في رسالة كافكا إلى أبيه: « أبي الحبيب.. لقد سألتني مؤخراً: لماذا أزعم أنني أخاف منك؟ وكالعادة لم أدر بماذا أجيبك. تارة بسبب الخوف الذي يعتريني أمامك، وتارة لأن الكثير من التفاصيل متعلقة بحيثيات ذلك الخوف، بحيث لا يكون بوسعي لملمة شتاتها في الحديث معك ولو جزئياً. وإنني إذ أحاول هنا أن أجيبك خطياً، فإن كل ما أقوم به لن يكون سوى محاولة مبتورة، وذلك لأن الخوف وتبعاته يصدانني عنك حتى في الكتابة، ولأن جسامة الموضوع تتعدى نطاق ذاكرتي وإدراكي». أمام اللجوء أو الهروب إلى الأم الحاضنة والحنونة وملاذ «التواطؤات» الجميلة، كيف يستحضر مبدعونا المغاربة صورة الأب، وهل تختلف نظرتهم إلى هذه السلطة الرمزية التي ارتبطت بالصرامة والتحكم؟ كيف دبروا هذه العلاقة التي تلتبس فيها العواطف بين خوف واحترام، بين حب أو كره، بين تقديس وقتل؟ “أنا يوسف يا أبي إخوتي لا يحبونني” يقولون لي إنه غاب الى حيث العصافير لا تعود، لكنني لا أصدق. هم لا يرون كيف تتسلل كل ليلة الى ليلي تقص حكايا ظل بابها مواربا، وتَعِدُني بتتمة الحكاية في الليلة القادمة .. هم لا يسمعون قهقهاتنا ولا يثيرهم عبق النعناع ونحن نحتسي كؤوس الشاي ب”رُزّتِه” التي تشبه زبد البحر كما كنتَ ولازلتَ، تحبها. أما أنا فلازلت أحافظ للأماسي على دفئها، وأنتظر كل ليلة شتوية حديثك وأنت تخرج الحكاية تلو الحكاية من جراب النسيان… حكايات عن الجدة التي رفضت كل من تقدموا لها بعد وفاة الوالد من أجل أبنائها، عن نوادر “الْمُحْضرة” زملائك في زوايا طلب العلم.. عن تنقلاتك بين المدن والمداشر طلبا للعلم عند مشايخ الفقه.. عن بردة البوصيري وألفية ابن مالك والجفرية وحكم وأمثال عبد الرحمان المجذوب …عن ترتيب “المنازْل” وأحوالها …عن المتصوفة وكراماتهم وعن شجرة العائلة التي حملها الريح من جبل العلم مولاي عبد السلام بن مشيش الى عين مزكلة بالحوزية… أبي، يكسرني الغياب كلما تكثّف أكثر، صار حضورك أكبر أذكر يا أبي عادتنا بعد صلاة كل مغرب، ونحن نقرأ القرآن في متجرك ومازلت ابنة التسع والعشر سنوات، الى أن يحين موعد العشاء وحديثك عن المساواة بين البشر قبل أن يتسلل إلي زيف كل الشعارات، ويعذبني وعيي الشقي الذي استشعر الحرمان في عيون الآخرين قبل أن أجربه بصنوف شتى، فكنتَ كلما زرتَ فقيه المسيد “سي عبد السلام” من أجل حلاقة ذقنك، كان يأمر ابنته بإعداد الشاي والخبز والزيت لك ويطلب مني، دونا عن باقي الأطفال، أن أقاسمكم الأكل فيما عيونهم الجائعة تنظر من خلف الألواح الممهورة ب”السماق” ، فوعيت مبكرا معنى الحرمان والمحسوبية وأنا طفلة بعدُ قبل أن يلازمني هذا الالتزام تجاه الآخرين طيلة حياتي وأنا مدينة لك بهذا ما حييتُ. كثيرا ما كنت تناديني “سي حفيظ” وكنت أتبرم من ذلك وأغضب قبل أن أستوعب أن الرجولة، كما المروءة، صفةٌ وليست وصفا، فلم يعد يغيظني الاسم. كم كان فرحك شاسعا وأنت تتصفح نتيجة امتحاناتي.كنت أحس بنبضات قلبك المتسارعة وأنت تسأل بعينيك قبل لسانك، باحثا عن خانة الرتبة في نتيجة كل دورة: هل خذلني سي حفيظ هذه المرة؟ قبل أن تنفرج أساريرك وأنت ترى الحرف( أ ) أسفل النتيجة، فأشد الرحال بخيالي ليلا قبل أن تشرق شمس الصباح لأنني أعلم أنك ستصحبني في الغد الى السوق الأسبوعي لأشتري ملابس جديدة أو ما يحلو لك أن تسميه سروال “الدانكري” غير عابئ بوصايا أمي أو كلام الناس عن ابنة الفقيه التي تلبس الجينز والقميص وتذهب الى المخيم وإلى دار الشباب لأنك كنت تمنحنا، نحن البنات، ثقتك قبل الحرية فتعَلَّمْنا معنى الحرية المسؤولة. أحببت فيك الرجل التقي ، الثقة، المسامح، الحنون، رجل الدعابة والوقار في آنٍ، الفقيه التقدمي الحداثي الذي أصر منذ الستينات على تعليم بناته، الرجل الكريم المضياف، الذي لايترك عابر السبيل دون أن يطعمه خصوصا المرضى القادمين الى المستوصف القريب من بيتنا من مسافات بعيدة، والأطفال المارين الى المدرسة بجوارنا ممن لا يملكون ثمن قطعة حلوى، أحببت الرجل الذي يتفقد كل صباح جرة الماء أمام متجره حتى لا تنضب، والتي وضعتها خصيصا للعطاشى العابرين… ولَعَك بالأخبار ومذياعك الصغير الذي تطل منه على كل فنون العالم…. أحببت كل هذه الصفات قبل الأب لأن صفة الأب أمام كل الصفات الأخرى، كانت قيمة مضافة تشعرني بالفخر بأنني ابنة الفقيه سي لحسن مول الحانوت. وأنت تستقل قارب الرحيل، شاهرا الراية البيضاء في وجه الحياة تمنيتُ لو أعدنا قصة يوسف ..لو أخذ إخوتي قميصي وألقوه على وجهك فترتد إليك الحياة وتقول قولا جميلا. لكنك كنت تنظر الى السماء كأنك تنافسها بزرقة عينيك ولم تلتفتْ، كنت تلاحق العصافير الى هناك قبل أن تسرقك شمس المغيب وتلسعني عقارب الرحيل فكيف ترحل وتترك نهري وحيدا تترك جرة الماء، وأطفال المدرسة وعابري السبيل هل حقا رحلت؟ ألن نحكي مجددا عن صندوق العجب؟ هل تذكر يا أبي صندوق العجب الذي طالما أوهمتني منذ طفولتي بأن بداخله أموال قارون وخاتم سليمان وكنوز بلقيس، وبأن هذا الكنز الثمين يحرسه ثعبان أسود؟ هل تتذكر كيف كنا نستفز أمي لتفتحه لنا، فيما هي تقسم بأغلظ الأيمان بأن به أثوابا من مكة وعطورا فقط وبعض الدريهمات. أتذكر خططنا أنا وأنت قبل العشاء للاستيلاء على مفتاحه من تحت وسادتها حين تخلد للنوم. عُدْ يا أبي، لقد فَتَحَتْهَ، لكن حين فتحته، لم أسأل عما به ولم يتملكني الفضول لرؤية الكنز، لأن الكنز الوحيد؛ كان قد سُرِق؛ … أنتَ يا أبي.