كنسر يتدلى من غيوم القصيدة، محوِّماً على جزر الشعر وأدغاله، يغوص الشاعر نور الدين الزويتني، في ديوانه الأخير (كيف تظل شاعرا بعد 2012)، بعين مضيئة تتصبب أشرعةً تنهبها الاتجاهات الأربع للريح، ليميز بين «الطرائد» و»الجيف»، بين «السحابة» و»الفقاعة»، بين «الخندق الشعري الذي دمرته الغارات الغادرة» و»النهر الذي لا يهرب إلى رقاده». باختصار، يقترح علينا الزويتني شعرا غير خاضع للاهتبال، ولا تكتبه غير الأرواح التي تزيح أطواق الأسلاف ليكون الشعر ويتحقق، لامعا وناضجا وغير ممزق بالرصاص والطعنات. الشاعر الزويتني، في هذه المدونة الشعرية، يلوح بسوطه فوق ظهور «الشعراء الغاصبين» الذين يظنون أن القارئ هو الطفل الأبله، وأن الضباب الكثيف هو «قدر القراءة». إنه ضد الشعر المسروق، وضد ناهبي القصائد المليئة بالجراح، وضد الذين لا يميزون بين نهد ومطرقة، وضد الترجمة التي تطمس كل شيء: الأسماء والأشياء والدرر. إنني أزعم، بوجه مكشوف، أن هذا الديوان «مانفيستو شعري» يطارد سُرَّاق القصائد من شريان إلى شريان، ومن قارة إلى قارة، ومن مقبرة إلى مقبرة. ولا أعتقد أن بوسع أي كان من القراء أن يشعر بهذا «المانيفستو» القاسي والبارد كعاصفة ثلجية، ولا أن يستسيغ «حقائقه» الثابتة التي عرضتها المؤسسة النقدية ل «إثارة الغبار» حتى لا تُرى أو يفتضح أمرها. إن الشاعر هنا يتكلم ويدرك أنه يغرس مسمارا حاميا في صدر التكريس (أدونيس، درويش، سعدي يوسف، بنيس..): أقرأ أدونيس بعد سنوات، فتفغم أنفي رائحة سمك قديم.. أتلو سطرا فينث الزنخ يا رب.. ! وليس هنا سمكة واحدة..! (ص: 76). يسير الشاعر الزويتني، في هذا الديوان «الخادع والماكر»، بين الثلوج والنيران، لا ليحصي كم سمكة سقطت من قفة «مهيار الدمشقي»، ولا ليسم برمحه الخيولَ «الشُقر» التي سمعها تصهل في «كتاب التحولات» أو يمتزج عرقها مع «شهوة تتقدم في خرائط المادة»، أو يعتلي صهوتها «تاريخ يتمزق في جسد امرأة». إن القصد هنا ليس هو الوشاية: عليك أن تكون ماكرا كفاية لتمسك أدونيس متلبسا بسرقة مكتبات وتتركه يذهب (ص: 39). القصد هو ضرورة الالتفات إلى شعريات أخرى، منها تلك التي تقترحها بلاد «البيزون» والخيول البرية.. ومنها، على وجه التحديد، تلك التي يقترفها التخفف من النماذج المثقلة بالأنساق وحسن الإصغاء إلى ما «استطاعته الأوائل». الذاكرة هي التي تقتل الشعر وترميه من الشواهق، وهي التي تجعله ممتلئا عن آخره بالموتى والظلال. إن الشاعر، في هذا الديوان، هو الذي يشعر بالارتياح إذا ابتعد عن الآخرين، كل الآخرين الذين يجيدون اقتياده إلى مسالكهم (تشارلز بوكوفسكي). إنه وغد ولعين ومستوحش وغير أخلاقي. هو الذي يغازل البوم ويُسلِّي الغربان. هو الذي «ينسى كل الشعر تماما» (ص: 36). يكتب كقديس مقتول في باحة مبغى. العالم هو المبغى، والشعر هو الصليب الذي يأنس إليه شعراء أنيقون ووقحون ولامعون ببذلات مكوية، ولا يعتمرون «البيريات». إن الزويتني يقترح علينا، في هذا «المانفيستو»، شعرا يكتبه أنبياء أرضيون لا علاقة لهم بالسماء والملائكة والشياطين والمعجزات. واقعيون، ولا يحبون الزخارف والأشياء التي بلا روح. أنبياء يمشون في الأسواق برؤوس على الأكتاف، ولا يرشون «العبيد» كي يدفعوهم إلى أن يتحرروا: كفى هذيانا أيها الشاعر.. ! كل هذا الضرب على قفاك ولم تستيقظ بعد.. (ص: 91). لا يجعلنا الزويتني نتحيز للشاعر «الرسولي» الذي يصور لنا الحياة كأعمال شاقة، والقصيدة كثمرة لتلك القيود التي أغْرَقَتْهُ أثقالُها في صلاة خاشعة. الشاعر هو الذي يصر على أن يظل ضريرا رغم إغراءات المشاعل الذي يضعها الآخرون بين يديه. هو الذي يصر على حماية ظهره «كسموراي يتهدده خطر من خلف..» (ص: 102). هو الذي يعثر على رأسه الهارب مرميا في شاطئ بعيد. هو الذي يلد نفسه باستمرار ليقوى على الاستمرار في المروق والقتل والزوغان. هو الذي يغمض عينيه عن عمد لتسهيل الانتماء إلى «الماتريكس» (ذلك الجمل الأعشى الذي يعبر صحراء جليد في الليل، فوقه هودج من زجاج..، بداخله بشر وبلاد..) /(ص: 160).. أليس الانتماء إلى "الماتركيس" تجاوزا لحدود العقل؟ إن الزويتني، في ديوانه "كيف تظل شاعرا بعد 2012"، يتدبر "السؤال الشعري" ب "العلم المرح" (نيتشه)، أي بالارتياب في "الحقيقة الشعرية"، وفي آفات الشعراء وأوهامهم. وتبعا لذلك، أسجل بعض الملاحظات على هذا الديوان الذي يدفع الشعراء إلى أن يمجوا أن يكونوا صنائع الآخرين: أولا: يمازج الشاعر نور الدين الزويتني، بِمِرانٍ وتجربة وحنكة، بين استعارة اللغة واستعارة المقام، أي بين بلاغة الشعر وبلاغة السرد. وإذا شئنا الدقة، فإنه يجسر الخطوة بين رؤية الشاعر المعني، أولا، بخلق الصور والإيقاعات والتراكيب وبين رؤية السارد المعني بخلق الحكايات. ثانيا: البعد الرؤيوي والاستشرافي. فالشاعر في هذا العمل لا يكتفي بإقامة علاقات ممكنة بين الأشياء، ولا بإنزال مراكب الآلهة من السماء، بل يقترح طرقا أخرى في القول الشعري، يقترح القتل واللاطمأنينة وŒالتمزيق˜ والتخريق˜ والعقوق˜ وإبادة˜ كل ما يربطنا بالنماذج التي تحاصرنا. يقترح على الشاعر أن يبقى وحده، وأن لا يستظل بأي سقوف أخرى غير روحه. ثالثا: من الجرح يأتي الضوء. إن الزويتني في هذا العمل Œيُبَشِّع˜ القصيدة ويمزقها ويخرقها، ويصب عليها «الأناثيمات»/ اللعنات كي لا يحبها أحد، وكي لا تحب أحدا سواه، فالشاعر له مهمة واحدة: أن يقتل الجميع من أقصى الجرح إلى أقصاه، شرقا وغربا، عمقا وعلوا. رابعا: التجوال في شعريات العالم وفي لغاته وأساطيره. فالقارئ يدرك، منذ الوهلة الأولى، أن الشاعر صيَّاد ماهر في صناعته. وحذقه الشعري يكمن أساسا في تقنية «الطي» و»الايماء» و»الإضمار». فلا يمكنك أن تجوب أرض الزويتني بارتياح واطمئنان. ذلك أن خلف كل سطر شعري نصوص كثيرة تخترقه، وتُفَخِّخُه وتُضَاعفه. خامسا: إذا كان الزويتني ينأى بنفسه عن شعر Œالإيديولوجيات- وهو محق في ذلك- فإنه يقترح علينا شعر «انفتاح المرجعيات»؛ فنحن أمام «شعر الإحالات المضمرة». شعر يكتبه «قارئ كبير» يقيم في مكتبة سرية لا تظهر، ولا يكف عن إفراغ محتواها في عروق القصيدة، فيتسع المعنى وتغزر الدلالات. سادسا: موقف «رجل التحري» من الشعر والشعراء. هناك إدانة صريحة ل»أسماك» الشعر الزنجة، وللسراق الذين يتكئون على أسماك غيرهم ليسبحوا في مياه ليست مياههم (أدونيس، بنيس، سعدي يوسف) / شعراء الترجمة الخائنون. وهناك، أيضا، إعجاب واضح بتجارب شعرية محددة (سركون بولص، صلاح فائق، بوكوفسكي..إلخ)، وتواطؤ مكشوف مع أسماء (محمد بودويك، عبد الإله المويسي، محمد مقصيدي.. إلخ) وتجاوزات مع تجارب أخرى. سابعا: الاتساق. لايمكن أن نغفل في هذا العمل الشعري السعي إلى إنتاج المعنى ليس من باب النسخ والاقتداء بالقواعد النحوية والصرفية، ولكن من باب إخراج المعنى عن أصله وجعله يكشف عن ممكنات وصور أخرى، بلغة بالغة الألفة، ولا يمجها الذوق العام، ولا تعاني من التراكيب البلاغية الطاعنة في «التعري» الباهظ الإغراء. ثامنا: الإرشاد الخادع أو الساخر. عنون الزويتني ديوانه ب «كيف تظل شاعرا بعد 2012؟»؛ وهذا العنوان يومئ بوضوح إلى كُتُب «التنمية الذاتية»، على غرار: «كيف يصبح مليونيرا في 5 أيام؟»؛ «كيف تتعلم الإنجليزيةمن الصفر حتى الاحتراف»؛ «العادات السبع للناس الأكثر فعالية».. إلخ. إنه المرشد، أو «الباب السابع» الممنوع؛ فإذا فُتِح فهو الفقد واللعنة وركوب الأهوال: (أليس عمر الشعر قصير/ فقم يا هذا واسهر/ هذه ساعتك اقتربت،/ وغريمك حامل نعيك/ هاهو يترجل عن عربته/ ويلج الباب الآن). (ص: 172) تاسعا: الارتياب. (كل هذه الخردوات على ظهرك ولم تتعب). في هذا العمل نزعة ارتياب بالغة الكثافة، حتى إنني أجازف بالقول إنها «مهيمنة» هذا الديوان. فالشاعر يرافع بقوة أمام نفسه، وأمام باقي الشعراء الذين يعتلون ذروة الوهم، ليحطم التماثيل الشعرية (الخرداوات)، مشككا في منجزها، حذرا من التصديق على أصالتها. عاشرا: الشعر يجب القناع كما الحقيقة. وحقيقة هذا الديوان هي اتساع المرجعيات، والدخول الواعي في سلسلة من التحولات المعرفية القائمة على الالتفات المتمكن في المنجز الشعري. إنها حقيقة الناظر بكبرياء إلى الآباء الذين تسلقوا جبل الآلهة على أطراف أصابعهم، لكنهم نسوا أن «الأوكار» التي صنعوها تحت جنح الظلام، تضيء، الآن، على ظهورهم كالحدبات الموشاة بقناديل البحر.