يكشف فيلم «ستموت في العشرين» للمخرج أمجد أبو العلاء لمخرج شابٍ، يكشف حساسية مرهفة إزاء مسائل أساسية في ثنائية الحياة والموت. ولأنّ النصّ مُشبعٌ بظلال الغياب والفراق والانشقاقات الذاتية والروحية والنفسية، فالتساؤل مشروعٌ عن سبب عدم استخدام أمجد أبو العلاء تقنية الأسود والأبيض في تصوير فيلمه الجميل هذا. 1 تتداخل تفاصيل عديدة في البناء الدرامي ل»ستموت في العشرين» (2019)، أول روائي طويل للسوداني أمجد أبو العلاء. والتداخل -إذْ تتكامل تفاصيله أثناء سرد حكاية مُزمّل، المولود قبيل وقتٍ قليلٍ على نبوءةٍ بموته عند بلوغه 20 عامًا- ينفتح على أحوال أفرادٍ مُقيمين في بيئة تقليدية، تُثقِل عليها موروثاتٍ تتخطّى الدين والإيمان إلى خرافات وماورائيات، تصنع جزءًا بارزًا من ثقافة اجتماع وسلوك. والتفاصيل، التي تتشكّل بها ومعها مسارات ومصائر، تنبعث من تربيةٍ تصنع انفعالاً وتصرّفات، ومن تسلّط -ديني أو إيماني (وإنْ يكن التسلّط مُبطّنًا)- يُفرز أوهامًا يُراد لها أنْ تكون حقائق. المناخ المُقدّم في بداية السرد الدرامي للحكاية، بصمتٍ يُعكّره صدى ريح أو حفيف ملابس أو احتكاك بالرمل يولّده السير على الأقدام، يشي باحتفالٍ يستند إلى طقوسٍ يغلب عليها الماورائي/ الخرافي، المُطعّم -في الوقت نفسه- بالديني والإيماني البسيط والخَفِر. فالعادة تقضي بأولوية نيل بركة شيخٍ لمولود جديد، ورجال حوله يرقصون وفقًا لطقوسٍ محدّدة، يردّدون خلالها تعابير وأرقام، والشيخ يُبارك باسم الدين والإيمان، قبل أن يسقط الراقص عند الرقم 20، فيُصاب الجَمْعُ المحتَفِل مع أهل المولود الجديد بهلعٍ، إذْ يعني السقوط ما يعنيه وهو معروف: سيموت مُزمّل عند بلوغه 20 عامًا. 2 هذه لعنة. تنقلب حياة الأسرة، المكوّنة من الوالدين والمولود الجديد فقط، رأسًا على عقب. ينهار كلّ شيء. لكن، لوالدة المولود الجديد سكينة (إسلام مبارك) شخصية قوية، على نقيض أبٍ يُغادر سريعًا ويختفي، بحجّة عمل يُنقله من مدينة إلى أخرى، ومن بلدٍ إلى آخر، قبل عودته عشية الموعد المُقدّر للوفاة. قوّة شخصية سكينة عاملٌ أساسي في البناء الدرامي والسرد الحكائي، كما في دعم مُزمّل (معتصم راشد في الصغر، ومصطفى شحادة في المراهقة والشباب)، الذي يواجِه تحدّيات كثيرة تحول دون عيشه حياةً عادية، رغم انصرافه إلى مسائل طبيعية ويومية. فأبناء جيله يسخرون منه، مُطلقين عليه لقب «ابن الموت»، وبعضهم يضعه في صندوق ويُقفل عليه للتأكّد من مسألة الموت المرتبط به؛ والناس حوله قلقون فهو منذور للرحيل، والموت قاسٍ دائمًا، وإنْ يكن حقًا طبيعيًا. مع هذا، يدعمون ويتابعون يومياتهم وفقًا لعادات يُتقنون تنفيذها، فهي نواة حياتهم وعيشهم وعلاقاتهم. هذا أصل الحكاية، والمتفرّع منها مُتنوّع من دون خروج على الأصل والحكاية معًا، إذْ يتحوّل المتفرّع إلى امتدادٍ إنساني ومسلكي وحياتي ليوميات مُزمّل، ولمشاعره وتخبّطاته وقلقه داخل جدران يرفعها حوله فتقيه (الجدران) ممّا يُناقض مصيره، كالحبّ مثلاً، المنبثق من زميلة له في المدرسة القروية، التي ترافقه في حياته كلّها، من دون أنْ تتمكّن من تبديد خوفٍ وقلقٍ ينهشان روحه. لقاؤه سليمان (محمود السرّاج) مدخلٌ إلى عوالم يكتشفها في منزلٍ يكاد ينغلق على حاله وروحه، فللأمكنة أرواح وحالات، وعلى من فيه أيضًا. والرجل يحمل تاريخًا من المعارف والاختبارات، ويُقيم حاليًا في خيبة وإحباط، ويتعامل مع اليومي بواقعية ومنطق يتصادمان مع أجواء بيئة تقليدية. هذا كلّه ميراثٌ، يحاول مُزمّل الاستفادة منه قدر المستطاع، بدءًا من التصوير، وبعضه سينمائي (المهنة السابقة لسليمان)، والأغاني الكلاسيكية القديمة (التي يعشقها سليمان)، وصولاً إلى المفهوم المتحرّر لسليمان، بخصوص العلاقات الحرّة بين الرجل والمرأة، وسخريته من سلطة متديّنين، يعتبرهم غير صادقين، وسعيه إلى مواجهة دائمة للقدر، وإلى عدم الاستسلام، رغم ألمه وتمزّقاته. التناقض كبير وواضح بين سليمان وما يُمثّل، والبيئة وما تؤمن به. الصراع بينهما خفيّ وقاسٍ. الخيبة متمثّلة بانصراف سليمان إلى عزلةٍ، واحتساء خمر، واستدعاء ذكريات، وارتباط، ملتبسة أسبابه، بامرأة تأتيه يوميًا. يجد مُزمّل نفسه في عالم مناقض لبيئته. الصُوَر أمامه على الشاشة الكبيرة حافزٌ على إعمال مخيّلة وإطلاق رغبات. لكن الخوفَ والقلقَ أقوى من أن يمتلك مُزمّل جرأة تحدّيهما بالانقلاب على قدره والتحرّر من سطوته، وقناعتَه بمصيره أَحَدّ من السماح له بالذهاب بعيدًا في الإحساس برغباته، وإنْ تكن مُعطّلة. براعته في ختم القرآن باكرًا مناسبة للاحتفال، لكن اقتراب موعد الموت دافعٌ إلى احتفال مناقض. ارتباطه بالجامع، بما يملكه الجامع من رموزٍ وأقوال وثقافة، منبثقٌ من لاوعي يحثّه، ربما، على رفض «القرار الخرافي» بإنزال الموت فيه باكرًا. والتزامه زيارة شبه يومية إلى سليمان، بما يعنيه سليمان من «خروج» على مألوف البيئة القروية التقليدية، أو من رمزٍ لانعتاقٍ ما على الأقلّ، متأتٍ من هيامٍ له -ذاتي داخلي شبه خفي- يكسر قيدًا، أو يتفلّت من حصار. 3 هذا كلّه مرويٌ بسلاسة وبساطة سينمائيتين، تُفعّلان التشييد البصريّ لتلك العمارة الفيلمية، الجاذبة إلى خفايا عيشٍ وتفاصيله. ورغم أنّ ممثلي الأدوار الأساسية، تحديدًا، غير محترفين، إلاّ أن لديهم تمكّنًا أدائيًا متماسكًا في تقديم المطلوب، من دون ادّعاء أو خفّة أو تسطيح، بل بكثيرٍ من الشغف والعفوية. التراكم المعرفيّ، الذي يحمله أمجد أبو العلاء، سينمائيًا على الأقلّ، كفيلٌ بحمايته من الوقوع في فخّ الاستسهال أو الثرثرة البصرية. شفافية النصّ (سيناريو أبو العلاء ويوسف إبراهيم، عن رواية لحمّور زيادة بعنوان «النوم عند قدميّ الجبل»، الصادرة عن «دار ميريت» في القاهرة عام 2014) إضافة فنية تساعد على تبيان جوهره والمتفرّع عن الجوهر أيضًا، وعلى متابعة الجوهر والمتفرّع معًا من دون جهدٍ أو تأفّف، بل بشغفِ راغبٍ في المتابعة والمشاركة في قراءة التداعيات والتراكمات الفيلمية والأدبية والإنسانية. لقطات عديدة (تصوير سيباستيان غوبفِر) تُزيل كلّ حدّ فاصلٍ بين واقع ومتخيّل، في التقاط نبض الفرد الذي يواجه كوابيس أو انشغالات أو همومًا أو أقدارًا. وما يُظَنّ أنّه حلم، يتبيّن سريعًا أنّه لحظة فاصلة بين ارتباك ذاتٍ وروحها، واضطراب تفكيرٍ وتأمّلاته. أحد أجمل مشاهد «ستموت في العشرين» -الفائز ب»أسد المستقبل- جائزة لويجي دي لورنتيس»، في مسابقة «آفاق»، في الدورة ال76 (29 غشت 7 سبتمبر 2019) ل»مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي» يتمثّل بلوحة سينمائية تعكس مرارة القهر والعزلة والرغبة في الخلاص، التي تعيشها سكينة، إذْ تظهر مرتدية السواد وسط نساء ترتدين الأبيض في لقطة مهمّة وجميلة. بالإضافة إلى لقطات عديدة تعكس جماليات سينمائية، في انعكاس هواجس المرء ومخاوفه ممّا سيأتيه في المقبل من الأيام: غرفة ذات مدخل ضيّق وطويل، ولون شمعة ينعكس على جدران معتمة، وأرقام محفورة على تلك الجدران بقلم الفحم، ومتاهات تذهب بعيدًا في إضفاء مزيدٍ من أحاسيس الألم والتمزّق والاختناق، ورغبة في الانعتاق من هذا كلّه. وإذْ يمنح تصوير هذا، وغيره أيضًا، جمالية مطلوبة لفيلمٍ يغوص في ألم الفُراق وأسئلة الأسطوري/ الخرافي والحِداد والعلاقات الذاتية، فإنّ التوليف (هبى عثمان) يُشارك في صُنع تلك الجمالية، خصوصًا في مَشاهد تلتقط الحدّ الفاصل بين حلم وواقع، وبين كابوس وحقائق، وبين رغبات ويوميات. 4 «ستموت في العشرين» -المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الثالثة (19 27 سبتمبر/ أيلول 2019) ل»مهرجان الجونة السينمائي»- اختبار سينمائيّ لمخرج شابٍ، يكشف حساسية مرهفة إزاء مسائل أساسية في ثنائية الحياة والموت. ولأنّ النصّ مُشبعٌ بظلال الغياب والفراق والانشقاقات الذاتية والروحية والنفسية، فالتساؤل مشروعٌ عن سبب عدم استخدام أمجد أبو العلاء تقنية الأسود والأبيض في تصوير فيلمه الجميل هذا. تساؤل لن يُبدّل أبدًا تلك العلاقة الجميلة بالفيلم، وبمناخاته المتنوّعة، وبنهايته المفتوحة على احتمالات وامتدادات. * ناقد سينمائي من لبنان