجعل منه المذيع الثري والناجح فرانكلين موراي مادة للسخرية في برنامجه ويستدعيه فوق هذا للظهور معه إمعانا في تلك السخرية.
يشعر آرثر أنه ليس سوى ممسحة أقدام لكل مَن هم فوقه، ويجعل موقفه أكثر سوءا نوبات الضحك المرضية التي تنتابه فتجعل الآخرين يتجنّبونه على أفضل الأحوال، ويكيلون إليه اللكمات والركلات في أسوأها. آرثر الضعيف ذو البنية الهزيلة عاجز تماما عن الدفاع عن نفسه؛ لكن عندما يُعِيره أحد زملاء العمل مسدسا، يتغير كل شيء.
في تلك السياقات، يصير لجوء آرثر لعنف مضاد للعنف الذي تعرّض له طوال حياته مفهوما تماما. فككل تجليات الجوكر الأخرى، آرثر انعكاس وصنيعة لمجتمعه: مجتمع يعيش حالة من الطبقية الفجة تجعله ليس في حاجة إلى «شرير» من خارج عالمه ليتهدده؛ إنه ينطوي بداخله على كل عناصر الانفجار. فلو لم يطلق آرثر الرصاص في تلك الليلة على الشباب الثلاثة، لكان شخص آخر في يوم آخر وفي سياق مشابه سيفعل الشيء نفسه، ويجد التعاطف نفسه منه.
في تعاطف سكّان جوثام المهمشين مع آرثر، نجد انعكاسا لاستبدال ثنائية «الغني/الفقير» في عالم الفيلم -وعلى نحو متزايد في عالمنا أيضا- بثنائية «الشرير/الخيّر» التقليدية. وفي تلك الثنائية لا أحد يكترث حقا لمفهومَيْ الخير والشر؛ قتل آرثر للشباب الثلاثة في المترو هو فعل شرير بشكل لا جدال فيه، لكنّ أحدا حقا لا يكترث لهذا، كل مجموعة تتعاطف مع أعضائها. الفقراء والمهمشون يشجعون فعل آرثر لأنه واحد منهم، والأثرياء بآلتهم الإعلامية وسلطتهم الرسمية يشجبونه لأنه أضرّ بثلاثة من فتيتهم.
وهنا، ينعكس النمط المعتاد: بروس واين لن يكون بطلا للجموع بعد الآن، ففي ثنائية الغني/الفقير، يقف بروس بشكل واضح بسبب انتمائه الطبقي في جانب الأقلية الثرية. الجماهير المسحوقة المهتاجة في الشوارع تبحث عمّن يُخلِّصها، خلاص يريدونه عنيفا ودمويا لاجتذاذ النظام الظالم لهم من جذوره. وفي نشوة العنف والدماء، ينبثق آرثر فليك/الجوكر، المسحوق مثلهم وأول من أطلق رصاصة الموت على «الأعداء»، رسول لخلاص لن يأتي سوى فوق أطلال المدينة الظالمة.
باتمان والجوكر: التاريخ الطبقي لصراع فارس الظلام وملك الفوضى
إن كان تود فيليبس أول مَن سلّط الضوء بتلك القوة على الفارق الطبقي بين باتمان والجوكر ودوره في الصراع بينهما، فإنه ليس أول مَن لوّح بذلك الفارق. سبقه إلى ذلك آلان مور في قصة «المزحة القاتلة» التي رسم فيها شذرات من ماضي الجوكر ووضع سياقات وأسباب لتحوّله من مواطن مسالم إلى قاتل سيكوباتي.
في تلك القصة، نرى الجوكر لأول مرة قبل التحوّل: رجل متزوج، امرأته حبلى على وشك أن تضع، يعيش في منزل ضيق في حي حقير، لا يجد فرصة عمل أغلب الوقت، وحتى عندما يفعل يكون ذلك في مهنٍ متواضعة لا تُوفِّر له ما يكفي لدفع الإيجار. يأتي لزوجته في القصة في نهاية يوم آخر لم ينجح فيه في إيجاد فرصة عمل ككوميديان، يرثي لحالها كونها متزوجة من «فاشل مثله»، ولحالهما معا في سكنهما لبيت «رائحته فضلات قطط، وعجائز»، ويبث لها رغبته في «جني ما يكفي من المال لإيجاد منزل آخر في حي أفضل» قبل أن يأتي ابنهما للوجود بعد ثلاثة أشهر.
ولأن كل الطرق سُدَّت في وجهه، يتجه للجريمة. أولى جرائمه بريئة تماما مقارنة بما سيرتكبه بعد ذلك من جرائم، لكن فشلها التراجيدي مع ما وقع من موت زوجته وجنينها في حادث عبثي هو من سيسلبه للأبد هويته وحياته السابقة، ويرسم طريقه من الآن فصاعدا كملك متوّج فوق عرش الفوضى والجريمة.
يتعاون الجوكر مع عصابة لسرقة مصنع كيميائي كان يعمل فيه سابقا، ويضع معهم خطة ساذجة تقوم بشكل رئيسي على معلومات الجوكر السابقة عن كون المصنع غير مُؤَمَّن جيدا. لكن بعد دقائق من وضع الخطة قيد التنفيذ، يلوح فارس المدينة المغوار باتمان من بعيد، لتهرب العصابة خوفا منه ومعهم الجوكر. لكن، لحظ الأخير السيئ، فأثناء مطاردة باتمان له، ينزلق من أعلى السور، ويقع في حوض كبير مليء على آخره بمادة كيميائية سامة، غطت جسده بالحروق، ودفعت بعقله في طريق الجنون.
تعليقا على قصة آلان مور يقول ريتشارد هيندفيلد في مقاله «الجوكر كماركسي»: «بينما أغدق النظام الاجتماعي القائم -وبالذات في اعتماده على رأس المال من أجل توفير أساسيات الحياة- على بروس واين بالثروة والحظوة، لم يترك للجوكر سوى القحط والبؤس. وتؤدي ملاحقة باتمان للجوكر إلى تحوّل الأخير، ما يوضح لنا كيف كان بروس واين/باتمان وطبقته السبب في سخط الجوكر».[3] ينعكس ذلك المعنى على نمط الجوكر الإجرامي، فخلاف أي مجرم اعتيادي، لا يطمح الجوكر من وراء جرائمه لجني المال، ولا يمكننا في أحيان كثيرة أن نرى هدفا وراء نزعاته التدميرية من الأساس بعيدا عن كونها فوضى بغرض الفوضى. لكن في قراءة هيندفيلد لجرائم الجوكر، يجدها موجهة في الأساس ضد رموز السلطة وأصحاب الثروة. فجرائم الجوكر في وجهة نظره ليست عبثية تماما، بل تهدف لتدمير النظام القائم الظالم لكثيرين، ومن هنا، فسبب عداوته لباتمان هو دفاعه عن ذلك النظام نفسه الذي يسعى الجوكر لتفكيكه.
يكتب هيندفيلد: «لا تعود العداوة القائمة بين باتمان والجوكر فقط لكون أحدهما مجرما والآخر مكافحا للجريمة، بل يقف وراءها صراع أعمق بكثير، يُمثِّل فيه باتمان الطبقة الحاكمة في مواجهة الجوكر الذي يحاول بشكل مستمر تدمير النظام الطبقي. في هذا السياق، لن ينتهي صراع باتمان والجوكر ببساطة عبر موت أحدهما، فحتى لو قُتل باتمان أو عُرفت هويته، فستظل القوى التي يُمثِّلها في سُدّة الحكم، ولو مات الجوكر، فستظل الجموع التي يُمثِّلها موجودة. ولهذا، نجد أن هدف الجوكر الحقيقي ليس القضاء على باتمان، بل تدمير النظام الذي يحميه».[4]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.